موت الهوية العربية
بقلم/ عبد الله زيد صلاح
نشر منذ: 14 سنة و شهر و 30 يوماً
الخميس 28 أكتوبر-تشرين الأول 2010 04:18 م

ندما أعلن "رولان بارت" فكرة "موت المؤلف" قامت دولٌ من المنهجيات وسقطت دول، وتفاوتت على إثرها وجهات النظر وتعددت الطرائق لمقاربة الفكرة ونواتجها، وتبيان مدى تقاربها أو تباعدها عن بنية ما سواها فكراً وفلسفة وتطبيقاً، وقد أفضى هذا الفعل في مجمله إلى إثراء ميدان النقد، وخلق حالة إيجابية تضمن عملية الإنجاب وسلامة حياة المولود بين أقرانه، وهذا هو شأن أي تفاعل جاد مع أية حالةٍ أو فكرةٍ تُطرح للدرس أو المناقشة، فمن خلال تعدد الآراء وتلاقحها تنضج الفكرة فتُؤتي ثمرها منَّىً وسلوى.

لكن عندما أعلن بعضُ مفكري الأمة العربية عن موت الهوية العربية، فالأمر هين لم يحرك ساكناً ولم يلتفت إليه أحدٌ لطرح تساؤل ما حول الموضوع، أو إبداء نوع من القابلية لمجرد النظر إليه فقط. ولعل دراسة هذا الواقع أو محاولة معرفة الظروف المحيطة به قد تنتج تفسيرات متعددة، إلا أننا نرى ـ فيما نعتقد ـ تفسيراً واحداً للموضوع، هو عجز العقل العربي في ظل موت الهوية التي افتقدها أو لم يشعر بها في يومٍ ما.

إن الهوية العربية ـ فيما تبدو من صفحة التاريخ ـ كمرجعيةٍ يقينيةٍ مفتعلةٌ تاريخياً، فهي لم توجد أصلاً حتى نقول بموتها، وإن وجدت بعض الخيوط الدالة عليها فهي بقايا دم الإجهاض، ولا علاقة لوحدة اللغة في ذلك، فهي وسيلة تخاطب وتعبير لا وسيلة تقارب وتقرير مصير، وكذلك الجغرافية فهي ممزقة تاريخياً ـ إلا في مراحل نادرة لا تؤهل للقياس أو الحجية ـ بالجيوش والحواجز العازلة، والصراعات البينية، وبناءً عليه فموت الهوية العربية / عتبة المقال ليس مجازاً، أو علامة تنذر بهول الموضوع، وإنما حقيقة ماثلة، فالإنسان الفرد ـ أياً كان جنسه أو لونه ـ الذي لا يوقن بهويته، أو لا يمتلك هويةً هو في حكمٍ تتجسد ملامحه من خلال رؤية المثل اليمني "كَحَب القشام" (الحبوب التي يجمعها بائع الخضرة مقابل ما يبيعه)، أو المثل الآخر "كسروال المجنون"، ولك النظر فيما يعكسه المثلان من فلسفة بعيدة الرؤيا، فالمجنون لا يكترث إن تمزق سرواله وانكشفت عورته أو تلون قماشه من مائة قطعة، ومثل ذلك ينطبق على الهوية العربية المزعومة، فلم يكن لها الفضل ـ في أية مرحلة تاريخية ـ في توحيد الأمة ورص صفوفها لمواجهة الأخطار وستر عورتها، سواء قبل الإسلام أو بعده. وعظمة الأمة في عهد الخلافة الراشدة، أو فيما بعد لم يتأت بفضل الهوية العربية وإنما بفضل الهوية الدينية، بدليل تصاعد دخان القبيلة وعصبيتها وبروز حالات من التناحر في ظل هذه المرحلة أو تلك، بل إن الصورة لا تنعكس من وحي الحروب فحسب، ولكن من وحي فكر الأمة وثقافتها وأدبها، فثمة معارك أخرى تشتعل في منابر الكلم ومراكز الثقافة من خلال الخطب النثرية والقصائد الشعرية (النقائض الشعرية)، والقصص المفتعلة التي ترفع أو تحط من شأن هذه القبيلة أو هذا الجنس، زد على ذلك، إن المصطلحات المثبتة في كتب التاريخ لم تُخفِ موت الهوية أو في أقل تقدير تمزقها، فالعرب العاربة (على وزن فاعلة) غير العرب المستعربة (على وزن مستفعلة)، والمستوى اللغوي وحده يكفي لكشف حالة تشطي عناصر الخطاب وتضادها أيضاً، فثمة فحولة وأخرى أنوثة، وكذلك كتب التاريخ، إذ تروي لنا ـ في الغالب ـ أعنف الحروب وأطولها بسبب هذه النبرة، فحرب البسوس نشبت بين بكر وتغلب وهما أبناء عمومة، ودامت سنوات طوال تأكل الأخضر واليابس بسبب ناقة جرباء، وحرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان وهما من قبيلة واحدة (قيس) اشتعل لهيبها لمدة أربعين سنة بسبب مارثون سباق، وسواهما مئات الحروب المشهورة في كتب التاريخ، التي اندلعت في إطار ما يسمى بالهوية العربية، سواء قبل نزول الوحي أو بعده، فكما هو معلوم أن أدهى الحروب وأشرسها قامت في عهد الدولة الإسلامية بداعي العصبية، حتى الدولة الأموية والعباسية، كانت حَميةُ السلالة والعصبية سبباً في النشأة وتوطيد دعائم الملك العضوض، ولم يكن للهوية العربية أي ضلع في الأمر، وهكذا انتقلت العدوى إلى العصر الحديث، فالهوية العربية لم تكن يوماً ما عاملاً في التوحد حتى في وجه هويات أخرى تكالبت عليها، فكما سفك الجيش المغولي ـ قديماً ـ دماء أكثر من اثنين مليون في بغداد، قتلت إمريكا ـ حديثاً ـ في العراق أكثر من اثنين مليون أيضاً، وشردت أكثر من أربعة ملايين، وإسرائيل قتلت من أبناء فلسطين أكثر من مليون، وشردت أكثر من أربعة ملايين، ولم يتحقق ذلك إلا بدعمٍ وتأييد من بعض زعماء الهوية العربية كما نرى بجلاء، ومع ذلك ما يزال كثيرٌ يتغنى بالهوية العربية.

إن الوضع اليوم ليس جديداً، وما يجري من سفك وإهانة وبطش ونهب لا يشكل خطورة استثنائية، وعندما يردد بعض الأعراب ذلك ليس صحيحاً ، فلا نعتقد أن داهيةً ما ـ أدهى مما حل بهم ـ ستنزل لتوحد ما تُسمى (الهوية العربية)، على الرغم من تصاعد دخان الهويات وإذكاء جمراتها، فالهوية الفارسية اليوم يسطع نجمها بسرعة البرق، ومثل ذلك الهوية التركية، بل إن المضحك أن الهوية الكردية المنزوية في الكهوف بدأ دخانها يتصاعد، وهذا كله بالنسبة للأعراب لا يهمهم في شيء، فلا هم آمنوا بالهوية العربية واتخذوها مرجعية يسالمون من أجلها ويعادون، ولا هم اتخذوا من الدين هويةً وتجاوزا التمذهب والتحزب والتعصب الذي تلعب على حباله قوى الاستعمار والبغي؛ ولأنهم كذلك فلا ضير لديهم اليوم إن يصبح السودان كالعهن المنفوش، أو تتبدل جينات أبناء العراق (كش ملك)، أو تصبح لحوم الصوماليين طعماً لوحوش البحر، أو ينهار المسجد الأقصى على حين غرة.

في الأخير ليس من حق أحدٍ أن يفرض رأيه أو وجهة نظره كمسلمة يجب التصديق بها، لكن الدلائل والمؤشرات تشجع على إبداء الرأي بقوة وإصرار، إذ تتقزم كل دولة ـ بل وفئة وقبيلة وطائفة ـ حول قضاياها وسياساتها الداخلية كخيار استراتيجي ووحيد، في السياسة والثقافة والاقتصاد؛ ولذا آمل ألا تُرى وجهة النظر التي سقناها على أنَّها عبثية أو متطرفة، فهي قراءة لتاريخ مسطور لا يزال يعيد نفسه في الواقع المعاصر بشكل مفضوح، ومع ذلك فالحق قائم لمن يعترض أو لم يُسلم بوجهة النظر المتمثلة في موت الهوية العربية، والموت الذي نقصده لا يعني الغياب؛ لأن الغياب يُرجى بعده الحضور، وإنما نقصد الموت الحقيقي الذي لا رجعة فيه ـ إلا "أن يبعث الله من في القبور" ـ ولكن إن تشكلت هويةٌ ما في جغرافية ما يُسمى بالدول العربية، فإننا نرى أن التشكل سيرتبط حتماً بهوية دينية لا هوية عربية.