متى تستقل الدولة عن الحكومة في العالم العربي؟
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 16 سنة و أسبوع
الأحد 14 ديسمبر-كانون الأول 2008 06:25 م

متى ترتقي الدولة العربية بنفسها من حالة الأنا السفلى إلى حالة الأنا العليا؟ متى ترسم خطاً واضحاً بينها وبين الحكومة لتصبح دولة فعلاً بدلاً من كونها دولة وحكومة في آن معاً؟ ماذا يخسر الحاكم العربي لو فصل بين الدولة التي يتزعمها وبين الحكومة التي يعينها؟ أليس من مصلحة حاكم الدولة أن ينأى بنفسه بعيداً عن الحكومة؟ أليس من مصلحة الدولة والشعب معاً أن تمارس الدولة دور الأنا العليا على الحكومة المتمثلة بالأنا السفلى، فيصطلح أمر البلاد والعباد؟

قلما نجد فرقاً بين الدولة والسلطة أو الحكومة في البلدان العربية، فالدولة تحولت إلى سلطة، فخسرت دورها الأعلى، واغتصبت دور الحكومة، فأصبحت هي وحاكمها محط ازدراء الشعوب وقرفها. لماذا تريد الدولة العربية أن تدير كل شيء، حتى مصلحة الصرف الصحي؟ لماذا لا تنأى بنفسها بعيداً عن الجانب الخدمي من حياة البلاد والعباد؟ ماذا تربح عندما تدس أنفها في كل صغيرة وكبيرة؟ 

لماذا لا تكتفي بالتركيز على القضايا الكبرى والوزارات السيادية، وتمارس دور المراقبة من بعيد على أداء الحكومة، فتشعر الأخيرة أن هناك جهة تراقبها فعلاً، وتستطيع أن تصوّب مسارها، وتعاقبها فيما لو أخطأت؟ لماذا لا تمارس الدولة العربية على السلطة التنفيذية دور السلطة الرابعة على أقل تقدير، خاصة وأن السلطة الرابعة المتمثلة بوسائل الإعلام في بلادنا العربية لا محل لها من الإعراب، إلا ربما في محل مجرور؟

قد يقول قائل إن الكثير من الدول العربية يضع خطاً فاصلاً بين الدولة والحكومة، بدليل أن الرئيس أو الملك هو الذي يعين رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة، وهو الذي يقيلها، وحتى يعاقبها. وهذا صحيح من حيث الشكل. أما من حيث المضمون فقلما نجد فرقاً أو فاصلاً بين الحاكم ورئيس الوزراء، فالأخير محسوب على الحكام بطريقة أو بأخرى، ناهيك عن أن الوزراء في الحكومة مرتبطون في كثير من الدول بالدولة وأجهزتها والمتنفذين فيها، كعائلة الحاكم وأقاربه، فتضيع "الطاسة"، ويصبح التمييز بين الدولة والحكومة صعباً للغاية من وجهة نظر الشعوب.

فلو نظرنا إلى العديد من الجمهوريات والملكيات العربية لوجدنا مثلاً أن رئيس الوزراء هو ابن الدولة، لا بل جزء لا يتجزأ منها، فكيف في هذه الحالة أن تقوم الدولة بمراقبة نفسها، أو معاقبتها؟ إن الخط الفاصل بين الاثنين هنا معدوم. فحتى في الجمهوريات العربية التي تزعم أنها لا تقوم على الحكم الوراثي أو العائلي، يكون رئيس الوزراء مقرباً من الدولة إما نسباً أو حسباً. وحتى إذا لم يكن من عظام رقبة الدولة، فهو من أزلامها، أو عتلاتها، وبالتالي يصعب هنا مراقبته ومعاقبته لأنه "منها وفيها"، كما يقول المثل الشعبي.

فلو كان هناك فصل حقيقي بين الدولة والحكومة في العالم العربي، لبادر رأس الدولة المتمثل بالرئيس أو الملك إلى إطلاق العنان لوسائل الإعلام الرسمية في هذا الحالة التابعة للدولة كي تمارس دورها الطبيعي في المراقبة، وكي تلعب دور السلطة الرابعة فعلاً. لكنه لا يفعل، فكثيراً ما نرى أن الدولة العربية تعتبر أي هجوم إعلامي على الحكومة هجوماً عليها شخصياً. لماذا؟ لأن الفصل ليس قائماً بين الاثنتين. أي أن هناك تواطئاً مفضوحاً بين الدولة والحكومة، إن لم نقل دمجاً مُقرفاً.

لماذا مثلاً لا يستطيع صحفي أن يهاجم رئيس بلدية، ناهيك عن وزير في بعض الحكومات العربية؟ لأن حتى رئيس البلدية يكون مرتبطاً بأجهزة الدولة، وخاصة الأجهزة الأمنية، التي هي، في العالم العربي، عماد الدولة وحاميها الأول، كون الأخيرة لا تتمتع بأي شرعية شعبية. وكثيراً ما نرى أن بعض الوزراء والمحافظين في العالم العربي يتمتعون بسلطات هائلة، لا لشيء إلا لأنهم مقربون من الدولة، وهم بذلك لم يعودوا مجرد أفراد من أفراد الحكومة المخولة بخدمة الشعب، بل جزء لا يتجزأ من الدولة. وهو شيء غريب عجيب فعلاً، وقد لا يكون موجوداً في بلد غير البلاد العربية التي تلعب فيها المحسوبية دوراً عز نظيره في أي أمة أخرى.

بإمكان بعض رؤساء البلديات مثلاً في بعض الدول العربية أن يحولوا صحفياً إلى لحم مفروم فيما لو اقترب من عرينهم. كيف؟ بالاستنجاد بالأجهزة التي عينتهم، فيصبح رئيس البلدية والأقل منه قيمة ورتبة يضرب بسيف الدولة بدلاً من أن يكون مجرد خادم للدولة والشعب. لماذا؟ لأن الذين عينوه جعلوه جزءاً منهم، فأضروا بذلك بهيبة الدولة، وأساءوا إلى البلاد والعباد في آن معاً.

لا نطالب أبداً بالفصل بين السلطات المعمول بها في الدول الديموقراطية الحقيقية المحترمة، حيث تعرف كل سلطة حدودها، ولا تعتدي على السلطات الأخرى، بل نريد من الدولة العربية التي ظلت صامدة وممسكة بزمام الأمور رغم كل التحولات العالمية والكوارث والمآسي المحلية، نريد منها أن تترفع عن النزول إلى ملعب الحكومات، فهي، بالمفهوم الدستوري، أعلى وأسمى من أن تنحط بنفسها إلى الدرك الأسفل من شؤون الحكم. ولو كنت مكان الزعيم العربي، لتوقفت عن استخدام مصطلحات من قبيل "راعي الرياضة والرياضيين"، أو "راعي الفن والفنانين"، أو "راعي "|الفلاحة والفلاحين"، أو " راعي "الزبالة والزبالين"، فهذه الرعاية من مهام الحكومة، وليس من صلاحيات أو واجبات رئيس الدولة. فما الذي يجعل الحاكم العربي مشرفاً أو راعياً للطباخين مثلاً ؟ فليحترم نفسه، وليكن رأس دولة بدل أن يدس أنفه في أمور ليست من مقامه أصلاً.

وأعتقد أن الذين يصورون الزعيم العربي على أنه راعي كل شيء يسيئون إليه أيما إساءة، لأنهم يقحمونه في أشياء لا علاقة له بها. ولو كنت مكان أي زعيم عربي يصورونه على أنه يرعى الأرض وما عليها، لعاقبت كل من يزج باسمه ومكانته وصوره في كل مكان وزمان. ماذا يستفيد بعض الزعماء العرب عندما يعلق زبانيتهم صورهم في الشوارع وعلى السيارات وجدران المراحيض والحمامات؟ في الدول المحترمة يعلقون صورة الملكة أو الملك في المؤسسات الرسمية والحكومية، بينما نرى صور زعمائنا في الكثير من الدول العربية حتى على جدران الخمارات والحانات والمراقص والملاهي الليلية وأماكن الخلاء.

لا يضير الدولة العربية بشيء لو رسمت حداً فاصلاً بينها وبين السلطة التنفيذية. وأعتقد أن أول خطوة يجب أن تخطوها الدول العربية هو إطلاق العنان لوسائل الإعلام كي تمارس دورها الرقابي بحرية على الحكومة تحديداً. وليعلم الصحفيون أن الدولة خط أحمر، ولا نريد من أحد أن يقترب منها ومن رأسها، بشرط أن يكون ذلك الرأس سنداً للسلطة الرابعة يحميها من كلاب السلطة التنفيذية. ولا يتم ذلك إلا عندما تعزل الدولة نفسها تماماً عن الحكومة، وتتوقف عن التستر أو حماية هذا المحافظ، أو ذاك الوزير، أو ذاك الموظف، أو ذاك المدير. هل يعقل أن شخصاً مفترضاً أنه من الدرجة الخامسة في الحكومة، وليس في الدولة، في بعض الدول العربية، هل يعقل أن "يفعل السبعة وذمتها"، يسرق وينهب، ويرهب، ويعيث فساداً في البلاد، ويبقى على رأس عمله، أو ينعم بما نهب، وشفط بعد التقاعد، دون أن يستطيع أحد الإشارة إليه لمجرد أنه كان مقرباً من رئيس الدولة حسباً أو نسباً؟ ألا يسيء الزعيم إلى نفسه عندما يحمي موظفين حكوميين من هذه الطينة القميئة؟ أليست هيبة الحاكم أهم ألف مرة من حماية موظف حكومي حقير وسافل؟

لقد آن الأوان لأن تحترم الدولة العربية نفسها، وأن تطلق يد البرلمانات والصحافة لأن تكون حسيباً ورقيباً للحكومة. وهذا بالمناسبة يقوّي الدولة، ولا يضعفها، لا بل يجعلها أقرب إلى، إن لم نقل محبوبة ومحترمة من قبل الشعوب. فلتحتفظ الدول العربية ورؤوسها بكل امتيازاتها، ونحن نبارك لها بذلك، بشرط أن تحمينا من الحكومات، وتمارس دورها كأنا عليا.