طول الطريق يغيّر العادات*
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 16 سنة و 6 أشهر و 10 أيام
الثلاثاء 10 يونيو-حزيران 2008 10:22 م

التقينا في وسط القاهرة، في مطعم ماكدونالد. في هذه المطاعم ، لتفادي تهمة الغنى ويسر الحال، غالباً ما أكتفي بالآيسكريم، وأخترع مقولة أنسبها إلى شخص مجهول : لا تعطوا الرأسماليين أموالكم. وبهذا أوفّر لنفسي مشقة الإحراج أمام الأصدقاء الذين يقدرون – عادة – على تجاوز الآيسكريم إلى تصنيفات أخرى. هبّ الشاعر العراقي المعروف أسعد الغريري، الذي اعتمدت إحدى قصائده نشيداً وطنيّاً للعراق، الجديد، وغنى له كاظم الساهر " سلام عليك، على رافديك"، لمصافحتي. حيّاني بود وهو يقول لي : هل أنت من " يمانيّون في المنفى". ابتسمتُ وأنا أهز يده الضخمة : بل أنا من "منفيون في اليمنِ". في تلك اللحظة استطاع أغلب الزبائن أن يسمعوا ضحكة عالية لشخص وقور ..

 مرّ الوقتُ سريعاً، مع أنها لم تكن المرة الأولى التي ألتقيه فيها، فقد سبقَ أن اشتركنا – أنا وهو وآخرون- في ندوة شعرية لرابطة نون للثقافة والحوار، التي يجوز اعتباري أحد مؤسسيها لأنه لم يتب
ق منها في الوقت الحالي غير ثلاثة شعراء ، أنا أحدهم بطبيعة التكوين. في ختام تلك الندوة الشعرية ، علّق الغريري من على المنصّة : لا بد لهذه الأمسية من تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد ، يقصد الخنساء. واختار نجمةً للأمسية الشعرية. ويا للمصادفة لقد كانت شاعرة جميلة و ... فمها مرسوم كالعنقود، ضحكتها أنغام وورود ، والشعر الغجري .... إلخ، الله يذكرك بالخير يا عم عبد الحليم. وبطريقة ما قلتُ ساعتئذٍ أمام بعض الحاضرين: عندما أعلن المحكّمون فوز شاعرة متواضعة فنّيّاً على الشاعر اليوناني العظيم " باندار" لثلاث مرات متتاليات وكان عمره عشرين عاماً، فإنه قفز على المنصّة وصارح الحاضرين " من الطبيعي أن تفوز فهي أنثى والمحكّمون ذكورً" .. ثم بعد ذلك بعشرين عاماً، وهو مهاجر بعيداً عن أثينا، انتظر اليونانيون وصوله محتشدين بكل وسائل التعبير عن البهجة والقداسة، ونصبوا له في وسط أثينا تمثالاً ضخماً، ثم زعموا أن الآلهة بعثت طائراً صغيراً حط على فمه عندما كان صغيراً، ولقّنه الحكمة، كما يروي الأمريكي الشهير وول ديورانت في "قصة الحضارة". وهي نفس الدعاية التي تبنّتها الجماعة البشرية حول رموزها النبيلة في عديد أماكن على ظهر الكوكب، حتى على بعد خمسة كيلو مترات من بيتنا، أعني في "يفرُس" حيثُ ينام جسد الشيخ أحمد بن علوان.

لم يعد أسعد الغريري يتذكر أي شيء عن هذه الحكاية البعيدة، وبمستطاعه الآن أن ينكر حدوثها. وهو ما جعله يستطرد أمامي في الحديث حول مقولة الجواهري – الذي وصفه الغريري بأعظم الشعراء العرب منذ المتنبي- نامي جياع الشعب نامي ، حرستك آلهة الطعام.ِ ظل يستشهد بنصوص للبردوني ولشوقي، وعن قصد كان يتوقف عند البردّوني ثم يعود إلى الوراء، حيث يوجد الشعرُ كما كان يقول. كان تراثيّاً بصورة جميلة. بالتحديد : كان يتحدّث عن الفقراء في التراث الشعري، ويعتد بكتابه الجديد " أورام في الجسد الإسلامي" ويتوقع أن يبيع خمسة ملايين نسخة. بالطبع، كان يقول مثل هذا الكلام قبل شهر فقط من طلبه من دار النشر أن تسحب الكتاب من السوق بسبب تلقيه تهديدات بالتصفية الجسدية، بحسب تبريره.

بعد ذلك بشهرين، هاتفني ناشر كتاب الغريري. زرته في مقره، فأعطاني نسخةً من الكتاب، قائلاً : أرجو أن تقرأه في أقرب وقت وتعطيني ملاحظاتك. أريد أن أقيس ما ستلاحظه إلى ما سوّدته أنا عن الكتاب. وقبل أن أغادره بوقت قصير قال لي : لقد تأكّدت فعلاً من أن أسعد الغريري تعرّض لتهديد بالتصفية الجسدية من قبل مجموعات شيعية مسلّحة في العراق. قلتُ له : لكنه مقيم في مصر. فعلق على صوتي : لكن أهله في العراق. ومنذ اللحظة التي استلمتُ فيها الكتاب، وأنا أحاول أن أتذكر أين وضعته، في أي ركن من شقّتي، وأفشل في ذلك. يبدو أن الكتاب مهمٌ، بدليل مديح صاحبه له وثقته فيه، ونشوء قصّة مخيفة حوله. لكن حساسيتي من هكذا زوابع وفناجين تمنعني من أن أقرأ الكتاب. فأنا لا زلتُ أتذكر تلك الطرفة الرشيقة التي أبداها شاعر يمني نصف مغمورعن شاعر يمني معروف في أدبار (خليها : في أعقاب ) القصة الشهيرة المتكررة عن تكفير صاحب الكتاب من قبل جماعة من الظلاميين وحرّاس المقابر. لقد علق نصف المغمور، وهو بالمناسبة شاعر يحمل صوتاً متميّزاً على نحو لافت، بالقول : من الواضح أن فلاناً يدفع رشوة مرموقة لرجال المنابر لأجل أن يكفّروه. وعندما غطس الجميع في سحابة من الضحك، تخوّفتُ من مشاركتهم لخمسة أسباب: الأول لأني كنتُ أتمرّن على تخزين القات، ولم تكن مهاراتي قد تطوّرت بما يكفي لأضحك وأقول تعليقاً كوميديّاً وأنا مخزن. أما السبب الخامس فلأني أحب الشاعر، إيّاه كثيراً وأعتقد أنه من أهم محترفي النص الجديد في اليمن. في الواقع، يبدو أني لم أعد أتذكر السبب الثاني والثالث والرابع لعدم اشتراكي في الضحك لحظتئذٍ، وهو ما سيتسبب في إصابتي باكتئاب خفيف كما ستكتشفون في الأسفل.

على كل حال، فهي وسيلة معروفة وطريق مأمون إلى النهاية، ودائماً ما تلجأ إليها الأسماء المعروفة حين تعاني من هبوط مفاجئ في معنى ما تقدّمه من إبداع. وفي الجانب الآخر يقوم الطيّبون قليلو الحيلة العقلية بتوفير خدمة مجّانية لهم بمطاردة وتكفير الكتاب وصاحب الكتاب، كما حدث مع رواية وليمة لأعشاب البحر في مصر ، بعد 15 سنة من نشرها لأول مرّة في دمشق. وكما حدث مع آيات سلمان رشدي الشيطانية، وهو الذي لا يبدو أنه كتباً شيئاً حقيقيّاً باستثناء " أطفال منتصف الليل" التي نال عنها جائزة بروكرا الإنجليزية عام 1981. وكما حدث مؤخّراً مع قصيدة " شرفة ليلى مراد" لحلمي سالم. أعني تلك القصيدة التي كانت مباشرة بدرجة مملّة ، على المستوى الفني، وصادمة على المستوى الاجتماعي. وكان سبب ثورة الناس ضدها هو انكشافها فنّيّاً، بحيث أمكن قراءتها دون الحاجة لترك احتمالات تأويلية للمجاز الذي كان أبعد ما يكون عن ذلك النص. ويبدو أنه جرى عليها القول الاجتماعي: إذا لم تكن قادراً على احترام ثقافة الناس ومعتقداتهم، اختلافهم عنك، فمن الأفضل أن لا تعيش بينهم. حدث بعد ذلك بأشهر أن منحت وزارة الثقافة صاحب القصيدة "جائزة الدولة للتفوق" كاستحقاق، ورد اعتبار، ومجاملة لحزب التجمّع، الذي يعد حلمي سالم أبرز قياداته، نظيراً للخدمة المجانية المفرطة التي يقدمها الحزب للحكومة، أقلّها موقفه الرافض لأي حوار مع جماعة الإخوان المسلمين، ووقوفه ضد أي فكرة لتشكيل جبهة سياسية معارضة يكون الإخوان مكوّناً أساسيّاً فيها. ودارت العربة الصدئة كعادتها في أي مجتمع مثقل بالماضي، وغائم عن المستقبل، لتحسم المحكمة قولتها في الدعوى التي تقدّم بها 120 شخصية مصرية ضد وزير الثقافة بسبب منح الشاعر هذه الجائزة. جاء في الدعوى أن الشعب المصري ينتظر من وزارة الثقافة أن تكون أمينة على ماله لا أن تدفعه لمن يستهين بثقافته ومعتقداته. وانتهى الأمر بقرار المحكمة إلزام الوزارة بسحب الجائزة من الشاعر.

وفي كل مرّة يتحوّل الكاتب المعترض عليه إلى عملاق، برومثيوس حامل الشعلة المقدّسة، في حين يبدو المناهضون له أشبه بمصاصي دماء، يخرجون من أدغال محاكم التفتيش. يتشكل هذا المشهد رغماً عن الحقيقة التي لخصها المثقف المصري المعروف د. جلال أمين (في كل مرّة أسمع فيها عن عمل إبداعي يثير لغطاً كثيراً أعلم يقيناً أنه عمل قليل القيمة الفنّية، فأنا لا يمكنني تصوّر أن يكون هناك عمل فنّي جميل لكنه قبيح ومستفز للمتلقي.) لقد كان المفكر المصري جمال البنا صريحاً حين قال : كل أعمالي التي تعرّضت للمصادرة طبعت أكثر من مرّة ونفدت نسخها بسرعة. إن لدي أعمالاً مهمّة لم تنل حظها من التوزيع ، أتمنى أن يقوم بعضهم بتكفيرها ومصادرتها، لكي يكتب لها حظ جديد في النشر. وبملاحظة مهمة تقول : في كل هوجة نكتشف أن أحداً من الثائرين لا يعرف أي شيء يذكر عن الكتاب أو الكاتب. وأبعد من ذلك، ففي استفتاء أجرته صحيفة مصرية مستقلة منذ أشهر تأكدَ أن جميع المثقفين المصريين المعروفين، باستثناء اسم واحد أو اثنين فقط، لم يقرأوا كتاب آيات شيطانية لسلمان رشدي، ومع ذلك فقد قيل في رشدي ما لم يقله مالك في الخمر، ولا الرئيس في المعارضة.

قبل أن أصل إلى نهاية كلامي هذا الصباح، أشعر برغبة في ترك هذه الإشارة: عندما قام الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل، سنة 1959م ، بنشر رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ على شكل حلقات في صحيفة الأهرام، قامت قيامة الدنيا. وفي العام 1963م التزم نجيب محفوظ أمام الرئيس عبد الناصر أنه لن يأذن بنشر الرواية إلا بموافقة الأخير. عبد الناصر كان يستجيب لرأي الشارع المصري، أولاً ، ثم للتقرير الذي قدمته لجنة دراسة الرواية برئاسة الشيخ محمد الغزالي. بعد ذلك بـ 31 عاماً قام الكاتب الإسلامي أحمد كمال أبو المجد بنشر مقال مكثف يمتدح فيه الرواية ويدافع عنها. وبعد 13 عاماً من كلام " أبو المجد" و" 44 سنة" من تقييم الغزالي للرواية، ونصيحته للرئيس عبد الناصر بمنعها من النشر، بادر المفكر الإسلامي الكبير محمد سليم العوّا بكتابة شهادة حسن سيرة وسلوك عن الرواية. لتصل رحلة الرواية إلى مرساها الأخير ، حيث نشرت عبر دار الشروق، بشهادة شاهدين ذوي عدلٍ من رجالنا، الأول أبو المجد، في المقدمة ، والثاني العوّا على الغلاف من الخلف.. وانتهى أمر الرواية هُنا. دائماً ما تنتهي هكذا حكايات بمثل هكذا نهايات مفاجئة، ومباغتة، تكشف سوء تاريخنا الحديث، وإلى أي مستوى كنّا سادجين وكهنة و ... قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس ..   وتشتي الدني ويحملوا شمسيه ، وانا بأيام الصحو محدا نطرني . الله يطوّل في عمرك يا ماما فيروز.

هل كان أسعد الغريري يتحدث منذ قليل عن قصيدة للجواهري؟

حسناً .. ربما كان يشير إلى هذه القصيدة ..

نامي
جياع الشعب نامي .. حرستك آلهة الطعام

نامي فإن لم تشبعي .. من يقظـة فمـن المنـام

نامي على زُبد الوعود .. يُداف في عسل الكلام

نامي على حُمة القنا .. نامي على حد
الحسـام

نامي الى يوم النشور.. ويـوم يُـؤْذن بالقيـام

نامي على مهد الأذى ..
وتوسدي خد الرُغـام

نامي فقد غنى إله الحـر... ب ألحـان السـلام

نامي كعهدك
بالكرى .. وبلطفه من عهد حـام

نامي وسيري في منامك .. ما استطعت الى الأمام

نامي
على تلك العظات .. الغر من ذاك الإمـام

يوصيك أن لا تطمعي .. من مال ربك في حطام

يوصيك أن تدعي المباهـج واللذائـذ للئـام

وتعوضي عن كل ذلك .. بالسجـود
وبالقيـام

نامي على الخطب الطِوال .. من الغطارفة العظام

نامي على البَرص
المبيٌض.. من سوادك والجُـذام

نامي فكف الله تغسل .. عنـك أدران السٌَقـام

نامي
فنومك خير ما .. حمل المؤرخ مـن وسـام

نامي تريحي الحاكمين .. من اشتبـاك والتحـام

نامي فجلدك لايطيق إذا .. صحا وقع السهـام

نامي وخلي الناهضيــ...ـن لوحدهم هدف
الروامي

نامي وخلي اللائميــ.. ـن فما يضيـرك ان تُلامـي

نامي يُرَح بمنامك
الز ... عمـاء مـن داء عُقـام

نامي على جور كما .. حُمِل الرضيع على الفطام

نامي
إليك تحيتي .. وعليـك نائمـة سلامـي.

هل تعتقد أن طول الطريق يمكن أن يغيّر عادات أولئك الذين لا ينبغي أن نتحدث عنهم؟

بالطبع. أظنه يفعل الآن.

مممم، أنت شديد التفاؤل. هذه الآفة قد تصيبك بالهلاوس

وأنت سوداوي كئيب، وهي آفة ستدخلك حتماً في عداد المصابين بالاكتئاب.

اخلع نظارتك البمبي.

وأنت .. اخلع نعليك. 

* العنوان من قصيدة لمحمود درويش.

* ينشر بالتزامن ع المصدر