آخر الاخبار
الأتراك في سوريا…البندقية والفضيلة
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 4 سنوات و 9 أشهر و 19 يوماً
الإثنين 02 مارس - آذار 2020 08:43 م
 

يقول الكاتب والمؤلف الفرنسي لاروشفوكو: إن الفضائل تضيع في المصلحة الذاتية، كما تضيع الأنهار في البحر».

ربما كان معنى هذه العبارة حاضرًا في معظم التدخلات السياسية والعسكرية، التي تقوم بها الدول في شؤون دول أخرى، حيث لا وجود للفضائل والجوانب الأخلاقية، بحضور الأجندات السياسية إلا النزر اليسير.

سوريا، تلك القطعة الغالية من جسد الأمة، تحولت إلى مسرح حرب عالمية جديدة، فيها الأحلاف، وفيها الحرب المباشرة، والحرب بالنيابة، يغيب سكانها عنها، مع مرور الوقت خارج الحدود، أو تحت الأرض في القبور أو الخنادق، لتصبح الأرض خاوية إلا من الجيوش التي أتت بها المصالح.

ولنكن صرحاء حين نقول إن كل الأطراف في النزاع السوري تبحث عن مصالحها، فليس من دولة تتدخل في سوريا إلا ولها مصالحها، فليس هناك من أحد يتدخل (لوجه الله الكريم)، وهذا الكلام يشمل الجميع بمن فيهم تركيا.

ولكن إذا كان هذا الإقرار جزءًا من الحقيقة، فينبغي، بأي حال، أن لا نهمل الجزء المتمم لها، وهو النظر في مشروعية التدخل من ناحية، والنظر في شكل وأسلوب التدخل، الذي ينطلق من مبدأ تحقيق المصلحة من ناحية أخرى. روسيا الآتية من بعيد، أبرز أطراف الصراع في سوريا، هدفها المعلن هو الحفاظ على أمنها القومي، من خلال القضاء على الإرهابيين، خشية أن يستوطنوا في بؤر إرهابية في آسيا تهدد روسيا، وهو محض هراء، فكلنا يعلم قوة القبضة الحديدية لروسيا، التي استطاعت إجهاض المقاومة في القوقاز، بما يستبعد معه أن يمثل الإسلاميون الروس المنخرطون في الصراع على أرض سوريا، خطرًا على الأمن الروسي يستدعي التدخل العسكري لموسكو بهذا الشكل القوي، لكنّ لروسيا أهدافا أكثر واقعية ومنطقية، وهي الحفاظ على نظام الأسد الحليف الاستراتيجي الأبرز لها في المنطقة، وأكثر المعتمدين على سوق السلاح الروسي. كما تهدف إلى الوصول للمياه الدافئة في المنطقة، وهو حلم القياصرة، ويشهد لهذا، التواجد المستمر في المياه الإقليمية السورية، وترغب كذلك في تجربة ترسانة أسلحتها الفتاكة، بما يُعد تدريبا يسير التكلفة، واستعراضا لقدراتها التسليحية، بما يُمكّنها من توسيع نطاق صفقات بيع السلاح، وقد سبق لنائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف أن صرح بأن الدول الأجنبية اصطفت في طابور لشراء الطائرات الروسية التي أظهرت قدرتها في سوريا. وفي سبيل تحقيق هذه الأطماع البعيدة عن حفظ أمنها، تقصف روسيا بطائراتها المستشفيات والبيوت، والتجمعات الخاصة بالمدنيين، بدعوى وجود إرهابيين، من دون اكتراث بالدماء التي تسيل ولم يحمل أهلها بندقية، في إزهاق واضح للقيم الإنسانية.

  

وإيران التي تمثل رئة النظام الأسدي والراعي الرسمي له، تتدخل في سوريا من خلال قوات الحرس الثوري، والأذرع الشيعية التي تقاتل لمنع سقوط بشار نيابة عن الولي الفقيه، وأبرزها حزب الله اللبناني، الذي صرح زعيمه من قبل أن حزبه يمثل إيران داخل لبنان، وغيره من الفصائل الشيعية من عدة دول. وهي بذلك تسعى للحفاظ على عميلها الذي يضمن وجوده إتمام مشروعها التوسعي في المنطقة، بعد أن ابتلعت العراق، وفي سبيل ذلك تبيد أهل هذه الأرض لا تفرق بين مدني وعسكري، وتورطت في ارتكاب العديد من المجازر بحق المدنيين، إضافة إلى التغيير الديموغرافي الذي تحدثه في تلك البلاد. إذن هاتان القوتان لا يحركهما الخوف على حدودهما من أخطار تهددها بقدر ما هي أطماع توسعية.

وأما تركيا، فهي كغيرها من الدول تتحرك وفق مصالحها، لكن مصالحها مشروعة تدور حول حفظ أمنها القومي، فهي مهددة بمساعٍ إلى إقامة دولة كردية على حدودها الجنوبية مع سوريا، وتسعى لتطهيرها من وحدات حماية الشعب الكردية، التي تمثل امتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي يسعى لحكم ذاتي في جنوب شرق تركيا، ويقوم بعمليات إرهابية ضد المصالح التركية. وهي مع رغبتها في تحقيق مصالحها، تسعى لإنشاء منطقة آمنة تستوعب عودة اللاجئين السوريين. تتدخل تركيا عسكريا نعم، بطريقة مباشرة وبدعم المعارضة نعم، لكن لنا أن ننظر إلى الجانب الأخلاقي في التدخل التركي، من جهة الدقة الشديدة في تحديد أهدافها العسكرية وتجنب تعريض المدنيين لأضرار الاشتباكات، ومن جهة الجهد الإغاثي الذي يبذله الأتراك للتقليل من آثار المعاناة المعيشية للشعب السوري، من توفير السلع الغذائية وبناء المساكن وملاجئ الاختباء، وبناء المدارس، وتقديم الخدمات الطبية ونحو ذلك. إذن نستطيع تلخيص طبيعة التدخل التركي في سوريا على أنه حماية للأمن القومي التركي، في إطار أخلاقي يراعي سلامة وأمن الشعب السوري، ويدعم قوات المعارضة التي تمثل الثورة السورية ضد نظام الأسد الفاشي غير الشرعي.

لقد أثار مقتل جنود أتراك في إدلب بقصف من قوات النظام، جدلا واسعًا في الأوساط العربية، حيث انهالت التصريحات والتعليقات الشامتة لكُتاب ومغردين ومدونين على مواقع التواصل، أبدوا سعادتهم بما حدث للجنود الأتراك، وروجت الصحف والمواقع الإلكترونية للحدث على أنه بداية النهاية لحكم أردوغان، الأمر الذي أثار إحباط الكثيرين من مؤيدي تركيا.

إن الشامتين المهللين لمقتل الجنود الأتراك، هم أنفسهم الذين يتبعون حكاما وأنظمة معادية لثورات الربيع العربي، تراهن على بقاء الأسد في السلطة وتقدم له الدعم. وبعض هذه الأنظمة التي يفترض بها رفض وجود الأسد في حل سياسي، بلغ بها العداء لتركيا أن تسعد للعملية العسكرية التي نفذها النظام ضد الجنود الأتراك في إدلب.

وعند هؤلاء وهؤلاء يسقط الشعب السوري وثورته على الطاغية من الحسابات، فلم نسمع لهم حسًا ضد التدخل الروسي والإيراني، ولم نسمع منهم لفظ احتلال روسي أو إيراني، رغم أنهما وحلفاءهما يدعمون النظام الهمجي الدموي، الذي سفك دماء مئات الآلاف من السوريين، حتى لا يترك كرسي الحكم، بينما تعالت الصيحات والصرخات عندما تدخلت تركيا وتم وصف تدخلها بالاحتلال، رغم أنها الدولة الوحيدة التي تعمل في سوريا بما يتوافق مع تطلعات الشعب السوري وثورته. ورغم أن تركيا محاطة بسياج من الأزمات والتآمر من قبل العديد من الدول والجهات العربية والأجنبية، إلا أن البشريات قد عادت مع الردود الحازمة للقوات التركية، بحرا وجوا على مواقع عديدة للنظام المدعوم من روسيا، وقد كشفت هذه الهجمات التركية عن مدى ما وصلت إليه أنقرة من تطور في صناعات الأسلحة المحلية.

وإنا لنستبشر خيرًا في نجاح المهام التركية لسبب بسيط، وهو أنها الجهة الوحيدة التي تعمل بما يتوافق مع صالح الشعب السوري، ولذا أدعو جميع من يقرأ هذه الحروف إلى إعادة تقييم موقفه من التدخل التركي في سوريا لا على أساس مصالح تركيا، وإنما على أساس مصالح الشعب السوري الذي يحق له أن ينعم بدولة غير مقسمة كما يراد لها، لا يحكمها هذا الطاغية الذي حول بلاده إلى شلالات من الدماء في سبيل البقاء في الحكم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.