لن أقول وداعاً
بقلم/ سالم غصَّاب الزمانان
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 14 يوماً
الأحد 13 يونيو-حزيران 2010 01:38 م

لم يخطر ببالي أن السنين ستجري بهكذا سرعة، بل الأصح أنني لم أشعر بذلك في السابق حتى باشرت عملي في صنعاء، فحتى وقت قريب كنت أعرِّف نفسي للإخوة اليمنيين أنني سفير الكويت الجديد، أتذكَّر ذلك كأنه الأمس، واليوم أقول بقلب يعتصره الحزن إنني سأغادر اليمن قريباً لانتهاء مهمتي التي امتدت نحو عامين ونصف العام، وعمَّا قريب سيضاف إلى صفتي كلمة السابق، ثم الأسبق في اليمن.

لم أكن أتوقَّع أن أُغرم باليمن هكذا، في البداية كنت أعتبرها إحدى المحطات العابرة في حياتي الدبلوماسية التي أؤمن بمُسلَّماتها، وفي مقدمتها تغيير مكان الخدمة في أجل محدود، لكنني وجدتها محطة جدّ مختلفة أعدُّها الأهم بين المحطات التي خدمت بها في معظم القارات.

لم يكن في الحسبان أن أجد نفسي مشدوداً بهذا القدر للتفاعل مع مختلف القضايا اليمنية، سياسيةً كانت أو اقتصاديةً أو ثقافيةً أو اجتماعية، لم أكن أعلم أنني سأصبح يمنيّ الهوى، مع أن طبيعة عمل الدبلوماسي تفرض عليه أن لا يكون للعواطف مجالٌ في حياته، هذا ما لم أَقْوَ على السيطرة عليه هنا، فكل ما حولك يشدّك نحو العاطفة، ويولِّد فيك مشاعر حبّ جمَّة لهذا البلد وأهله الكرام.

لِمَ لا والجميع يبادلك هذه المشاعر، لِمَ لا وقد وجدت من التعاون وشدّ الأزر والمحبة والصداقة الكثير، ليس - فقط - على المستوى الرسمي، بل وعلى المستوى الشعبي، كيف لا أحبّ هذا البلد وأنا أعشق فنّه وتاريخه؟ ما الذي يحول دون الارتباط به، وأنا أجد شعباً عاشقاً للثقافة بإمكانك أن تخوض معه في حديث جادّ ونقاش موضوعي يثري المعرفة.

بطبيعة الحال، هي فترة عمل قصيرة لم تتعدَّ ثلاثين شهراً في بلدي الثاني، لكنها كانت - بالنسبة لي على الأقل - عُمراً بما اكتسبته من معارف وأخوَّة وأصدقاء، وبما لمسته من جميع اليمنيين الذين أحتكّ بهم من صدق المودّة وغزارة المعرفة ونقاء السريرة.

ولأن اليمن كان البلد العربي الأول الذي أعمل به منذ التحاقي بعملي في السلك الدبلوماسي منذ ما يزيد عن العقدين والنصف، فقد وجدته نموذجاً متميزاً وساحةً مهمةً للسفير والدبلوماسي الذي يرغب في أن يثري تجربته الدبلوماسية، وأن يحقق شيئاً ملموساً على صعيد عمله، الذي يعدّ هدفه الأسمى رعاية مصالح بلده فيه، وتعزيز علاقة البلدين.

وإنصافاً أقول إنني وجدت حكومةً متعاونةً تضع في أولوياتها تسهيل مهام الدبلوماسيين، ووجدت مسؤولين متجاوبين في كل القضايا، ووجدت إعلاماً راقياً بما يحمله الصحفيون من مسؤولية تجاه وطنهم وعلاقاته بالآخرين مهما بدوا متباينين في طريقة التعبير عن آرائهم، وجدت شعباً توَّاقاً للإخاء والتعاون، ويبالغ في تقدير واحترام الآخرين طالما لمس منهم ودَّاً واحتراماً.

بالنسبة للكويت يبدو الأمر مختلفاً بعض الشيء، فهي قصة حبّ يرويها كل اليمنيين الذين قابلتهم، فقد ارتبطوا بها كتاريخ وثقافة وتنمية بشرية، يرونها في المدرسة، والجامعة، والمستشفى، والثقافة، ومجلة «العربي»، و«عالم المعرفة»، والمسرح، والسينما، والفنون، والدان، وأحمد السقَّاف، والوحدة اليمنية، وشخصيات وقواسم مشتركة لا يتسع المقال لذكرها، وليس هذا ما أقوله أنا، بل إخواني وزملائي وأصدقائي محبّو الكويت.

لن أتحدث عمَّا تم تنفيذه خلال تلك الأشهر على المستوى الرسمي وحتى على المستوى الشخصي، وللآخرين الحق في تقييم ذلك، وأنا أثق بإنصافهم وأتقبَّل ملاحظاتهم مهما كانت، لكن أودّ أن أشير إلى أن العديد من الدبلوماسيين قد حذّروني قبل مجيئي إلى اليمن، من صعوبة العيش في صنعاء لارتفاعها نحو (2200) متر عن مستوى سطح البحر، وهو ما يسبب صعوبةً في التنفس ويعيق ممارسة الرياضة.

كانت هناك ملاحظات حول بعض مشاكل اليمن التي تحول دون الاستمتاع والراحة وقضاء فترات استجمام، لكن ما وجدته كان العكس من ذلك تماماً، لم يستغرق الأمر كثيراً من الوقت حتى وجدت نفسي مختلطاً في هذا المجتمع الإنساني المتميز بكل مكوناته الرسمية والسياسية والثقافية والاجتماعية والشعبية.

يجدر بي اليوم وأنا على وشك مغادرة اليمن إلى دولة أخرى، أن أردّ عليهم بأن مشاعر الإخاء وصدق الترحاب وجدّية التعاون الذي قُوبلتُ به قد تخطى الوصف، وتجاوز ما تعتقدونه صعوبة في التأقلم مع اليمن، مناخاً ومجتمعاً.

طبعاً لا يوجد بلد في العالم يمكن أن تصفه بـ «المدينة الفاضلة»، ولا يوجد بلد يخلو من الأزمات، وأعتقد أن الصعوبة التي يعتقد البعض بوجودها تأتي لأنهم لم يعرفوا اليمن، أو ربما لأنهم لا يحاولون معرفته على حقيقته، ولم يقتربوا بما يكفي من أهله الكرام الطيبين بصورة تمكّنهم من الحكم بعدالة على سجاياهم، سأعترف بالمبالغة هذه المرة وأقول إن دفء المشاعر الذي قُوبلتُ به قد يكون عوَّض نقص الأوكسجين في صنعاء بسبب الارتفاع، ذلك لأنك لا تجد ما يعكِّر صفو مزاجك إلا فيما ندر، ولا تجد في غمرة علاقاتك الاجتماعية ما يكفي من الوقت للتفكير في تلك الأمور.

ستبقى اليمن خالدةً في وجداني، وستكون إحدى وجهاتي المفضلة مستقبلاً بإذن اللَّه تعالى، زيارةً وشوقاً وسياحةً وصلة قُربى وحفظاً للودّ المتبادل وتعميقاً لحبٍّ تاريخيٍّ طالما ارتبط بنوايا صادقة بين البلدين.

لن أقول : وداعاً يا يمن، ولكن سأقول : إلى لقاء قريب، ومهما بعُدت المسافات الجغرافية، فإن حبّ اليمن سيبقى دائماً في قلبي وفي وجداني.

أجد نفسي وللمرة الأولى أخلط بين العواطف والأفكار، وأجد قلمي عاجزاً عن الإفاضة والإسهاب في المقال، في وقت تحتبس الدموع في العيون، حبَّاً وشوقاً وحزناً، وهذا لعمري هو الحبّ الذي سأحمله معي دائماً أينما ذهبت.

*نقلا عن صحيفة "الثورة".