حراك الجنوب: طهارة السلاح أو السقوط الأخلاقي 1-2
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 15 سنة و 5 أشهر و يوم واحد
الإثنين 20 يوليو-تموز 2009 09:52 م

مارب برس – خاص

للجميع الحق في أن يثوروا من أجل إنسان الوطن وليس ضده... ومن البديهي أن شرعية أي حراك تبدأ من نظافة الأساليب وطهارة السلاح، وذلك هو الخط الفاصل بين المجاهد الثائر وبين اللصوص ومارقي عصابات المافيا والإرهاب.

وللإنسان أن يحلم، وأن يبني تطلعاته وأن يعمل من أجل تحقيقها، ولكن عليه أن ينطلق دوماً من واقعه في قراءة متجردة قدر الإمكان لذلك الواقع، وأن يوظف سياسة توأمة العقل أو مايسمى برياضيات النضال.

... وما لاتحتمله أية حركة وطنية مهما كانت أهدافها، هو نسف اُسس شرعيتها عبر سقوط عواملها الإخلاقية، وإطلاق العنان لنوازع النفس الأمارة بالسوء أقصر الطرق لخنق اي حركة وليدة في مهدها.

الحقيقة أنني لا أفهم لعبة الحراك بعمق ... لكني أحس بها... وذلك يعني أنني هنا لا أبتعد كثيراً، حاولت أن اُغفلها الى حد الإختفاء، لكن تشريح جانبها الأخلاقي استحوذ عليّ... وسعيي إلى ذلك قد يؤدي إلى إستمطار اللعنات والشتائم من دعاة الإنفصال، لكن ردي الهادئ والطبيعي سوف يبقى دائماً أنه ليس في معاجم الشتيمة مايمكن أن يكفي لقذع من يتجرد من ذاته ويتخلى عن وطنه وأهله وعوراته.

- وما اكتبه اليوم لايسعى لتجاهل تلك الكومة من الأخطاء والظلم والتعسف الذي يرزح تحته الجنوب وأبناءه، ولا قفزاً على حقوقه، ولا إنتقاصاً من معاناته، ولا إدعاء قيم أخلاقية أعلى، وتلك ليست مواضيعنا اليوم أصلاً، ويجب أن يؤخذ ذلك في الحسبان.

بدايةً، لانحتاج إلى عبقرية لإعادة انتاج صراعات الجنوب بماضيه الذي يجعلني اردد لاإرادياً أبيات مطهر الإرياني "خلف سبعة بحور خلّي مهاجر ومهجور... كم تدور الدهور كم ينجرح قلب مقهور"،... لكن العبقرية هي في القدرة على رسم تلك الصورة الرمزية بما يثبت إفلاس النظام القائم الذي أوصل البلاد إلى نقطة تشعر كل غيور على سمعة بلاده بالخجل، حيث يكفي أن تقول لمستثمر أو صاحب كفاءة أو سائح: اليمن! حتى يولي الأدبار.

العبقرية هي إنتاج حراك مقاوم يخلص الشعب من ميوعة المعارضة التي عادة ما تنحرف بدون ثياب إلى فراش الحاكم عند أول غمزة غزل من طرفه... والعبقرية هي في إيقاض محافظات الشمال من سباتها العميق وإرشادها الطريق للخروج من ذلك التيه، فهي تئن مثل مثيلاتها في جنوب البلاد أيضا.

كنا نأمل ميلاد طائر فينيق جنوبي بكامل رمزيته الاسطورية ينبعث مجدداً من رماد الأحزان، حراك يناهض المحو والشطب والإلغاء، ويلتحم بالناس من المهرة حتى صعده... يدعو إلى تخليص البلاد من حالة الترهل ويمارس تشذيب ورقي اللغة والخطاب،... ويؤكد منهجية التسامح كقيمة سياسية وأخلاقية ثابتة، ويرسخ حقيقة أن الجنوب الذي قدم وصنع وضحى من أجل الوحدة لايزال يختزن روح الأمة، حيث لا رجعة عن وحدة الشعب والوطن، ولا خيار يعلو على المحافظة على أهم منجزاته، - وأعني هنا أن الوحدة هي من أهم منجزات الجنوب وأبناء الجنوب بالمقام الأول وبلا منازع. - حتى لو تم إختطاف روح الوحده لعقد أو عقدين من الزمن، ما المشكلة؟ -، فيصبح الحراك بذلك قريناً للروح الوطنية في خفتها وتساميها.

لكن وقائع الحال الذي فرحنا به بيّنت أن ذلك الأمل كان خاطئ تماماً، ومبكي في الواقع، كأننا أمام عطش متصل وخلاء لا يحده أفق، حيث أن أدبيات تلك التشكيلة الكيميائية، المعارضة المتعلقة بذيل الجنوب في الخارج وحراك الداخل بأهدافه ووقائعه - وهذا ليس تثريب - لم تذهب أبعد من فهلوة "شعللها وتحبل بحمار" كفلسفة... وكهدف على الأرض لايسعى سوى لبضعة براميل... وعلى مستوى الوقائع لم يقتفوا خطى حقب التحرير فحسب، بل سبقوه وذهبوا إلى ماهو أبعد... ذهبوا إلى مرحلة لا إنسانية قطعاً، تذكرنا بحماقات سحل البشر بموجب الهوية، وهذه المقارنة قلتها بألم وحسرة وكنت اُفضّل التغاضي عن ذكرها، علناً على الأقل.

ليس أفدح على المجتمع من التحول من سيئ إلى ماهو اسوأ، ولا التخلص من قائد "تنح" إلى قيادات "أتنح"، وفي سياق حكمة الإمام الشافعي "إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل"،... فالرهان على الفتنة بين المجتمع هو مشروع المفلسين... وقيادات الحراك التي لم تحدد لنفسها أهداف وطنية عظيمة تنسجم وأبجديات الناس، تستلهم أفئدتهم وتستدعي أفضل مكامنهم، وجدت نفسها مشغولة بأهداف ضئيلة وجد غير أخلاقية، في حدود إستهداف دائرة هامشية من الغلابة والمساكين وبسطاء الناس من الباعة المتجولين وأصحاب الدكاكين.

بصراحة، أشعر كغيري بخيبة كبرى من عدم إستلهام قيادات الحراك وعناصرها من الماضي القريب ولا من دروس التاريخ، ولا الإستفادة من تجارب الحاضر المعاش، - ولا أستطيع أن أفهم لماذا اسقطت عناصر الحراك مدارس النضال، كتاريخ "غيفارا" مع الواحد وثمانين مجاهداً ومقاتلاً ثورياً الذين حينما نقرأ عنهم نكاد نسمع صداهم وأصواتهم وقهقهاتهم... أولئك الفتية الذين آمنوا ذات يوم بأنهم قادرون على بنآء دولة واقامة نظام وطني نظيف ونجحوا في ذلك.

- نجحوا في ذلك لأنهم كانوا مستعدين للتضحية من أجل قضيتهم... ليس من أجل كسب في دنيا، ولا حتى مغفرة في آخرة... كان يحركهم "الحب"، كان ذلك بكل بساطته الغاية كما قالها "غيفارا" في موعظة مؤثرة، حب الوطن... و حب العدالة... وحب الناس... وحب المساكين والفقراء.

... وكما يحكى دياب أبو جهجه عن واقعهم، نجحوا في ذلك لأن غايتهم كانت نظيفة، حافظوا على نظافة أساليبهم وطهارة سلاحهم، فكانوا يعيشون بين القرويين يحمونهم ويطببونهم وكان من يسرق أو يعتدي على مدني من المقاتلين يعدم رمياً بالرصاص.

- لأن مسؤولية حامل السلاح ومسؤولية الثائر والمجاهد بنظرهم كانت أكبر من مسؤولية الإنسان العادي، وبالتالي فإن أخلاق الثائر والمجاهد عليها أن تتخطى تلك الأخلاق للإنسان العادي بدرجات.

لا أستطيع حقاً فهم تجاهل قيادات الحراك ومعارضة الخارج لفضائل تلك الصورة الرمزية والخطاب الأخلاقي وأثرهما الملموس الذي قد يتعثر بهما حتى الأعمى واللذان رسمهما قرار العفو العام غداة حرب ٩٤، وفي توقيت كان لايزال آنذاك غبار صواريخ سكود التي دكت أحياء صنعاء السكنية لم يهدأ بعد. بالتأكيد، فإن نبل تلك الأخلاقيات من قبل محارب منتصر ومقتدر على الإنتقام هي من أفحمت المعارض وأخرست العدو وعمدت النصر داخلياً وخارجياً... ولمن لم يتمرس بعد أو لايزال عنده ذرة شك في أبعاد وجدوى العامل الأخلاقي، عليه ان يدرك ان ذلك القرار أستطاع بجرة قلم شجاع تحويل كارثة وطنية كبرى إلى عرس قومي من المحيط إلى الخليج. - فكانت فعلاً ضربة معلم كما يقال.

يدعوني ذلك أيضاً الى التأمل في إمكانية السقوط الأخلاقي للطرف الآخر بالمقابل، ولا أحتاج لمن ينازعني مصداقية ما أتطرق إليه بإقرار عدد ممن عرفتهم في مواقع قيادية في سلّم الإشتراكي... - ولازلت أتذكر تلك اللحظات ونحن في جلسة تجلي ذات مساء ممطر بلندن، والحديث يدور عن الغبطة لعدم حصول ذلك السقوط، وعن ثقل وعبء ذلك التعهد الذي قطعه البعض في الحزب بتحويل جماجم البعض في صنعاء للإستخدام كطفايات سجائر!

بل يدفعني فضولي للتساؤل عن موقف عناصر الحراك في الجنوب لو كانوا في نفس مكان الرئيس صالح ونجله أحمد الذي جمعتني به جنباً إلى جنب مأدبة غداء خاصة وفي لقآء وحديث ودي خلال زيارة خاطفة لي من هونج كونج إلى صنعاء مؤخراً، وأنا القائل فيهم مالم يقوله مالك في الخمر - وحبر قلمي لم يجف بعد.

إن ذلك القدر المذهل من اظهار الصفح هي قيمة أخلاقية أيضاً، كنت اُدرك بأن الدهاء لم يغب لحظة، فكم من موقف لاتتفق معه يمكن بحكمة جني إيجابياته، وبما أنه كان مدعو إلى التخفيض من صوت وضجيج كتاباتي، فقد كتب بأخلاقياته على صوتها وبذلك سطر حبره الخاص على بياضها... فتجاوزه لما قلته لا يعني انمحاء ماكتبته أو إنعدامه، بل يعني إضماره ومن ثم تجليه سياسياً في صور تختلف عن الموضوع الأصل لتخدم في النهاية أهدافه، تظهره بأنه أقوى أخلاقياً بحكم تقبله للرأي الآخر وأجدر من غيره لسيادة أطياف المجتمع.

... ياترى أين يكون موقع الكاتب من الإعراب في لغة إخوة الحراك في المكلا أو لحج أو الضالع أو غيرها، لو كان المنقضين بذلك الأذى والسفك على حلواني القبّيطة وحانوت صاحب حُبيش وبسطة مساوك الوِصابي وعربية فواكه الرّيمي في موقع القوم من آل صالح؟... أترك الجواب للقارئ.

- ليس تزلفاً للرجل، والحق يقال بأن الرئيس صالح، - تحديداً في هذا الجانب بالذات -، أسس مدرسة بترفعه فوق الحدث بعدم الهبوط إلى مستوى متدني من التعامل مع الخصم السياسي، حتى أنه جعل بعض تابعيه يظهرون بشكل شاذ: ملكيين أكثر من الملك!

كم هو بسيط أحياناً قراءة مابين السطور، "دم الجنوبي على الجنوبي حرام!" ... تأملوا معي قلة شرف هذه الفتوى المنحرفة إذا جاز القول،... فتوى كاريكاتورية، وكأن ماعداه من دم حلال ومغذي ولذيذ ومفيد للصحة...، وهي في الوقت ذاته فتوى تكشف إستفحال وإستعصآء المرض، وتظهر بوضوح مدى كم هو دم الجنوبي مهدر ومباح ومستباح أيضا.

إذا كان ماندعيه من سوء قائم قد هزم الأمل وقتل أحلام البسطاء، فما الداعي للحديث عن حراك إذا لم يكن كالجسر تعبر أحلام وتطلعات الناس على ضلوعه المتراصة تراص البنيان الواحد إلى شواطئ التغيير وعهود الحلم القادم؟ ... وماذا يتبقى لأي حراك وطني عندما يصبح تجسيداً حياً لتلك الموسوعة من الأمراض الإجتماعية والثقافية والإقتصادية والنفسية؟

يحتاج كل حراك إلى ديناميكية سياسية ورياضيات نضال لبنآء زخم شعبي متواصل، مثل أمواج البحر التي ما تفتأ تتهدم بالجزْر كلما لامس المد اكتمالها، ... لذلك انتصر رفاق "غيفارا"، وهم من لم تدعمهم دولة اخرى ولم تقف وراءهم قوى،... انتصروا، لأنهم انتفضوا وهم صابرون على البلاء من أجل العدالة في الوطن وضد المفسدين والناهبين لثروات الشعب.

هدفهم الأول كان اقامة نظام وطني نظيف... نجحوا، لأنهم اتبعوا النصيحة الصادقة ووضعوا لأنفسهم منهجاً أخلاقياً واضحاً في الثورة، وكانوا حالمين عند الغضب، عافين عند المقدرة، فساندتهم الجماهير سراً وعلانية وتبنت أفكارهم وقدمت لهم العون وتمنت لهم النصر.

وهنا، بديهياً، تنطبق حكمة الإمام علي القائلة "انكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم"، وخاصة في ظل مواجهة غير متكافئة مع طرف يلعب دور بابا نويل، بل يجسده فعلاً، ففي الوقت الذي يقوم فيه بإسقاط اكياس حبلى بالنقود عبر مداخن البيوت، فهو يلعب في الوقت ذاته دور الأب الروحي للثوابت الوطنية والإلتزام الأخلاقي.

إن الحركة أو الحراك النضالي والسياسي مثل الوجود ذاته، يجب ان يظل كتلة حية متوهجة وسديمية، فما يدركه الناس من الوجود هو تلك الحدود التي ترسمها شرعية أهداف وأدبيات تلك الحركة، وأعلى صور تلك الحدود تظهر معاييرها الأخلاقية، تتجسد بحفر تلك المعايير لدى وعي الجماهير ووجدان المجتمعات ذات الصلة. فالعامل الأخلاقي الملموس مادياً لدى الجماهير هو الذي يرفد دائماً مناورات الحركة بالمصداقية والتعاطف ويحمّل مناوئي الحركة وزر أي عنف قد يطرأ.

*** يتبع في الجزء الثاني...

ملاحظة: دعوة للإستمتاع إلى القدير أبو جواس مع "لا أنا بدحباشي" شعراً وأغنية، بالتنزيل من الرابط التالي:

http://www.ola.tm/downloads/not-dehbashi.mp3