غراب:ظاهرة ما بعد الحداثة
بقلم/ د.عبدالمنعم الشيباني
نشر منذ: 14 سنة و 7 أشهر و 15 يوماً
الأحد 09 مايو 2010 11:44 ص

برغم انشغالي القلق بشؤون البحث والدراسة في الرواية والنقد قسم الأدب الإنجليزي،أجدني مرةً أخرى أمام تحدٍ إبداعيٍ جديد يستفزني في مجال الكتابة السياسية الناقدة،وأجدني ملزماً بتطبيق بعض الإشارات النقدية التي تعلمتها،أعني بهذا المناهج النقدية الأدبية، موضوع دراستي ومحل اهتمامي البحثي والأكاديمي...أقول بإيجاز علمي منهجي وموضوعي شديد " أن الكاتب أحمد غراب ظاهرة فريدة في الكتابة السياسية الساخرة التي تنتمي لمنهج ما بعد الحداثة:منهج نقدي أدبي غربي المنشأ"...

قبل البدء بالحديث يلزمنا أن نعرف "الحداثة" أولاً لنصل الى المعنى الذي بعدها-ما بعد الحداثة..بإيجاز مقتضب نبسطه للقارئ الكريم والقارئة العزيزة وطلاب العلم –وأنا منهم-يشير منهج الحداثة أو نظرية الحداثة الى التجديد في شكل النص والإنقلاب على كل الأسس والقواعد الأدبية الموروثة أو التقليدية في التعبير والكتابة وابتكار أشكال جديدة قد تبدو غريبة وغير مألوفة أو مرفوضة من قبل المجتمع،يفعلها الكاتب للنص احتجاجاً على أو ضاع المجتمع المقلوبة بالأساس،والأديب هنا يعزل نفسه فكرياً واجتماعياً وشعورياً عن المجتمع وقضايا المجتمع،فلم يعد يهمه غير ذاته فحسب،وهو يرى أنه حر في اختيار أي شكل أونص " مقلوب" يعبر به عن نفسه،وعن ذاته وأحزانه وانكساراته"ناسفاً كل تقاليد المجتمع ومضامينه وأسسه المتعارف عليها...هذا ببساطة متناهية لطلاب العلم والقراء الكرام تعريف منهج الحداثة..مثل هذا ظهر كثيراً في أعمال الشعراء والكتاب، اقرأوا ان شئتم قصيدة((انكسارات الذات الحزينة ))لـ عبد الفتاح سلطان/شاعر يمني من تعز،كمثال جميل للنص الحداثي....وعلى أنقاض هذه النظرية-نظرية الحداثة- ظهرت نظرية نقدية جديدة تعيد الذات الى المجموع وتربطها بهموم المجتمع وقضاياه اليومية:نظرية ما بعد الحداثة،بمعنى أن النص الأدبي يغدو في خدمة الذات والمجتمع معاً،ولا يلتزم بشكل محدد في الكتابة،فقد يكون الشكل (حداثياً)لكن المضمون(ما بعد الحداثة)يعني ملتصق بقضايا الناس ومعيشتهم..هذا بكل بساطة ومن غير لف أودوران، نعرف النظريتين ونبسطهما للمتابع الكريم والمتعطش للمعرفة- وكلنا طلاب علم ولا ندعي المعرفة-ولا يدعيها سوى ((الفشفشي الذي يعرف كل شي،وعبده فُقَيش الذي يخضب الفتوى قَيش،ويناطح بين حُنَيش وكبيشْ)..

ومن هنا ظهرت الكتابات التي تتبنى هموم الناس بأشكال حديثة أو تقليدية،ومثال ذلك مقالات عبد الكريم الرازحي الساخرة وكذا أشعاره-على سبيل المثال إيضاحاً ليس الا..،مثلاً سئل عبد الكريم الرازحي عن رأيه في الجمهورية فأجاب بقوله: (الكيس كيس الجمهورية ولكن الفسو فسو الإمام)).. لخص رأيه السياسي من القضية مستغلاً تراثاً شعبياً قبل الثورة، إذ كان اليمني ينام بالليل وسط كيس، ولا بأس على النائم بعد ذلك ((إن أحدث شيئاً أو اشياء وهو نائم)) فقد رفع عنه التكليف،هذا شكل وتوظيف للتراث أو الأسطورة (أسطورة الكيس)لنقد وضع سياسي قائم يظنه الكاتب أنه لا يختلف عن (كيس الإمام)...،هذه هي مدرسة "ما بعد الحداثة"، ومثل الرازحي الكاتب الساخر الرائع أحمد عثمان(موقع وجريدة الصحوة)وكذا أحمد عبد الملك المقرمي(موقع وجريدة والصحوة) وغيرهم كثرٌ في موقع (مأرب برس) الأجمل، أبرزهم الآن أحمد غراب: موضوع دراسة هذه الحلقة، فـ غراب يمثل ظاهرة ما بعد الحداثة،أي أنه يبتكر أشكال جديدة في الكتابة وتعبيرات اللغة لخدمة معايش الناس وهمومهم،وقد تكون الأشكال توظيفاً للتراث والأمثال الشعبية والنصوص القديمة أو الأساطير –واللغة الكتابية هي الأبرز في سمات هذه المدرسة النقدية-وسأقف في هذه الحلقة وقفة إيجاز على مقالته الموسومة بـ " جرعة بالتقسيط" لنبرز سمات مدرسة ما بعد الحداثة في كتابة غراب..

عنوان مقالة أحمد غراب ((جرعة بالتقسيط)) توظيف لمصطلح معاملة مالية اسمها " التقسيط"، أخذ المال على مهل وعلى مدد متباعدة تيسيراً للمقترض،ولكن الحكومة هنا لا تفعله تيسيراً ولا رحمةً بل تقتله على مهل،توظيف ساخر باكٍ ضاحكٍ من الكاتب لما تفعله الحكومة بالشعب،هذا هو الإبداع شكلاً(التوظيف)ومضموناً(معيشة الناس)..وتكمن إبداعية غراب على مذهب (ما بعد الحداثة) بـ لعبه باللفظة يشتق منها أكثر من معنى ساخر أو مضحكٍ مبكٍ،يستعمل اللفظة ويلعب بها هنا وهناك توظيفاً لنصوص من التراث الديني والشعبي الإجتماعي...كل من قرأ النص (جرعة بالتقسيط) إنْ أصابته مصيبة أو جرعة حكومية سيخطئ في التعبير-النص القرآني الكريم:((إنا للهِ وإنا إليه راجعون)) سيخطئ في قوله ((راجعون)) وسيقول- من شدة الهول وبغير شعور وقصد- ((( جارعون)))، هذه ((زنقلة إبداعية)) تحرف الألفاظ لتسخر من واقع السياسة المضطرب وحكومات السياسة الجائرة..تشكيل اللغة واللعب بها سمة بارزة لمدرسة ما بعد الحداثة، بعض أمثلة من النص:

مستشفى المجاريع

  السنة الجرعية

مقياس جرعر-بدلاً من مقياس رختر

جرعة ورا جرعة وعيد ورا عيد تحريفاً لـ ((جمعة ورا جمعة وعيد ورا عيد)) غناء "المكالف" بالقرية في انتظار الأحباب في المهجر...الى غير ذلك من الأمثلة التي يستعملها الكاتب كـ "ند" لمصطلحات ومفاهيم ثقافية في المجتمع،فهو ينسف الثابت الثقافي بالساخر الحداثي...

ختاماً موجزاً تمثل مقالة (جرعة بالتقسيط) مثال (نص ما بعد الحداثة)، يتبنى قضايا الشعب المصيرية والحياتية بسخرية أسلوبية قوامها اللعب باللغة ليضحك القارئ تارةً ويبكيه تارةً أخرى،فقد ربط قرارات الجرع الحكومية بمصائب وزلازل كونية كبرى ممكنة الحدوث لمن عرف الجرعة واكتوى بنارها، وهنا يصير للنص معنىً لدى المواطن البسيط ولدى مجتمع النخبة المتعلم،وموجعاً أشد من وقع السياط على " أساطين الجرعة" ومهندسيها..

*********

*** شاعر وناقد أدبي (تخصص أدب إنجليزي الرواية)

a.monim@gmail.com