التدخل' الامريكي و'الغضب' المصري
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 14 سنة و شهر و 7 أيام
السبت 20 نوفمبر-تشرين الثاني 2010 11:53 ص

في مصر ضجة هذه الايام، محورها التدخل الامريكي السافر في الشؤون الداخلية المصرية، من خلال مطالبتها، وعبر احد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الامريكية، بضرورة اجراء انتخابات حرة ونزيهة، في حضور مراقبين دوليين، والسماح بالتجمعات السياسية السلمية، وتغطية اعلامية جيدة لكل الاتجاهات.

من المفترض ان العلاقات المصرية الامريكية جيدة، وقوية، يسودها التنسيق في الشؤون الاستراتيجية الذي تدعمه الادارة الامريكية، بمساعدات سنوية، عسكرية واقتصادية، تصل قيمتها الى حوالى ملياري دولار، ولكن يبدو، ومن خلال الغضبة الرسمية المصرية التي تنعكس على شكل تصريحات غاضبة للمسؤولين المصريين، وهجمات اعلامية اكثر شراسة، ان هناك بوادر ازمة يمكن ان تتطور فيما هو قادم من ايام.

مسؤول في وزارة الخارجية قال 'ان المواقف الاخيرة للادارة الامريكية تجاه الشؤون الداخلية المصرية هي امر مرفوض بشكل قاطع من جانب مصر' واضاف 'مصر تعتز كل الاعتزاز بسيادتها واستقلال ارادتها الوطنية، لكن الجانب الامريكي يصر على عدم احترام خصوصية المجتمع المصري، بتصرفات وتصريحات تستفز الشعور الوطني'.

وذهب اكاديمي محسوب على النظام والحزب الحاكم الى ما هو ابعد من ذلك عندما قال في حديث لصحيفة 'روز اليوسف' ان 'الشعب المصري بلغ سن الرشد قبل ان تبلغه امريكا، وان الممارسة البرلمانية موجودة في مصر منذ عام 1866، وبالتالي ما تطلبه واشنطن هو اهانة للشعب المصري، لأن المصريين قادرون على مراقبة انفسهم، والبحث عن مصائرهم اكثر من اي دولة اخرى'.

الشعب المصري بلغ سن الرشد فعلاً، لا جدال في ذلك، ولكن المشكلة تتمثل في نظامه الحاكم الذي يتعامل مع هذا الشعب وكأنه قاصر لم يبلغ مرحلة الفطام بعد، والمطالب الامريكية بانتخابات حرة ونزيهة هي مطالب الشعب المصري واحزابه وقواه الحية الشريفة التي تعتز بتراث بلدها الحضاري، وعقيدته الراسخة الجذور.

النظام يزوّر الانتخابات البرلمانية في مصر، وهذا التزوير ليس اختراعاً او افتراءً، وانما حقيقة موثقة بالوقائع الدامغة بالصوت والصورة، والاخطر من ذلك ان النظام بات يصدر خبراته في التزوير الى الدول العربية المجاورة، حتى تتم الاستفادة منها واساليبها الحديثة في تبديل صناديق الاقتراع، واخراج النتائج بما يرضي الحاكم ويغضب الله والشعب.

***

نعم.. الحياة السياسية الديمقراطية تتسم بالعراقة وكانت على درجة كبيرة من النزاهة والشفافية لا نرى لها مثيلاً هذه الايام، حيث كان البرلمان يمثل مختلف القطاعات الشعبية، ويمارس دوره الرقابي على السلطة التنفيذية بكفاءة عالية، ويحاسب الوزراء، ويسحب الثقة من الحكومات ورؤسائها، مدعوماً بصحافة حرة، ونظام قضائي عادل ومستقل.

الادارة الامريكية لم تنتهك السيادة المصرية بمطالبتها بانتخابات حرة ونزيهة، لان هذه السيادة منتهكة امريكياً منذ عقود، ولا جديد في الأمر، وبالتحديد منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد، وتوريط مصر في معاهدات سلام مهينة مع اسرائيل، تفرض عليها بيع الغاز والبترول بأسعار بخسة، وحراسة الحدود الاسرائيلية مجاناً، والمشاركة بحماس منقطع النظير في تشديد الحصار الظالم على قطاع غزة، والتنسيق مع اجهزة الامن الاسرائيلية لقمع المقاومة وتصفية رموزها ورجالاتها باعتراف المسؤولين الاسرائيليين انفسهم.

مطالبة امريكا بانتخابات حرة ونزيهة بحضور مراقبين دوليين تشكل انتهاكاً للسيادة المصرية، اما مطالبتها ببناء سور فولاذي لخنق ابناء قطاع غزة، يشرف على بنائه مهندسون امريكيون، فليس كذلك.

التدخل من وجهة نظر النظام يعتبر مرفوضاً ومهيناً طالما انه يصب في مصلحة الشعب المصري، وبما يؤدي الى تحقيق مطالبه في الاصلاح الديمقراطي، ولكن عندما يكون هذا التدخل في خدمة تعزيز النظام، واستمراره في الحكم، وتسهيل خططه في التوريث، فانه تدخل محمود ومرحب به، ينزل برداً وسلاماً على قلوب اهل السلطة والسطوة في قاهرة المعز.

فاذا أراد النظام اعلاء اسواره، وسد الثغرات التي يمكن ان تفتح المجال لحدوث هذا التدخل فان الوصفة السحرية لذلك هي اجراء انتخابات حرة ونزيهة، في حضور مراقبين دوليين، تماماً مثلما تفعل كل الدول والحكومات الاخرى الواثقة من نفسها ومن صلابة نظامها السياسي وشرعيته.

***

الرئيس الامريكي الاسبق جيمي كارتر يعتبر نموذجاً للمراقب المحايد، واصبح وجوده علامة فارقة في كل الانتخابات التي تجري في العالم الثالث، وعنواناً لنزاهة معظمها، حتى ان الرجل المتقدم في السن، يتنقل من الخرطوم الى رام الله، الى بيروت الى الرباط هو وفريقه لمراقبة الانتخابات وتقديم شهادة حسن سلوك ديمقراطية للانظمة التي تشارك فيها، فما المانع لو حط الرحال، وفريقه من المراقبين الدوليين في القاهرة لفعل الشيء نفسه، ولماذا الخوف منه؟

وجود مراقبين دوليين يتابعون سير الانتخابات، ويراقبون عملية الاقتراع، لا يشكل انتهاكاً للسيادة، وانما تعزيزاً لها، والانظمة التي تعارض وجود هؤلاء تضمر نوايا مسبقة بالتزوير، لانتخاب برلمان غير شرعي، تكون مهمته البصم على سياسات الحكومة، والتغطية على الفساد المستشري في مفاصلها الرئيسية.

نحن ضد اي تدخل امريكي في شؤون مصر او اي دولة عربية اخرى، لاننا نعرف نتائج مثل هذا التدخل، كما نرى بأعيننا آثار الكوارث التي ترتكبها امريكا باسم التغيير الديمقراطي في كل من العراق وافغانستان، ولكن معارضتنا لهذا التدخل تتناقض كلياً مع اسباب معارضة النظام المصري له، لان هذا النظام شريك اساسي في السياسات الامريكية في المنطقة، واحد ابرز مهندسيها تحت مسمى 'الاعتدال' و'الواقعية'.

***

الذين يعرفون الشأن المصري جيداً يدركون ان هذه 'الهبة' الامريكية الداعية الى النزاهة والمراقبة الدولية، ليست جديدة، وهناك شكوك عديدة حول صدقيتها، ويبدو ان المطلوب من هذه الادارة 'الديمقراطية' ان توجه هذه الانتقادات والمطالب للنظام المصري، لرفع اللوم والعتب، واسكات بعض الاصوات 'الليبرالية' داخل مصر، ومن المتوقع ان يرد النظام بكلام آخر حول السيادة ويبقى الوضع على حاله إن لم يكن اكثر سوءاً.

اذا كانت ادارة اوباما جادة فعلاً فيما تقوله لدعمت القول بالعمل، وهي تملك اوراق ضغط كثيرة تستطيع استخدامها بفاعلية لو ارادت، مثل ورقة المساعدات المالية. فالتلويح بها كفيل باجبار النظام على اجراء التعديلات الدستورية المأمولة، واجراء الاصلاحات السياسية التي يطالب بها الشعب.

الشعب المصري في تقديرنا سيخرج الكاسب الاكبر من هذا الاشتباك بين الفيلين الامريكي والمصري الرسمي، فحالة الخوف التي دبت في اوصال النظام من جراء المطالب الامريكية هذه تعكس مدى هشاشته، ولا نستبعد ان تقلل من حالة تغوله المألوفة في تزوير الانتخابات وقمع المعارضة، والتعاطي بخشونة مع الناخبين.

الامر المؤكد ان ما كان يصلح لمصر، او اي بلد عربي آخر، قبل ثلاثين او اربعين عاماً، لم يعد يصلح حالياً، بسبب حالة التطور التكنولوجي التي تسود العالم، وخاصة على صعيد ثورة الاتصالات.

النظام المصري ربما يحاول ممارسة التزوير مجدداً، ولكن ادواته اصبحت بالية ومكشوفة، ولكنه لن يستطيع في ظل هذه الثورة اخفاء المعلومات، التي باتت الحليف الاقوى للمعارضة الشعبية المتنامية.

امتحان الانتخابات المقبل سيكون الاكثر عسراً بالنسبة الى النظام في مصر، ومع اعترافنا بقدرته على البطش من خلال آلة القمع الجبارة التي تعمل تحت امرته، وابقته على كرسي الحكم ثلاثين عاماً، فان عجلة التغيير بدأت في الدوران، ومن الصعب ان تتوقف او هكذا نعتقد.