آخر الاخبار
باي باي عولمة
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 15 سنة و 8 أشهر و 28 يوماً
الخميس 26 مارس - آذار 2009 07:04 ص

لا أقصد من العنوان أعلاه أن العولمة كانت حيّة، ثم ماتت. لا أبداً. فهي منذ بداياتها كانت مجرد كذبة وشعارخادع لأغراض أمريكية بالدرجة الأولى. وعندما انكشف أمر الأمريكيين اقتصادياً، وظهرت فضائحهم المالية، ذاب الثلج وبان المرج... فــُضح أمر العولمة المزعومة.

نحن نعرف أن المستعمرين على مدى التاريخ كانوا يحاولون تغليف أغراضهم الاستعمارية بشعارات براقة لكنها مزيفة، فكلنا يتذكر كيف جاء نابليون إلى مصر حاملاً نسخة من القرآن الكريم ليخدع المصريين، ويبطل مقاومتهم لحملته. لكنه فشل، وظهرت نواياه الحقيقية وموقفه الساقط من الإسلام والمسلمين عندما داست حوافر خيوله عتبات الجامع الأزهر.

وكان الأوروبيون دائماً يبررون غزواتهم واستعمارهم لبلدان أفريقيا وآسيا بأنهم جاءوا لنشر الحضارة والتقدم في ربوع تلك البلدان المتخلفة، على اعتبار أن ذلك من أعباء الرجل الأبيض.

وقد قال الجنود الفرنسيون لأحد شيوخ القبائل الجزائريين: »إن القوات الفرنسية جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة في ربوع الجزائر«، فرد رداً مقتضباً عميق الدلالة. قال: »إذن لماذا أحضروا كل هذا البارود؟«.

- وصلت جحافل الجنرال البريطاني ستانلي مود إلى العراق عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر ألقى بجموع العراقيين خطبة عصماء أخبرهم فيها بأن قواته »تكبدت مشاقاً هائلة من أجل الوصول إلى بلاد الرافدين كي تحررها من ربقة العثمانيين المتخلفين، وتنشر الحضارة والرفاهية في ربوعها«. لكن رئيس الوزراء البريطاني الشهير وينستون تشيرتشل لم يتردد بعد ثلاث سنوات فقط في ضرب المقاومين العراقيين بغازات الخردل المحظورة دولياً. ولم يكن العراقيون ليصدقوا أكاذيب الجنرال ستانلي »الخيرية« أصلاً، والدليل على ذلك أنهم قاوموه بضراوتهم التاريخية المعهودة، وأردوه قتيلاً، ومازال قبره موجوداً في العراق.

طبعاً الأمريكيون ليسوا استثناء في عملية تجميل الاستعمار، فقد ألقى وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد بياناً قبيل الغزو الأمريكي للعراق، يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن بيان ستانلي مود الذي سبقه بثلاثة قرون. ولولا أنه وضع تاريخاً مختلفاً على بيانه، لظننا أن رامسفيلد سرق بيان ستانلي مود حرفياً.

وفيما كان يتذرع الأوروبيون بنشر الحضارة في ربوع البلدان التي كانوا يغزونها، ابتدع الأمريكيون ذريعة استعمارية جديدة في غزوهم للعراق سموها »تحقيق الديموقراطية وحقوق الإنسان«.

مع كل ذلك تبقى الأكاذيب الاستعمارية المشار إليها أعلاه صغيرة مقارنة بكذبة العولمة، فبينما كان المستعمر التقليدي يطلق كذبة واحدة من الأكاذيب المذكورة لاستعمار بلد بعينه، أطلق الأمريكيون قبل سنوات كذبة بحجم القوة الأمريكية وجبروتها، وسموها »العولمة«. ولم تكن تلك الكذبة الكبيرة سوى غطاء لـما يعرف بـ»الامبريالية العالمية«. فقد وجد مخططو الاستعمار الأمريكي الجديد أن عليهم تغيير الكود الاستعماري كي لا يلقى مقاومة كونية، فكانت »العولمة« التي زينوها بكثير من الفوائد المزعومة. لقد أراد الأمريكيون باختراعهم الاستعماري الجديد أن يستعمروا العالم بأكمله، لا دولة بعينها. والطريف في الأمر أن مفردة »عولمة« لا تختلف في معناها في التعريف المعجمي الانجليزي عن مفردة »شيوعية«، فالاثنتان تريدان بسط هيمنتهما على العالم أجمع، الأولى كانت عن طريق الاشتراكية، وفشلت، والثانية عن طريق الرأسمالية المتوحشة، وأيضاً فشلت.

قد يجادل البعض أن العالم استفاد كثيراً من مظاهر العولمة، حتى لو كانت ذات صبغة وأهداف أمريكية. ألم نستفد نحن العرب مثلاً من الانترنت، والأقمار الصناعية والانفتاح العالمي، أو ما يسمى بالقرية الكونية؟ بالطبع استفدنا. لكن الهدف من العولمة لم يكن من أجل سواد عيوننا بالدرجة الأولى، ولا من أجل سواد عيون بقية العالم. لقد جاءت الانترنت وثورة الاتصالات الدولية كبناء فوقي للنظام الرأسمالي الأمريكي الذي يريد أن يلتهم العالم. بعبارة أخرى، فإن الانترنت مثلاً لم تكن لتظهر لولا أن ما أسماه كارل ماركس بـ»البناء التحتي« الأمريكي كان بحاجة لها ولغيرها من الفتوحات التكنولوجية والاتصالية الجديدة كي تدعم هيمنته على العالم. أي أن ثورة الاتصالات كانت ضرورية جداً لإنجاز العولمة التي ابتكرتها أمريكا لأغراضها التجارية والاقتصادية والمالية العابرة للحدود والقارات في المقام الأول.

وليس صحيحاً أبداً أن أمريكا تركت العالم يستفيد من عولمة الاتصالات دون رقيب أو حسيب. ففي اللحظة التي وجدت فيها واشنطن أنها مهددة من ثورة الاتصالات كانت تتصدى للمتجاوزين حدودهم بقوة، فقامت على سبيل المثال بمنع بعض القنوات العربية مثل »الجزيرة الانجليزية« من دخول السوق الأمريكي تحت حجج وتبريرات واهية، ناهيك عن أنها منعت كل وسائل الإعلام الحرة من دخول العراق لتغطية مجازرها هناك. مع العلم أن العولمة تعني السموات المفتوحة للجميع، فلماذا أغلقتها؟ بعبارة أخرى، فإن أمريكا كانت تريد للعولمة أن تكون باتجاه واحد، فهي ترى أنه من حقها أن تنشر ثقافتها في كل أصقاع المعمورة، لكنها تستكثر على الآخرين أن يخترقوا أسوارها العالية جداً، فتمنعهم فوراً. وهل نسينا أن الغرب يستطيع أن يطرد أي قناة عربية عن الأقمار الصناعية الغربية عندما يرى فيها خطراً على ثقافته؟ ألم تطرد فرنسا قناة »المنار« اللبنانية من القمر الصناعي »هوت بيرد« بحجة مكافحة الإرهاب

حتى اقتصادياً لقد منعت أمريكا شركة إماراتية شهيرة لإدارة الموانئ البحرية من دخول السوق الأمريكي، مع العلم أن أسّ العولمة هو فتح الحدود لتدفق البضائع والخدمات بين دول العالم بحرية ويسر. لكن هنا أيضاً، فإن أمريكا ترى أن من حقها أن تغزو العالم اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، لكنها في الآن ذاته تمارس حمائية عزّ نظيرها مع الآخرين. بعبارة أخرى فهي تريد أن تحمي مجتمعها اقتصادياً.

لقد لجأت أمريكا إلى الحماية الاقتصادية وهي في عز قوتها لحماية نظامها الاقتصادي، فما بالك الآن وهي تترنح تحت ضربات الأزمة الاقتصادية التي هزت كيانها؟ إن أكثر ما تسمعه في الأوساط الاقتصادية الأمريكية هذه الأيام هو حماية الاقتصاد الأمريكي دون غيره. لهذا ترى الكثيرين من الاقتصاديين الأمريكيين يدعون إلى »شراء البضائع الأمريكية« دون غيرها. وهو انقلاب فظيع وخطير على فكرة العولمة من أساسها التي تقوم على التبادل الحر للبضائع دون قيد أو حد أو شرط. ألم يكذبوا علينا في السابق بأن العولمة جاءت لخير البشرية بأكملها؟ فلماذا عندما تدهور اقتصادهم ولم يعد قادراً على المنافسة راحوا يحمونه بأسنانهم، حتى لو أضر ذلك ببقية المستثمرين الأجانب؟ لماذا كانوا يحاربون الدول التي حاولت في السابق الذود عن اقتصادياتها في وجه الهجوم الأمريكي الاقتصادي الكاسح الذي كان يريد التهام ثروات الدول ومواردها وأسواقها تحت زعم العولمة؟

ألا نسمع في بريطانيا هذه الأيام أيضاً دعوات لطرد العمال الأوروبيين والأجانب ليحل محلهم العمال البريطانيون الذين فقدوا وظائفهم بسبب الأزمة الاقتصادية؟ هل يستقيم ذلك مع مبادئ العولمة المزعومة؟ أم إنه ينسفها من أساسها؟ ألا يتنافى أيضاً مع قوانين الاتحاد الأوروبي ناهيك عن العولمة العالمية؟ كل شيء أصبح الآن في مهب الريح حتى أوروبياً. فقد حذر رئيس وزراء المجر من أن يتسبب الركود الاقتصادي في تقسيم أوروبا، بحيث قد نشهد ظهور »ستار حديدي جديد« يقسم أوروبا إلى شطرين، مما يدق مسماراً آخر في نعش العولمة.

خدعنا الأمريكيون فقالوا: تعولموا، فصدقنا الكذبة، وتعولمنا. وعندما انهار اقتصادهم ولم يعودوا قادرين على غزو العالم واستعماره اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، راحوا ينكمشون، ويتقوقعون على أنفسهم، فضربوا بذلك عولمتهم المزعومة في صميمها

أليس من حق الجميع الآن أن يعيد بناء الحدود وتشييد الأسوار لحماية الثقافات والاقتصاديات المحلية أسوة بسادة العولمة الذين انكشفت كذبتهم، وبانت عورتهم؟