حذار: ثورة الكرامة لم تبُح بعدُ برسالتها الدينية
بقلم/ محمد الحمّار
نشر منذ: 13 سنة و 10 أشهر و 7 أيام
السبت 22 يناير-كانون الثاني 2011 08:30 م

كان "حديث المفكرين" الذي بثته قناة حنبعل ليلة 20-1-2011 من أرقى ما تابعتُ من أحاديث منذ عقدين من الزمن.

لكن، ودون أن أدخل في التفاصيل، أقول إنّ ذلك الحديث، رغم أناقته ومستواه الراقي ودقة التحليل فيه، يبقى غير مُجد ٍ من الناحية الاستراتيجية. فهو مُفيد فقط من الناحية الإجرائية والأداتية دون سواها. وهل مشكلة المجتمع التونسي الحقيقية اليوم تتلخص فقط في أنّ المجتمع تعوزه الإجراءات الجريئة التي تدعّم ثورته؟

كان الحديث غير مُجدٍ لأنّ، لكي يكون كذلك، كان الأحرى أن يكون مرتبطا ولو بخيط واحد، مهما كان رقيقا، بالإيمان التوحيدي الشعبي العميق.

وبالرغم من الروح الحقوقية والوطنية والملتزمة التي جرى بفضلها الحوار بين ثلة من خيرة أدبائنا ومناضلينا، إلاّ أنّ شبح الهوس الاقتصادي والحسابي والمحاسباتي كان يخيّم على الجلسة. والحال أنّ شعب تونس في غالبيته مؤمن و سئم مَن يحلل واقع حياتيه فقط بلغة الحقوق والإجراءات الأمنية والقرارات الحكومية من دون بصيص من التأصيل الموضوعي في التربة الإيمانية .

كما أنه صار من الصعب، بعد "ثورة الكرامة" (والاسم من اقتراح أحد المتحدثين، الأستاذ صافي سعيد)، في اعتقادي، أن تقنع الشعب التونسي بحديث يقتصر على لغة الأرقام والملايين و الدنانير، والكلام عن آلاف الأطنان وعن العائدات وعن عشرات المصانع وعن مئات المدارس وعن رؤوس البقر وعن قطعان الغنم، وما إلى ذلك، لا لأنه جاهل بالفائدة من وراء الاقتصاد، لكن لأن لا شيء آخر يُعرَض له، عدا تلك الطفرات من الحديث الحقوقي والتتحرري من جهة، والإنشاءات حول الاقتصاد والحساب والمحاسبة.

والمشكلة أن لا شيء غير ذلك تقدمه النخبة المثقفة (إن وجدت؛ ومؤشر وجودها، عندي، فعاليتها) لتغذية عقل الشعب وروحة. حتى وإن أصغى المشاهدون من بين هذا الشعب الأبيّ إلى مفكريه بكل عناية، مثلما فعلتُ، وحتى وإن كان هؤلاء الخبراء المتحاورين من خيرة من أنجبت تونس، ومن النفر الذين كانوا من المغضوب عليهم ومن الملعونين من طرف النظام المخلوع، فإنّ هذا الشعب يريد مَن يخاطب إيمانه العفوي والتلقائي.

ولكن، وأكثر من "لكن"، هنالك مفارقة خطيرة إلى أقصى الحدود: لا ييأس الشعب من لغة الأرقام والماديات والحسيات إلاّ لمّا يكون في أزمة، مثل التي نعيشها اليوم؛ وكلما يأس الشعب من تلك اللغة المحنطة إلاّ و لجأ إلى ملاذ البُعد الروحي، ولا يلقاه إلاّ في التيارات الدينية المُسيّسة. وأكبر دليل على ذلك ماحدث أثناء أزمة شيخوخة الحكم (الرئيس بورقيبة) في الثمانينات، أيان ولدت وازدهرت "حركة الاتجاه الإسلامي" آنذاك، "النهضة" حاليا.

والخطر لا يكمن تحديدا في اللجوء إلى الملاذ الديني بحدّ ذاته وإنما في غياب الإحساس بهذه الحاجة الروحية من الوعي تماما، ما يجعل المجتمع مُزودا لنفسه أولا و للملاحظين ثانيا بصورة عن نفسه على أفضل ما تكون الصور من الحداثة والعلمانية.

أمّا أسباب هذا الفصام (وهو كذلك، وهو ليس حكرا على شعب تونس) فهي عديدة لكنها تتلخص في غياب التأصيل اللازم للحداثة في الثقافة الأهلية، وهي إسلامية بالأساس. أمّا طريقة علاج الفصام مجرّد الإشارة إليه يلزم الباحث المعالِج بأن يقع في ورطة تواصلية مستعصية إلى أبعد الحدود حيال المجتمع المعني بالإصلاح. و هنا تندرج حادثة محمد البوعزيزي التي انقدحت على إثرها ثورة عارمة. وهذا الأمر يجعلني أتوقع أن تحدث من حين لآخر هزة قوية في النسيج العقادي للمجتمع(هزة من صنف "تأثير الفراشة" مثلما يحدث الآن من قطاع إلى آخر؛ فدور قطاع الدين آتٍ لا محالة). في انتظار ذلك سأحاول الغوص في عمق الحدث الثوري الرمزي "البوعزيزي" تحسبا لأية فوضى دينية تلح في الأفق، وبالتالي محاولة منّي للحث على التنظيم العقائدي الذاتي، للفرد وللمجموعة من الآن ومن هنا.

وفي هذا السياق أعتبر أنّ الشهيد كان مؤمنا في الصميم وأنه لم يكن ينوي قتل نفسه، إذ يعلم كما يعلم كل مؤمن أنّ الخالق قد حرّم الانتحار، إلاّ أنه أقدم على صنيعه لأنه يئس من إمكانية التعبير عن وضع اجتماعي تعيس، بلُغة يفهمها كل المؤمنين من أمثاله وأمثالي، وحتى غير المؤمنين. وليست اللغة المنشودة لغة الكتب المسفرة ولا لغة المخطوطات ولا لغة الدين المقروء بغير تدبّر. إنما هي لغة الدين المحفوظ في الصدور، لغة الإيمان العميق، لغة الإرادة الربانية و الكلام الرباني والفعل الرباني المجسم في إرادة الإنسان وفي كلامه وفي فعله.

و اللغة التي كانت حاضرة في البيئة الاجتماعية العامة للبوعزيزي  لغة الأرقام وإيديولوجيا السياسة.وكانت لغة التبليغ التي أرادها البوعزيزي غائبة. فاختار البوعزيزي التبليغ بالمحروقات وبالحرق؛ وكانت "لغة" مُبالِغة ومُبالغا فيها؛ وكان الفعلُ بليغا وبالغا ومُبلّغا.

وعِلم النفس يؤكد تطابق الشكل الذي تخلص البوعزيزي بواسطته من نفسه، مع الغاية التي أراد بلوغها من خلال الحدث. يفسر الأخصائي التونسي في علم النفس السيد محجوب (في حصة تلفزيونية قبل ثلاثة أيام) أنّ الحارق نفسه "يريد أن يبلغ رسالة". كما أنّ أخصائيا آخر من أمريكا (في تقرير نشره موقع سي آن آن آن هذه الأيام) يؤكد أنّ الذي يشعل جسمه "يطلب التعويض".

فلنرَ ماذا عسى أن يكون تتمة لـ"رسالة" البوعزيزي وما هو صنف التعويض الذي تطالب به هذه الرسالة.

إنّ البوعزيزي المؤمن سئم الجوع والفاقة، ولكن أيضا سئم فقدان مناخ الحريه الذي من شأنه أن يؤمّن له ولكافة المحرومين، وهم في غالبيتهم مؤمنون أيضا، لقمة العيش. وعبّر البوعزيزي عن ذلك كما لم يعبّر عنه أحدٌ في كتاب أو في دراسة. كأني بالبوعزيزي يقول وهو على شفى حفرة من الفناء:

"ها أنا حارق نفسي رافضا هذا العالم الجهنمي. عوّضوا للمجتمع المحترق ما أخذتموه منه بالحيلة وبالقوة وبضحالة الفكر. رُدّوا للفرد وسيلة التعبير عن نفسه كإنسان مؤمن لا كمؤمن بلا عقل. إلاّ فسيعجز عن تغيير هذا العالم.

فلن يكون التونسي المؤمن قادرا من هنا فصاعدا على إيقاف سرقة السارقين ولا على صدّ إجرام المجرمين قبل ذلك الوقت الذي يتحقق فيه ما أنا بسببه مُقدم ٌ على إضرام النار في جسمي. أسألكم أن لا تتواكلوا فتوكِلوا مُهمة التفكير لإنسيّ آخر يفكرُ بالنيابة عنكم؛ يكفي أنّ الله تكلم بعدُ؛ لكن لا يرضيني أن تحرموا أنفسكم من أن يفكر كل واحد منكم أصالة عن نفسه، معبرين عن كلم الله وعن إرادة الله من خلال كلامكم، فكلامكم إسلام."

وكأني بالبوعزيزي مستمرٌّ في التعبير عن الفاقة المُدقعة في الفكر الديني الإنساني بإعلان سيشهد له به التاريخ قائلا:

"ولا أراكم ناجين من ملاذ إضرام النار في أنفسكم بغير ذلك المنهاج. وها أنا أجسّد أمام أعينكم ما في وِسعي أن أنجزه لأذكّركم بأنكم شعب في غالبيته مؤمن، وبأنكم كأي شعب مؤمن آخر، تدركون أنّ التعويض عن الفناء الفكري لازم الآن وهنا وانطلاقا من هنا."

رحم الله البوعزيزي وسائر شهداء ثورة الكرامة. أمّا العبرة من كل ما حدث أنّ الذي أودى بحياة البوعزيزي وبحياة الآخرين لن يودي بحياة الثورة التي اندلعت بسببه.

لماذا، لأن من جهة، هنالك الملايين من البوعزيزي الذين ، لئن لم يبلغ بهم الأسى حدّ إضرام النار في أجسامهم، فقد أضرمُوها في عقولهم من قبل، منذ أن بدأت عروق شجرة الزقوم تنبت من أولى بذور الشر.

  و الذي أودى بحياة البوعزيزي وبحياة الآخرين لن يودي بحياة ثورة ورثة البوعزيزي. لماذا، لأنّ من جهة أخرى سيلتحق بنا كل من أراد القبض على المجرم الأصلي، والمسك بناصيته، ومن ثمّ إحالة العقل الضالع في توليد ملايين النسخ من الرمز البوعزيزي، والضالع في توزيعها بعد استنساخها في كامل بلاد العرب والمسلمين، على القضاء التحفظي، في انتظار محاكمته بالعدل.

وهل من مُحاسب عادل للعقل المنتج لفكر الفساد غير الشعب المؤمن؟ وهل من مُحامٍ للعقل وهل من قاضٍ مُعلن عن الحكم النهائي غير الشعب المؤمن؟

*مؤسس "الاجتهاد الثالث"