يقسّمون المقسّم فما بالك بالموّحد حديثاً: اليمن مثالاً
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 15 سنة و 7 أشهر و يوم واحد
الخميس 21 مايو 2009 08:24 ص

هل تصمد الوحدة اليمنية أمام موجة التقسيم والتفكيك العاتية التي تجتاح المنطقة العربية بطريقة منظمة ومعلنة؟ نرجو ذلك بكل جوارحنا. لكن لو نظرنا إلى حملة التحريض الخطيرة والمتصاعدة التي تستهدف تفتيت البلاد جنوباً وشمالاً، كما كان الوضع قبل الوحدة المجيدة، لرأينا أن المستقبل مكفهرّ.

وليس عندي أدنى شك أن تلك الحملة التي تقوم بها عناصر انفصالية مسعورة في الداخل والخارج ليست، بأي حال من الأحوال، لإحقاق الحق، وإسماع مظالمهم لحكام البلاد، كما يدّعون، وإنما هي جزء لا يتجزأ من استراتيجية التفكيك التي أعلنتها أمريكا، وبدأ تنفيذها على رؤوس الأشهاد في العراق، ومن ثم السودان. والحبل على الجرار.

إنهم يقسّمون المقسّم، ويجزّئون المجزّأ منذ عقود وعقود، فهل يُعقل أن يتركوا الموّحد منذ فترة قصيرة، كاليمن كتلة واحدة؟ بالطبع لا. فاليمن يشكل مثالاً وحدوياً عربياً عظيماً مهما كانت الملاحظات على النظام الحاكم وطريقة تعامله مع مكونات البلاد السياسية. لا بل إنه أكبر بكثير من الحجم الذي حددته »خارطة الدم« الأمريكية للكيانات والدويلات العربية المطلوبة. لهذا لابد من الاستعانة بطابور خامس يسهـّل للسايكس بيكيين الجدد عملية تفتيت اليمن، وتقطيع أوصاله، كما فعل (المعارضون) العملاء العراقيون الذين يتآمرون الآن مع الغزاة لتشطير العراق إلى دويلات مذهبية وطائفية وعرقية هزيلة.

إن التحركات الحالية محاولة شريرة لتصيّد أخطاء الوحدة ومصاعب ولادتها لاقتناص ذرائع للانقضاض عليها. ويبدو ذلك واضحاً للعيان في الحرب الالكترونية التي يشنّها البعض لإعادة شطر اليمن إلى شطرين. ولعل أكثر ما يثير الضحك في البيانات التي يصدرها بعض المعارضين أنهم يستهلونها بعد البسملة بالآية الكريمة »وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ«. ليتهم يستخدمون هذا القول الكريم لمجاهدة أعداء الأمة، لكنهم، وللمهزلة، يزبدون ويرغون ضد أخوتهم الذين يسمونهم »غزاة العصر«. وهو طبعاً أمر يبعث على الحزن والأسى أكثر من أي شيء آخر.

ولا أدري لماذا لم تتعلم المعارضة اليمنية التي تجأر بضرورة التقسيم من نظيرتها العراقية التي أصبحت مثالاً للغدر والخيانة وبيع الأوطان. ألم ير المعارضون اليمنيون ما حل بالعراق، وما حل بأحمد الجلبي وأمثاله؟ لقد تحالف هؤلاء مع الأمريكيين لتفكيك العراق وتمزيقه إرباً إرباً، وهذا ما حصل فعلاً، لكن تلك الأدوات التي ساهمت في مشروع التقسيم، أصبحت منبوذة لا حول ولا قوة لها، ولا يتذكرها العراقيون إلا باللعنات والشتائم. لكن، مع ذلك، يبدو أن بعض أنصار الانفصال يسيرون على خطا أسلافهم العراقيين. ولم يكن الاتهام الذى وجهه وزير الخارجية اليمنى أبو بكر القربى لبريطانيا قبل فترة بإيواء أمثال هؤلاء، إلا تأكيداً على محاولات إعادة تطبيق السيناريو العراقي على اليمن. فقد ذكر تقرير أمريكى لروبرت ماير من معهد نورث كارولاينا لدراسات الشرق الأوسط أن »واشنطن التقت بمعارضين يمنيين من أوروبا، وتلوح بفتح ملف التقسيم«. وهو مؤشر ينبغي على صنّاع الوحدة اليمنية التوقف عنده مليًّا.

كما ينبغي على المعنيين بالأمر أن يتذكروا »المخاطر المحدقة باليمن، بوصفه إحدى الحلقات الهامة في مشروع الفوضى الخلاقة الذي تعده الولايات المتحدة للمنطقة، وأن يتنبهوا إلى مخاطر تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية لبلادهم، والذي يهدف إلى تعزيز النزعة الانفصالية لدى جميع شعوب المنطقة، وتفتيت الدول القائمة إلى كيانات وكانتونات طائفية وعرقية وجهوية ومذهبية. وبحسب اليمنيين أن يدرسوا المشهد في كل من العراق ولبنان وغيرها ليستخلصوا منها العبر لكل من أراد أن يعتبر«.

ويرى كاتب آخر أن »الولايات المتحدة التي ضربت فوضويتها غير الخلاقة العراق، ومازالت، ووضعت البلد في أتون صراع طائفي وعرقي ومذهبي متعدد«، تحاول تكرار السيناريو ذاته في لبنان المهدد بالتقسيم إلى دويلات تحكمها الطائفية الدينية. ولا ننسى التدخل الأمريكي في السودان الذي »يسعى حثيثاً لفصل الشمال والغرب في مسعى واضح لكسر شوكة هذا البلد العربي وتفتيته... هذا الأمريكي بفوضويته لن يشفع عنده التعاون الفضفاض الذي تتيحه القيادة اليمنية كي يستثنيها من مخططه في تفتيت دول المنطقة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً«.

قد يقول البعض إن الذي يتآمر على وحدة اليمن ليس أمريكا والسايكس بيكيون الجدد فقط. وهذا صحيح مائة في المائة، لكنه يصبّ أصلاً في صالح مشروع التفتيت الأمريكي. ألم يتآمر بعض العرب الذين يتآمرون على وحدة اليمن، ألم يتآمروا من قبل على العراق والسودان لتمرير مشاريع التفكيك الأمريكية؟

أما بخصوص مطالب المعارضة اليمنية، فليس هناك أدنى شك بأن يمنيي الجنوب يعانون اقتصادياً وسياسياً، ويكابدون التفرقة السياسية، فالستون ألف عسكري وقيادي وموظف الذين أحيلوا إلى التقاعد المبكر هو بلا شك رقم كبير وخطير، كما يظهر من بيانات تلك الحملة الإعلامية الرهيبة التي يقوم بها بعض الانفصاليين اليمنيين في الخارج المروجين لفك عرى الوحدة، لكن هل أفكك بلداً دفع أثماناً باهظة كي يجمع أشلاءه المتناثرة من أجل تصحيح بعض المظالم الاقتصادية والاجتماعية. فلو أردنا أن نتبع نهج الانفصاليين اليمنيين لما بقيت قرية عربية على حالها، ولتفككت حتى القرى إلى حارات وزواريب. لهذا على المعارضة اليمنية أن تكف، ولو مؤقتاً، عن استغلال الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحالية لواحد من أفقر بلدان المنطقة والعالم من أجل ضرب وحدة البلاد وشرذمتها إلى ملل ونحل متصارعة. فالمعارضة وكل القوى المدنية مدعوة للحذر واليقظة من مخاطر التقسيم، ومدعوة كذلك للحذر من التعاون مع الخارج في مواجهة السلطة المركزية.

لكن هذا لا يعفي النظام الحاكم من المسؤولية أبداً، فليس المهم فقط أن نضع جموع الشعب اليمني تحت قبضتنا ثم نستريح على أحزانه وهمومه وآلامه. فالوحدة لها استحقاقاتها ومتطلباتها الكثيرة، فعلى الحكومة فتح صفحة جديدة مع الفئات التي ساهمت بشكل أو بآخر في ذلك الانقلاب، وتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الفئوية والحزبية الضيقة، كما ينبغي عليها أن تتلمس مواطن الفتن التي تأتي من قِبل من تظنهم حلفاءها المقربين، وماهم سوى متآمرين، كي تؤدها في مهدها.

إن اليمن اليوم يمر في مخاض خطير، وتتكالب عليه قوى داخلية وعربية وأمريكية بشكل مفضوح. طبعاً لن أناشد الأشقاء العرب أن يقفوا إلى جانبه، فحسبه أن يكتفي شرهم المستطير.

*نقلا عن الشروق أون لاين