ترامب يُحيي النكبة تحت مسمى السلام
بقلم/ فضل حنتوس
نشر منذ: يوم واحد و 9 ساعات و 40 دقيقة
الإثنين 27 يناير-كانون الثاني 2025 05:13 م
 

التصريح الذي أطلقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالدعوة إلى تهجير أبناء غزة لا يُمكن قراءته إلا ضمن سياق تاريخي طويل من السياسات الاستعمارية التي تستهدف تفكيك شعوب بأكملها، وإعادة تشكيل مصائرهم بما يخدم أجندات الهيمنة والقهر. هذا التصريح ليس مجرد كلام عابر، بل يُمثل تجديدًا صريحًا للنكبات التي ألمّت بالشعب الفلسطيني منذ عام 1948، حينما أُعلن المشروع الصهيوني عن نفسه بقوة السلاح وبدعم القوى الاستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة.

 

ما طرحه ترامب يُعيد إلى الأذهان تصريحًا مشابهًا صدر عن ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، عندما قال عام 1948 خلال تنفيذ خطة التطهير العرقي بحق الفلسطينيين: "الكبار سيموتون والصغار سينسون". تلك الكلمات، التي بُنيت عليها أسس المشروع الصهيوني، شكّلت الدعامة الأولى لتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين قسرًا، وتدمير أكثر من 500 قرية فلسطينية بهدف محو أي أثر للوجود الفلسطيني. اليوم، يأتي ترامب ليُكمل ذات الرواية، لكن هذه المرة بلسان القوة الأعظم التي تتشدّق بحماية حقوق الإنسان، وهي ذاتها التي تُعطي الضوء الأخضر لاستمرار الجرائم بحق شعب فلسطين.

 

إن دعوة ترامب إلى تهجير الفلسطينيين من غزة هي إعادة إنتاج للنكبة بشكل جديد، بأدوات تبدو أكثر حداثة لكنها لا تختلف في جوهرها عن تلك الجرائم التي ارتكبت بحق الفلسطينيين قبل سبعة عقود. عام 1948، حيث أُجبر الفلسطينيون على ترك منازلهم تحت التهديد بالمجازر، واليوم يُجبر أهل غزة على التفكير في الرحيل بفعل الحصار المميت ، والأوضاع الإنسانية التي تجاوزت كل حدود الوصف. الحصار، الذي ترعاه القوى العالمية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أصبح أداة للإبادة البطيئة، لتحويل غزة إلى جحيم لا يُطاق، ومن ثم إجبار أهلها على قبول التهجير كخيار وحيد للبقاء.

 

ولكن، أليس من المفارقة الكبرى أن تأتي هذه الدعوة من دولة تُقدّم نفسها على أنها حامية لحقوق الإنسان؟ أليست أمريكا هي التي نصّبت نفسها قاضيًا عالميًا يُحاسب الدول على أي انتهاك للحريات والعدالة؟ هنا يظهر الوجه الحقيقي للسياسة الأمريكية، تلك التي تدّعي العدل بينما تُعانق الطغيان. هذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها الولايات المتحدة شعاراتها اللامعة لتبرير جرائم ضد الإنسانية. ففي العراق، غزت أمريكا البلاد بحجة "تحريره من الدكتاتورية"، لكنها خلّفت وراءها مئات الآلاف من القتلى، ودولة محطّمة أصبحت مرتعًا للفوضى والصراعات. وفي فيتنام، قُتلت أجيال كاملة تحت ستار "حماية الديمقراطية". واليوم، نجد نفس المنطق يُستخدم لتبرير دعم الاحتلال الإسرائيلي، سواء بالمال أو السلاح أو الصمت.

 

إن دعوة ترامب لا تُعبّر فقط عن انحياز صارخ لإسرائيل، بل تكشف أيضًا عن استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. إن فكرة تهجير سكان غزة تعني تحويلهم إلى لاجئين بلا وطن، وتفكيك أواصرهم مع أرضهم، في محاولة لطمس الهوية الفلسطينية. هذا المنطق ذاته كان هو الذي دفع القوى الاستعمارية في الماضي إلى الترويج لفكرة أن فلسطين هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وكأن الفلسطينيين ليسوا إلا عائقًا أمام تحقيق المشروع الصهيوني.

 

إن ما يثير الفزع في هذا التصريح هو أنه لا يأتي في فراغ، بل يتزامن مع تصعيد غير مسبوق في السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. الاحتلال يسابق الزمن لفرض واقع جديد، يتمثل في توسيع المستوطنات، وتهويد القدس، وضم الأراضي. وكل هذا يتم بدعم أمريكي مطلق، سواء عبر قرارات مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو عبر تصريحات مثل تلك التي أطلقها ترامب مؤخرًا.

 

على الرغم من كل ذلك، يبقى الفلسطينيون صامدين، كما صمدوا في وجه النكبة عام 1948، وكما صمدوا في وجه النكسة عام 1967، وكما صمدوا أمام الحصار والدمار والحروب المتكررة. التاريخ يشهد أن كل محاولات التهجير والتطهير العرقي لم تنجح في محو الفلسطينيين من أرضهم، ولن تنجح اليوم. فغزة، التي تبدو اليوم وكأنها محاصرة بين نيران الاحتلال والتواطؤ الدولي، ستظل عصيّة على الانكسار، لأنها ليست مجرد مكان على الخريطة، بل هي رمز للصمود الإنساني في وجه الظلم.

 

إن هذا التصريح الذي صرح به ترامب لا يُمثل مجرد تهديد لغزة وحدها، بل هو تهديد لكل ما تبقى من قيم العدالة والإنسانية في هذا العالم. فالسكوت على هذا التصريح يعني القبول بمنطق القوة على حساب الحق، ويعني الموافقة على تحويل العالم إلى غابة تُدار بقوانين الطغاة. لكن مهما كان حجم المؤامرة، ستبقى فلسطين قضية لا تسقط بالتقادم، وستظل غزة شوكة في حلق الاحتلال، وشهادة حية على فشل كل من ظن أنه يستطيع أن يمحو شعبًا من الوجود.