تطهير العاصمة من الفقراء!
بقلم/ جمال جبران
نشر منذ: 16 سنة و 10 أشهر و 22 يوماً
الأحد 27 يناير-كانون الثاني 2008 09:48 م

(1)  

تكاثر عدد الفقراء على أرصفة العاصمة صنعاء كان دافعاً حاسماً لقيادة أمانة العاصمة كيما تخرج قراراً مجمداً ينام في إدراجها منذ العام 2005 . وهو القرار رقم (4) الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء بشأن إعادة تأهيل أسواق القات كما ورفع الأسواق العشوائية .

واعترف وزير الدولة وأمين العاصمة الدكتور يحي الشعيبي أن تزايد وتكاثر أعداد تلك الأسواق كان أمراً حاسماً في إصدار قرار من أجل تطبيق القرار السابق ذكره ( صحيفة الناس عدد 2112008) . وقد كان، كما تابعنا خلال الأسابيع الثلاثة الماضية ،تطبيقا صارماً لقرار تنفيذ القرار . جميل . لا ألذ ولا أحلى من تطبيق القانون وتنفيذ سلطة الدولة وفرض هيبتها . جميل جداً ، ولكن : كيف وبأي آلية ومتى وعلى مَن مِِن الناس يتم تطبيقه ؟ .

ينبغي التنويه بداية إلى أن إشكالية تكاثر وتزايد عدد الأسواق العشوائية تلك هي دلالة بينة على ارتفاع نسبة الفقر ، والفقر دلالة على فساد حاصل حيث لاتكافؤ فرص ولا مواطنة متساوية بدون توزيع عادل للثروات بين المواطنين .

بالتالي وعندما يبدأ التفكير في شن حملة هدفها بالأساس الاستجابة لتوجه فخامة رئيس الجمهورية الواضح في انه :" يجب تنظيف المدينة ( صنعاء) بالكامل ، بحيث يكون مظهرها مظهراً جمالياً أمام العالم ، باعتبارها عاصمة اليمن ..." ، وهذا بحسب كلام الشعيبي ( صحيفة السياسية الرسمية عدد 1712008) . بالتالي يجب البدء من النقطة الأساسية والمتمثلة في مكافحة ومعالجة الأسباب التي أدت لتكاثر هذه الظاهرة وذلك بالعودة إلى رأس المشكلة وهو الفساد الذي يعمل بلا كلل أو ملل وبوتيرة عالية في إنتاج كل هذا الفقر الذي بالنتيجة يدفع الناس إلى الأرصفة واتخاذهم منها مصدراً للرزق .

وعليه لايستقيم كلام مهدور من قبل مسؤولي أمانة العاصمة ويقول بانتهاك "جمالية العاصمة " في تزامن عبثي مع بدء حملات انتهاك مصائر البسطاء وكرامتهم وسفك ماء وجوههم تحت أقدام وأعقاب بنادق القوات التي شاركت بحماسة في حملات التطهير تلك . اعتقد أن تحسين وجه العاصمة لايستحق كل هذه الكلفة الإنسانية الباهظة . لايستحق مشاهدتنا لما حدث خلال الأسابيع الفائتة مع انطلاقة الشرارة الأولى لحملة أمانة العاصمة التطهيرية. مارأيناه وسمعنا عنه يؤكد هذا ويثبته . 

(2) 

ومع هذا، وقد قلنا عاليه ، بأهمية تطبيق القانون وفرض هيبة الدولة . لكن كيف لهذا الأمر أن يتم وعلى من وماهي التدابير التي اتخذت لتلافي تبعات ماقد ينتج عن هذا التطبيق المفاجئ له ؟ 

قالت الأمانة أن حملتها التطهيرية قد :" جاءت أساساً بعد فترة إعلان ثلاثة أيام بالميكروفونات في كل الشوارع " ( الشعيبي – الناس عدد 2112008) . يعني أن الأمانة ( وللأمانة )قد منحتهم مهلة ثلاثة أيام وبالميكرفونات ( لاحظوا وسيلة التبليغ التي تم اعتمادها ) وبعدها يكون قد أُعذر من أنذر .

وبعدها تكون انطلاقة التطهير بكل ما أُتيح ومالم يُتح من وسيلة ، دكّ المحلات بما تحتويه ، جرف وسحب البسطات وحملها كيفما اتفق على أطقم وقلابات القوات المتعطشة لتطهير العاصمة من التلوث الذي يسببه فقراؤها .

وعلى هذا مثال : الأربعاء الفائت جاء إلى " الثوري " محمد العفيف صاحب أحد الأكشاك التي تم انتهاكها في تلك الحملة وقال بامتلاكه كشكاً يقع في سوق مذبح ، المجاور للحي الذي أسكن فيه . هو يبيع الاكسسوارات وما إليها من بضائع استهلاكية . وفي توقيت لم يكن فيه متواجداً في محله وصله خبر يقول أن البلدية قد قامت بدّك الكشك الذي يملكه وبطريقة ممعنة في تدميره بحيث يستحيل استخدامه والانتفاع به مرة أخرى ( وهي طريقة تم تعميمها في معظم الحملات التطهيرية التي شنُت ). ذهب على الفور إلى المكان ليجد الكشك وقد تحول إلى كتلة حديدية متكومة فيما تناثرت بضاعته في الأرجاء وقد نُهب منها مانُهب . لا أحتاج هنا إلى كلمات عاطفية كبيرة حتى أصف حالة الرجل وهو يحكي عن موقفه وهو ينظر عاجزاً إلى مشروع حياته الذي لم يكمل بعد الشهرين من عمره والمؤسس عن طريق بيعه لكل مايملك وكذا استدانته مبلغاً كبيراً من المال حتى يبدأ مشروعه وحتى يضمن له ولأسرته دخلاً معقولاً يكفيه شر السؤال وحاجة الناس . لقد ضاع كل هذا في جوف جرافة أمانة العاصمة فيما بقت ديون التجار على ذمته وكذا مستقبل أسود ينتظره وأولاده بلاشك عند عتبة أيامهم القادمة . بين ليلة وضحاها انقلب حال محمد العفيف من تاجر بسيط إلى مشروع لص أو قاطع طريق محتمل . 

يبدو أن كل هذا لايهم مادام الهدف هو تحسين وجه العاصمة وإبراز مظهرها الحضاري ولابأس من أن يتم هذا على كرامة الناس ومستقبلهم ! 

" لم تستهدف (الحملات العسكرية ) بهذه الصرامة والغطرسة عصابة قطع طريق منعت ناقلات الغاز وجعلت سعر الدبة الغاز بلغت ألف ريال وغير متوفرة وجعلت معظم السكان بدون طعام ولم تستهدف هذه الحملة كبار مهربي البضائع بمختلف أنواعها بما فيها الغاز والديزل والأدوية الفاسدة ولم ولم ولم ...الخ " . من نداء عاجل من الباعة البساطين والمتجولين والمتضررين من حملات امانة العاصمة . 

(3) 

وعلى هذا أزيد . فإضافة إلى هدفهم النبيل والأسمى ، تحسين وجه العاصمة وحمايتها من التلوث الذي يحدثه فقراؤها ،هناك أسباب أخرى تقف وراء حملتهم . أولها : أن أصحاب تلك البسطات يبيعون بضائع فاسدة :" يبيعون مانسميه مخلفات المصانع .. مواد سيئة غير جيدة ليس فيها أي نوعية من الجودة وهي فقط مخلفات من مصانع العالم تورد إلى داخل العاصمة ..." ! (قال الشعيبي في حواره مع صحيفة الناس السابق ذكره) . ومع احترمنا لقلق أمين العاصمة حول صحة الناس البدنية نسأل : كيف تدخل مثل هكذا بضائع إلى البلد ؟ من التهريب . طيب . ولكن مافائدة هذا الجيش الجرار الذي يملكه الوطن ويسهر على مصالحه وأمنه ومن مهامه حماية حدوده البرية والبحرية ؟ ثم من هم الحيتان الكبار الذين يمتلكون قدرة اختراق حصون ذاك الجيش الجرار وهذا إذا ما أشرنا إلى استحالة قدرة الفقراء البسّاطين على مثل هكذا فعل ؟ . " إذا كانت بضاعتنا فاسدة كما يقولون فلماذا تدخل من المنافذ الرسمية ولا يعيدونها من حيث أتت .. هناك تجار كبار(حيتان) يدخلونها إلى السوق ونحن نشتريها ... ولم يتحرك أحد ساكناً من قبل ضد هذه البضائع ... فلماذا اليوم تثار هذه المسألة ؟ " (قال احد المتضررين في استطلاع لصحيفة الثورة الرسمية نشرته في عدد البارحة) . وهو نفس المواطن الذي يشير في ذات الاستطلاع إلى نقطة مهمة بخصوص تمكين أصحاب البسطات من عقود إيجار للأرصفة وبدون سندات قبض وهي ذات العقود التي صدر بشأنها محضر اجتماع في أمانة العاصمة بتاريخ 4122007 وفيه قرار ينص على ( إلغاء أي عقود تأجير للأرصفة تم إصدارها ... كونها مخالفة للقانون) !! لكن لماذا ، وبما أنها عقود مخالفة للقانون ، لماذا لاتتم محاسبة المسؤولين عن إصدارها ولماذا يتحمل الفقراء تبعات مخالفة الكبار للقانون . هل هم من القوة بحيث لايمكن لعقاب أن يطالهم أو ينال منهم ؟ 

أما آخر الأسباب أو أكثرها غرابة وهو مايمكن إدراجه في باب المضحك المبكي . تصوروا أن هذا السبب من الخطورة بمكان جعل التسريع في تنفيذ حملة تطهير العاصمة من الفقراء أمراً حتمياً فكما جاء على لسان وكيل أمانة العاصمة السيد الغربي عمران هو ( النغز) أي والله . تصوروا ، يقول الوكيل :" لقد تلقينا الكثير من الشكاوي من قبل النساء في الأسواق المزدحمة على الأرصفة ، فبعضهن لايعدن من السوق إلا وهن يقطرن دماً ممن (النغز)" !! ( من تصريح له في صحيفة الثورة الرسمية عدد البارحة ) . 

هل يحتاج مثل هكذا كلام إلى تعليق ؟ 

لا أعتقد . 

(4) 

لاتبدو الحكاية ، والحال هذه ، عصية على فهمنا لعشوائية وفداحة الأثر الذي خلفته حملة العشوائيات هذه . إذ تبدو مكافحة الفقراء وإبادتهم أبسط وأسهل من مكافحة الفساد وحيتانه الكبار . تبدو أسهل وأبسط حيث والفقراء يقفون دائماً في مساحة سهلة المنال تتيح قنص حياتهم بسهولة متناهية . لاتبدو الحكاية أبعد من هذه النقطة التي تُبيّن مدى العشوائية التي نعيش بداخلها وتحتاج وبشكل عاجل إلى معالجة لها ولكن عبر المرور من البوابة الرئيسية التي تمكننا الدخول إلى مكمن الداء ومصدره .

عبر امتلاكنا لشجاعة تتيح لنا الإشارة باتجاه العلة الرئيسية . حيث والقول الشائع يؤكد على استحالة حصول البلد على عافيته مادام الوجع مقيم وبهدوء بال على رأسه . 

Jimy34@hotmail.com