لم تقاوم طرابلس كما بغداد وكما ستكون البقية
بقلم/ جمال الهنداوي
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و 18 يوماً
الإثنين 29 أغسطس-آب 2011 12:03 م

قد يكون مقدرا على الاعلام العربي ان يكابد مرة اخرى محنة المهمة الصعبة في تفسير الانهيار السريع للرموز الثورية العربية والهشاشة الورقية المؤلمة للانظمة الديكتاتورية المستبدة..

ومرة اخرى على النظام الرسمي العربي ان يتحمل وطأة اختبار الشعور المؤلم بالحيرة والعجز عن الاجابة عن السؤال الصعب عن ما تخبئه لهم الاقدار وهم يراقبون تبخر الشعارات الضاجة بالصمود والمقاومة عبر شاشات الفضائيات الشامتة..وكيف ان الزعيق المستمر بخطاب الوطنية والقومية والعداء للاستعمار لم يعد يملك القدرة على ترويض الشارع العربي..

ومن جديد على الاعلام ان يبدأ بمراجعة لماذا لم يخرج الناس بالاكفان دفاعا عن رئيسهم المحبوب الذي تخلعت اضلعهم رقصا وهتافا ودقا بالكعوب في ساحاته وميادينه الملأى بالزعيق..ولماذا اشاحت طرابلس عن وجه سيدها كما فعلت بغداد من قبل..

مؤلم هو كل ذلك الرعب الذي يحسه جميع اصحاب الجلالة والفخامة والسمو وهم يشهدون تحقق نبوءة الحكمة التي لم يحسنوا اخذها من فم ملك الملوك بان الدور سيأتي عليهم كلهم وان صدام حسين لم يكن الا الحجر الاول في سلسلة من التساقط الذي سيشمل الجميع..وان عليهم ان يكابدوا مرارة السؤال عن من هو التالي ياترى؟ والاكثر ايلاما هو هذا السقوط المفاجئ والمتسارع حد الصدمة لنظام الزعيم الليبي معمر القذافي والذي تابعه العالم طوال الايام الماضية عبر الشاشات العربية والعالمية، وهو ما لا يشير إلى كارتونية الانظمة القمعية العائلية فحسب, بل ان الشعوب المقهورة المستباحة الثروة والكرامة، والمجروحة في انتماؤها الوطني, والمحرومة من الحريات الاساسية لا يمكن لها ولا ترغب في الدفاع عن الطغاة، ولا يمكن ان تنخدع بشعاراتهم عندما تحين لحظة الحقيقة, وان المليارات التي تسفح على شراء الولاءات والاسلحة الحديثة المتطورة, وتكديس الدبابات والصواريخ والطائرات حول قصر الحاكم لن تكون كافية مع غياب ارادة القتال الصادقة والايمان بعدالة القضية التي يهون دونها التضحية بالنفس لدى الجموع المتزلفة المنافقة التي تلتف حول الطغاة وانظمتهم الديكتاتورية راغبة في فضول ما ابتزه من ثروات الشعب ومقدراته..

لم تقاوم طرابلس كما فعلت بغداد, ولن تفعلها دمشق, ولا كل العواصم المستباحة بعسس وحاشية السلطان, وكما انه لم يكن لكتائب العقيد المتناسلة اي اثر او فاعلية في دفع مصير الطاغية المحتوم.. لم يكن للاجهزة المتكاثرة والمتداخلة كتيه عظيم من القوات والميليشيات التي احاط صدام حسين نفسه بها اي دور في منع سقوط بغداد في ساعات معدودة.. كما لن يكون لكل ما في الارض من كتب عتيقة او مرتزقة او بلطجية او"شبيحة" دورا في دفع الناس عن الحاكم الجائر..

عاصمتان سقطتا دون ان نتلمس وجودا فعليا للقوات المسلحة النظامية الوطنية ولا للتحشيد الشعبي المستند على الانتماء والمسؤولية والمشاركة بالقرارات الصعبة التي ادت الى النزاع المسلح..

بل كانت طرابلس, كما كانت بغداد, وكما ستكون غيرهما, مدعوة لان تصحح بدماء ابنائها العزل الخلل الناجم عن استجلاب التدخل العسكري الخارجي من خلال الاسراف في التنكيل بالمدنيين, وتقديم المخارج المتعددة للنظام لتمرير خطل سياساته في ادارة الصراع بواسطة احزمة متوالية من المؤسسات الامنية الطفيلية الموازية والملتصقة بجسد النظام والخاضعة لقيادة مباشرة من الرأس او الابناء على ابعد تقدير والمتخندقة في موقف العداء المطلق للشعب ضمن عقيدة فاسدة متناقضة تماما مع دور الاجهزة الامنية البديهي في السهر على أمن المواطن والحفاظ على الممتلكات العامة..

وهذا التقليد وان كان مفيدا للانظمة القمعية العربية من خلال تحييد قدرة الجيش على ممارسة هوايته الرائجة في تنظيم الانقلابات العسكرية, وان كان يوفر مجالا متعاظما من النهب عن طريق تخصيص الميزانيات العسكرية الضخمة دون مقابل حقيقي على الارض, ولكنه ليس من الحكمة عدم التنبه الى نتائجه الكارثية المدمرة على الشعور الوطني للشعب, وصعوبة الاتكاء على الاجهزة الخاصة التي تعتمد على الولاء والقرابة اكثر من القدرة والكفاءة والانضباط المهني المطلوب في النزاعات المفصلية التي تحتاج التعبئة الشعبية الشاملة..

على النظام الرسمي العربي ان يحسن قراءة الاحداث هذه المرة وعدم الاختباء خلف تبريرات الخيانة والاستقواء بالخارج والعمل على استنباط توازن ما بين مصلحة الحاكم والمحكوم, واطلاق الحريات السياسية واحترام حقوق الانسان, والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية بين ابناء الشعب, والتركيز على الشؤون الداخلية للبلاد ونبذ التدخلات الخارجية, فإن الشعب العربي الآن بقضه وقضيضه اصبح يتحسس عصيه وسكاكينه واحجاره المهملة في الطرقات, ويرفع بصره الى الافق البعيد متسائلا: ولم لا؟ وما الذي ينقصنا؟, فقد تكون الايام القادمة حبلى بما لا يرتضيه النظام الرسمي العربي من جواب..

فلا تنتظروا ان يقف الشعب مع جلاديه, ولا مع من قايض الشرعية بشريعة الغاب, ولا مع من استبدل التاريخ بقصائد الغاوون وتقارير المخابرات.. لا تنتظروا.. فإن انتظاركم سيكون طويلا, وكذلك ليلكم سيطول..