مذبحة الساجدين
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 5 سنوات و 9 أشهر و 4 أيام
الإثنين 18 مارس - آذار 2019 08:07 م
 

كان الرصاص ينهمر من حول ذلك الرجل الذي تخطّى الخمسين من عمره، لكنه لم يكن يعبأ بالموت، فقط كانت عيناه على شابين هما ولداه، يسارع إليهما بين صوت الطلقات والدماء المتفجرة من جموع الحاضرين، فغطى ولديه بجسده ليقيهم الرصاص، ويتلقّى بدلا منهم طلقات بجانب عموده الفقري.

لم يكن ذلك مشهدا في فيلم سينمائي، لكنه كان لمحة قاسية من قلب تلك المجزرة البشعة، التي ارتكبها أحد عناصر اليمين المتطرف بحق المصلين في مسجدين في نيوزيلندا الجمعة الفائتة، راح ضحيتها حتى كتابة هذه السطور، خمسين مسلمًا وعشرات المصابين.

المذبحة لم يكن فيها تضارب معلومات، ولا أي وجه من أوجه الالتباس، ذلك لأن القاتل الأسترالي الجنسية، وثّق المشهد كاملًا، حيث صور بنفسه العمل الإجرامي، باعتباره عملًا بطوليًا ضد هؤلاء المسلمين، فلو رأيت فكأنك أمام فيلم وثائقي يظهر الإرهابي منفذ الهجوم قبلها وهو في سيارته يستمع إلى أغنية قومية صربية، يعود تاريخها إلى حرب البوسنة في التسعينيات، إبان الإبادة الصربية لشعب البوسنة والهرسك، تمجد الجنود الصرب وزعيمهم السفاح كراديتش وتُهين البوسنيين المسلمين.

يتقدم الإرهابي إلى المسجد والصورة تظهر جزءًا من السلاح الأوتوماتيكي بما يشبه الألعاب الالكترونية، ويبدأ في حصد جموع المصلين الذين لم يجدوا مكانًا للاختباء، لتتحول دار العبادة إلى “مسلخ بشري”، مذبحة بشعة للساجدين.

هؤلاء الضحايا أفضوا إلى ما قدموا، ونحسبهم شهداء عند ربهم يرزقون، قُتلوا غدرا بأيدٍ قذرة، في بيت من بيوت الله، ويوم الجمعة المبارك، ربما لم يكن أحدهم يحلم بميتة مثلها، لكننا نحن الأحياء، يستوقفنا على إثر المذبحة كل موقف وردة فعل، على كافة الأصعدة، في الداخل والخارج، أفرادًا ومؤسسات وحكومات.

إن أبرز ما يلقي بظلاله على المشهد المؤلم، تلك الفزاعة التي تُبْتَزُّ بها الأمة، وأعني فزاعة الإرهاب، وربطه بالدين الإسلامي، فارتبط في عقلية الشعوب أن الإرهاب مرادف للإسلام، فإذا ما أقدم مسلم بغير وجه حق على أعمال عنف وقتل في أوروبا، لم تكتف الجهات الرسمية والإعلامية بالقبض على المجرم أو تصفيته، بل تسارع إلى ربطه بالإسلام ونصوصه وتراثه والمناهج التعليمية في العالم الإسلامي، بزعم أنها تنتج الإرهاب.

نحن لم نطالب ربط هذا العمل الإجرامي بالمسيحية، ولكن لماذا يربط الغرب الإرهاب بالإسلام، في الوقت الذي تدين فيها كافة الأمة هذه الأعمال وتتبرأ من فاعليها؟

ليس الغرب وحده، بل يسارع إعلاميو العار في بلادنا العربية الإسلامية إلى الاصطياد في الماء العكر لصالح أنظمتهم الاستبدادية، وتنطلق على الفور دعواتهم لتجديد الخطاب الديني، لمنع التطرف والإرهاب، بل ذهب بعض الكُتّاب العرب إلى أن هذا العمل ردة فعل لما يرتكبه المسلمون من عمليات إرهابية.

إحدى القنوات العربية الشهيرة التي دأبت على نعت منفذي عمليات العنف بالإرهابيين، بل تصف التيار الإسلامي المعتدل بوصف الإرهاب، وصفت قاتل الساجدين بنيوزيلاند بـ”منفذ الهجوم”، في طأطأة واضحة للرأس أمام الغرب وعملائه في الداخل، تكريسًا لمفهوم ارتباط الإسلام وحده بالإرهاب. وخرج كالعادة – إذا ارتبطت الأعمال الإجرامية بعناصر غربية – من يقول أن لدى منفذ المذبحة مشكلة عقلية، وذهبت صحفنا العربية المبجلة، إلى محاولة تصوير الجريمة على أنها استجابة لهوس الألعاب القتالية العنيفة المنتشرة على الهواتف الذكية، وجعلت تُعدّد أسماء تلك الألعاب وتتناول شرحًا لبعضها محذرة من خطورتها، وكأنها تتجه لصرف انتباه الجماهير عن الدوافع الأساسية للقاتل.

غير أن التفاصيل الدقيقة الواضحة التي برزت مع الساعات الأولى للحادث، كشفت التصريحات العدائية على صفحته بالفيسبوك ضد المسلمين، كما تدرب قبلها في نادٍ للرماية، واستخدم في الهجوم خمس بنادق متنوعة، ظهر بإحداها مدون عليها أسماء لشخصيات مرتبطة بالصراع الغربي مع المسلمين، فمنها:

تشارلز مارتل الذي انتصر على الأندلسيين المسلمين في بواتيه أو بلاط الشهداء، وأنطونيو براكادين القائد النمساوي الذي خرق الاتفاقية وقتل الأتراك في شمال قبرص، وألكساندر بيسونيت الذي نفذ حادثا مماثلا في يناير 2017 حيث أطلق النار على المصلين في مسجد المركز الثقافي الإسلامي في كيبيك الكندية، ولوكا ترايني الذي قام في فبراير 2018 بإطلاق النار بشكل عشوائي على المهاجرين الأفارقة في ماتشيراتا الإيطالية.

كما دون على السلاح تواريخ تجسد الصراع بين الغرب والمسلمين مثل معركة فيينا التي أوقفت النفوذ العثماني في أوروبا، إضافة إلى عبارات عدائية تجاه اللاجئين (إذهبوا إلى الجحيم)، كل هذه المعلومات تكشف أن الإرهابي ليس مختلا عقليا، بل هو صاحب توجُّه متطرف.

ينبغي أن لا يسقطنا الحادث الأليم في وحل آفة التعميم ونتهم الجميع بالرضا عن المذبحة، لكن في الوقت نفسه ينبغي أن لا نغفل التصريحات العدائية للحكام والحكومات الغربية ومؤسساتها الإعلامية، التي تؤجج الكراهية في المجتمعات الغربية ضد المسلمين.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كتب في أعقاب التفجير الإرهابي في برشلونة 2017: “ادرسوا ما فعله الجنرال الأمريكي بيرشينغ بالإرهابيين بعد القبض عليهم، اختفى بعدها الإرهاب الإسلامي المتطرف لمدة 35 عاما”. يهُمّ ترامب ويعنيه قيام الجنرال بتصفية قرابة خمسين من إسلاميي الفلبين بعد غمس الرصاص في دماء خنزير ودفْنهم مع بقاياه، ورغم التشكيك من بعض المؤرخين في الرواية، إلا أن بيرشينغ في مذكراته تحدث عن عن دفن هؤلاء القتلى مع خنازير معللا ذلك بقوله: ” القيام بهذا الإجراء ليس بالأمر المبهج، ولكن احتمال الذهاب إلى جهنم بدلا من الجنة كان يحول أحيانا دون وقوع أعمال إرهابية”.

وقبل سنوات دعت إحدى الصحف اليمينية التابعة للاحتلال الإسرائيلي، الدول الأوروبية إلى حسم المواجهة مع المسلمين من خلال السير على نهج شارل مارتل الذي أِشرنا إليه آنفا. هؤلاء مسؤولون عن العمليات الإرهابية ضد المسلمين، بسبب التضليل الإعلامي الذي يصور المسلمين بصفة عامة على أنهم دواعش، ولا يعرفون غير لغة الدماء والكراهية. وممن يتحملون مسؤولية هذه المذبحة حكام العرب الذين ارتضوا إملاءات الغرب في تصنيفات الإرهاب وتوسعوا فيه حتى جعله أحد الرؤساء العرب يمثل الأمة وتراثها. ولعل من المناسب أن نستحضر خطاب الرئيس الانقلابي عبد الفتاح السيسي في مؤتمر ميونيخ، عندما دعا إلى مراقبة المساجد لحماية الناس من الأفكار المتطرفة، فمثل هذه التصريحات، تعد تحريضا غير مباشر على الأعمال العدائية ضد المساجد في أوروبا، خاصة أن من يدعو لذلك هو رئيس دولة إسلامية فيها أعرق المنارات العلمية وهو الأزهر.

إننا ندعو الغرب إلى كلمة سواء، ألا نعتبر الإرهاب دينًا، ولا نربطه إلا بالقائمين عليه المنفذين لجرائمه من أشخاص أو كيانات وتنظيمات، والكف عن هذا الاتهام السافر للإسلام بأنه المسؤول عن الإرهاب. لقد كنا ننتظر على إثر هذا الحادث مسيرة مهيبة لقادة وزعماء العالم والعرب كتلك التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس عقب حادث شارلي إيبدو الإرهابي، لكنه لم ولن يحدث، لأن الغرب لا يُتهم بالإرهاب ولو كان المقتول (قد بدأ بالاساءة او الاعتداء)، بينما هو الوصف الملازم للمسلمين أبدا، ولو كانوا مدنيين آمنين يتعبّدون في مسجدهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.