الدم التركي يقلب المعادلة
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 22 يوماً
الأربعاء 02 يونيو-حزيران 2010 11:37 ص

نحمد الله ان سفن قافلة الحرية انطلقت من موانئ تركية، ونحمده اكثر ان احداها (مرمرة) كانت ترفع العلم التركي، ونحمده مرة ثالثة ان شهداءً اتراكاً سقطوا برصاص الجنود الاسرائيليين الذين اقتحموا السفينة، وتعمدوا اطلاق النار على النشطاء المتواجدين على ظهرها بهدف القتل.

فدخول تركيا الى حلبة الصراع العربي ـ الاسرائيلي بهذه القوة، وهذه الحماسة بدأ يعطي ثماره بسرعة غير معهودة، فها هو مجلس الامن ينعقد في غضون ساعات محدودة لمناقشة المجزرة الاسرائيلية، وها هو الرئيس المصري حسني مبارك يبادر فورا بفتح معبر رفح، وها هي المظاهرات تجتاح كل الاراضي التركية طلبا للانتقام لدماء شهدائها.

متى كان مجلس الامن ينعقد بهذه السرعة لمناقشة عدوان اسرائيلي بناء على طلب عربي، ويصدر قرارا يطالب بتحقيق فوري جدي ووفق المعايير الدولية، ويدين الاجرام الاسرائيلي؟ صحيح ان البيان او القرار لم يكن بالقوة التي نتطلع اليها، ولكنه جاء مختلفا، والسبب هو العامل التركي.

السيد رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي كان عربيا اكثر من العرب انفسهم عندما تعاطى بقوة وشجاعة في تصديه لهذا الاجرام الاسرائيلي بطلبه انعقاد جلسة عاجلة لمجلس الامن، وآخر لحلف الناتو، وبادر الى سحب سفير بلاده فورا من تل ابيب، وطالب اسرائيل برفع فوري للحصار عن قطاع غزة، ووصف الهجوم على سفن قافلة الحرية بانه دنيء وارهاب دولة، وحذر الدولة العبرية من نفاد صبر بلاده.

هذه اللغة لم نسمع بمثلها منذ رحيل الزعيم المصري جمال عبد الناصر، وهذه المواقف الرجولية اختفت كليا من قواميس زعمائنا العرب، او بالاحرى اخفيت بشكل متعمد، وصار ذكر اسرائيل بالسوء على ألسنتهم نوعا من الموبقات المحرمة.

' ' '

نحن هنا لا نشيد باردوغان، وان كان يستحق الاشادة، وانما نقارن بين مواقفه والزعماء العرب، وجامعتهم، وامينها العام ومساعديه، وهي المواقف التي شجعت اسرائيل على التغول في جرائمها ومجازرها وحصاراتها واهاناتها لهذه الامة دون خجل او حياء.

لا نريد اجتماعا عاديا او طارئا لمجلس الجامعة العربية لمناقشة المجزرة الاسرائيلية الاخيرة، فما فائدة مثل هذا الاجتماع غير ظهور هؤلاء بمظهر المهتم، او من يحاول عمل شيء ما. اليس من العار ان يجتمع مجلس الامن طوال الليل وبعد ساعات من المجزرة، ومجلس الجامعة لم يجتمع حتى كتابة هذه السطور؟

اسرائيل تعيش هذه الايام اسوأ ايامها ليس بسبب المجهود العسكري، او الجهود الدبلوماسية العربية، وانما لكونها تستهتر بالعرب وتستوطئ حائطهم، واحتقار القوانين والاعراف الدولية، وفوق كل هذا وذاك الحماية الامريكية الغربية المضمونة دائما. فغرور القوة جعلها ترتكب هذه الحماقات وتتصرف مثل قطاع الطرق والقراصنة في اعالي البحار.

بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي احترف الكذب، مثله مثل جميع المسؤولين الاسرائيليين، وبلغ هذا الكذب ذروته عندما قال ان تصرف جنوده باطلاق النار على النشطاء كان من قبيل الدفاع عن النفس، أيُ دفاعٍ عن النفس هذا في مواجهة اناس عزل فوجئوا بطائرات عمودية تقذف اليهم بفرق الكومندوز وتقصفهم بالرصاص الحي.

السفن لم تكن تحمل قنابل وصواريخ، ولا يتواجد على ظهرها مسلح واحد، فقط كراس كهربائية للعجزة الذين حطمت اطرافهم الصواريخ وقنابل الفوسفور الاسرائيلية اثناء العدوان على غزة، وصناديق الادوية للمرضى ومواد بناء لترقيع ما تهدم من جراء القصف، ومواد لتنقية المياه منعتها السلطات الاسرائيلية لقتل ابناء القطاع بامراض الكوليرا والتيفوئيد.

عامان من الضغوط والتوسلات الامريكية لاقناع اسرائيل بالسماح بدخول مواد البناء والاسمنت للقطاع لوضع حد لمعاناة ستين الف انسان يعيشون في العراء فوق بيوتهم المهدمة ولكن دون جدوى.

ومن سخريات القدر ان الاسرائيليين الذين يتهمون منظمي هذه القوافل باستخدامها وسيلة للاستفزاز والدعاية الاعلامية، هم اول من استخدم هذا الاسلوب قبل سبعين عاماً، فقد ملأوا السفن بالمهاجرين اليهود من الناجين من الهولوكوست (المحرقة) في الاربعينيات من اجل احراج القوات البريطانية المحتلة لفلسطين في ذلك الوقت التي كانت تحاول منعهم بالقوة خوفاً من ثورة الفلسطينيين.

والاخطر من ذلك ان قادة اليهود الصهاينة الذين نظموا هذه السفن، وآخرها عام 1947 التي حملت حوالى 4500 مهاجر، تعمدوا الصدام مع القوات البريطانية التي كانت تفرض حصاراً بحرياً، وادعوا ان قنابل الغاز البريطانية قتلت طفلاً رضيعاً لاثارة الرأي العام العالمي، وكسبه الى جانب المطالب باقامة دولة يهودية في فلسطين، حيث كانت بعثة للامم المتحدة تبحث مسألة التقسيم. ومن المؤسف ان هذه الضغوط نجحت في اصدار القرار الاممي، وتبين بعد ذلك ان الطفل المذكور لم يقتل بقنابل الغاز البريطانية مثلما قالت صحيفة 'الديلي ميل البريطانية' وانما قبل المواجهة بأيام.

' ' '

اسرائيل خرقت القانون الدولي باقتحامها سفينة ركاب في عرض البحر وفي المياه الدولية ثم خطفها واعتقال ركابها، وقتل واصابة خمسين منهم. احدى هذه السفن كانت ترفع علم تركيا العضو في حلف الناتو.

السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف سيكون رد فعل الولايات المتحدة وحلف الناتو لو ان ايران احمدي نجاد اعترضت سفينة امريكية او بريطانية او حتى نرويجية في المياه الدولية واطلقت النار على ركابها، واصابت قبطانها ثم اقتادتها الى ميناء ايراني؟

الاجابة واضحة ومعروفة، اعتبار هذا الموقف الايراني انه اعلان حرب يستحق ارسال الاساطيل والقاذفات والغواصات النووية لقصف ايران، او استصدار قرار فوري وسريع عن مجلس الامن بفرض عقوبات اقتصادية خانقة ضدها في احسن الاحوال.

ماذا يتوقع الاسرائيليون عندما يهاجمون سفينة في عرض البحر، هل يتوقعون ان يستقبلهم ركابها بالورود، ام بالرقص والغـــناء طرباً وتهليلاً، ام بذبح الخرفان والعجول؟

اسرائيل تؤكد للمرة المليون انها دولة مارقة تتحدى كل المواثيق الدولية، ومن الخطأ القول بأن هذه التصرفات والمجازر تقع لأن حكومة يمينية متطرفة تحكمها، لان حكومة 'كاديما' السابقة ارتكبت جرائم حرب اثناء عدوانها على قطاع غزة، واستخدمت قنابل الفوسفور الابيض وقتلت 1500 من الابرياء ثلثهم من الاطفال.

كلهم مجرمو حرب، ولا بد من تحقيق دولي سريع لكشف كل ملابسات هذه المجزرة الاخيرة والمتورطين فيها، ابتداء من نتنياهو الذي اعترف بانه اعطى الضوء الاخضر لارتكابها ومروراً بالجنرال غابي اشكنازي رئيس هيئة الاركان الذي نفذها، وانتهاء بايهود باراك وزير الدفاع الذي اشرف عليها.

حكومة نتنياهو اعلنت انها ستمنع اي سفن جديدة تريد كسر الحصار وبالطريقة نفسها التي تعاملت فيها مع سفن الحرية، واعلن المنظمون في الوقت نفسه عن تجهيز قوافل جديدة في تحد قوي للغرور والغطرسة الاسرائيليين. الفارق بين القوافل السابقة والقوافل الجديدة ان ركاب الاخيرة سيكونون اكثر استعداداً وتطلعاً للشهادة، بل سيتسابقون اليها، ولن ترهبهم القرصنة الاسرائيلية.

اسرائيل خسرت تركيا حليفها الاستراتيجي، ونقلتها من خانة الصديق الى خانة العدو، والشعب التركي العنيد صاحب العزة والكرامة لن ينسى شهداءه. وهي في حال عداء متفاقم مع القوة الايرانية الاقليمية المتصاعدة، وعلى وشك خسارة حلفائها الغربيين التي تحرجهم وتهدد امنهم بمجازرها.

الصديق الوحيد الذي بقي لاسرائيل، نقولها بكل مرارة واسف، هو النظام الرسمي العربي، او الذين ما زالوا يتمسكون بمبادرة السلام ويدورون في فلك امريكا. نقولها بكل صدق وارتياح: مبروك على اسرائيل هؤلاء الاصدقاء، فلعلهم ينفعونها وهم الذين لم ينفعوا امتهم وعقيدتهم وشعوبهم وقضاياهم العادلة.