تناقضات الحيران من تونس إلى السودان
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 5 سنوات و 10 أشهر و 21 يوماً
الأربعاء 30 يناير-كانون الثاني 2019 05:49 م
 

تحدث عن الربيع العربي وكأنه لعنة يسعى جاهداً لتجنيب بلاده السودان ويلاتها. قالها قبل أيام الرئيس عمر البشير في القاهرة أمام نظيره المصري الذي يعتبر نفسه أصلاً منقذاً لبلاده من «الفوضى» التي جاءت بها «ثورة 25 يناير» مع أنه كان يقول في البداية أن «ثورة 30 يونيو» جاءت لإنقاذ وتصحيح الأولى.

طبيعي ومفهوم أن يتحدث البشير أو السيسي بهذا المنطق فكلاهما يدافع عن سلطة مطلقة مضى عليها ثلاثون عاما بالنسبة إلى الأول وخمس سنوات بالنسبة إلى الثاني ولا ينويان البتة على ما يبدو التفريط فيها بسهولة، لكن ما هو غير طبيعي ولا مفهوم أن ينخرط كثير من المثقفين بتلويناتهم المختلفة في تناقضات لا حدود لها كلما تعلق الأمر بالنظر إلى «الربيع العربي» والمحطات التي مر بها منذ أن انطلق مسرعا من تونس ذات يوم من شهر كانون الأول/ديسمبر عام 2010.

هذا الربيع الذي يريد السودانيون أن يزهر في بلادهم فيخلصهم من حكم شمولي لا ينوي التزحزح ومن رئيس يتحصن بهم حتى لا يمثل أمام محكمة الجنايات الدولية، وهذا الربيع الذي توهم بعض المصريين أنه سيلبس عندهم حلة أخرى فإذا به ينزعها ويزدريها هو ذات الربيع الذي وقف أمامه كثيرون باضطراب شديد فأظهر الكثير من عوراتهم في الحكم عليه فكشف تناقضاتهم في مسألة يفترض أنها مبدئية ولا جدال حولها وهي الحرية والكرامة وحق الشعوب في أن تعيش في ظل حكم يوفر لها كل مقومات الحياة الكريمة، لا أن يسوسهم كالقطعان إن لم يكن أضل سبيلا.

التمرد على الاستبداد واحد والقرف من الفساد واحد ونفاد الصبر من طول الحكم وإذلاله واحد ومع ذلك تختلف المواقف عندما توضع على المحك. يعود ذلك أحيانا إلى اجتهادات مختلفة في فهم الأمور، وبالتالي فحسن النية هو الغالب في هذه الحال، لكن الكثير منه يعود لارتباطات ومصالح سابقة أو منافع منتظرة وهنا تتجلى المفارقات في أكثر أوجهها وضوحاً واستفزازاً.

لنبدأ بالسودان باعتباره آخر الحلقات الكاشفة لما سبق: صحافيان عربيان معروفان، يقيمان في أوروبا منذ سنوات ويعرفان تماما نعمة الحرية وحلاوة التداول السلمي على السلطة، الأول أبدى تعاطفه مع ما يجري هناك من تظاهرات احتجاجية ضد البشير فقال عنه إنه «قاتل الأطفال في اليمن» بحكم مشاركته في حرب «التحالف العربي» هناك لكن هذا الصحافي نفسه متعاطف مع بشار الأسد ولم يدن أبداً قتله لأطفال شعبه وتشريده بل هو سعيد حاليا بـ«النصر» الذي حققه على «المؤامرة الكونية» ضد حكمه «الممانع»، كما أنه كان قبل ذلك متعاطف مع الراحل علي عبد الله صالح وما كان يرى في الثورة عليه أي مبرر رغم أنه يشترك مع البشير في أسلوب حكمه وطول سنواته.

الصحافي الثاني هلّل لكل ثورة حتى إذا ما وصلت السودان انبرى مدافعا عن البشير بضراوة داعيا السودانيين إلى التعقل حتى لا يحل بهم ما حل بتونس الذي كان هو مزهواً وقتها برحيل بن علي عنها!!

مجرد نموذج صارخ لكن ليس الوحيد لأنه من المفترض أن المبدئي والمنصف إنما يقف مع قيم الحرية الكبرى ويدين كل من يعترض مسيرتها خاصة إذا لجأ في ذلك إلى إراقة دماء شعبه كائنا من كان. هو يدافع عن كل هبة شعبية غاضبة ضد الاستبداد ومع الديمقراطية وكسر سطوة أجهزة الأمن والمخابرات على كل مفاصل الدولة.. ولكن ما الذي حصل للكثير من بيننا:

هذا هلل لما حدث في تونس ومصر حتى إذا وصل إلى ليبيا صرخ وقال انظر إلى «الناتو» وما يفعله هناك متجاهلاً ما كان يفعله القذافي، ثم واصل سيره مؤيداً ما حدث في البحرين واليمن!!

هذا أيد ثورة تونس فمصر فليبيا فاليمن فالبحرين حتى إذا ما اندلعت الاحتجاجات في سوريا صرخ «مؤامرة» ضد «محور الممانعة»!!

هذا وقف مع كل الثورات حتى إذا تحرك البحرينيون قال «شيعة تدعمهم إيران»!!.

هذا الذي وقف مع بشار لا يجد حرجا في تقريع من تخاذل في دعم البحرينيين!!

هناك أيضا من ساند كل الثورات حتى إذا وصلت السودان اعتبرها «ثورة مضادة»!!

هناك أيضا من كان ينتقد «الربيع العربي» ويرى فيه شراً مطلقاً بلا جدال، ولكن عندما تحرك السودانيون رأى من الواجب مساندتهم في احتجاجاتهم!!

إنه أشبه بسباق حواجز، يجتاز الواحد منا بعضها ويتعثر في بعضها ويسقط في بعضها الآخر، سقطة خفيفة أو مخجلة. ومع ذلك ترى من يسقط هنا لا يتردد في معايرة من سقط هناك وهكذا…

المهم أن نعتبر جميعنا من كل ذلك وصولاً لليوم الذي نجتاز فيه جميعنا كل هذه الحواجز، يوم يصبح الحق أحق أن يتبع والمعيار واحداً والمبدأ لا يتجزأ…