هل ستبقى مواقع التواصل الاجتماعي صوت الشعوب
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 6 سنوات و 3 أسابيع
السبت 01 ديسمبر-كانون الأول 2018 08:39 م
 

الجميع يتحدث عادة عن الديكتاتوريات السياسية والعسكرية، لكن لا أحد يتحدث عن الديكتاتوريات الإعلامية التي تجتاح العالم وتدخل البيوت دون استئذان، مع العلم أنها ليست منتخبة ديمقراطياً، بل تفرض نفسها على الشعوب بشتى الطرق والوسائل الملتوية لتفتك بالعقول وتشكل الرأي العام حسب مصالح مموليها والمسيطرين عليها. وقد كان الإعلام في العالم العربي على الأقل حتى سنوات مضت أداة إرهاب وترهيب في أيدي الدول والحكومات لتطويع الشعوب وتركيعها وتدجينها خدمة للديكتاتور والديكتاتوريات. لكن هذا الوضع بدأ يتغير منذ العقود الثلاثة الماضية عندما ظهرت تقنيات البث الفضائي والأقمار الصناعية، مما سمح لجهات كثيرة بإنشاء قنوات فضائية، بعضها ظل تحت سيطرة الحكومات وأذنابها من رجال الأعمال والمتمولين، والبعض الآخر استغل الفضاء المفتوح جزئياً للتحرر من ربقة الطغيان المخابراتي الذي ظل يدير الإعلام الرسمي منذ منتصف القرن الماضي.

لكن الثورة الفضائية رغم نجاحاتها الكثيرة، انحسرت في نهاية المطاف في أيدي الدول، مع استثناءات قليلة شذت عن الخط الرسمي. لكن الأغلبية بقيت تدور في فلك الحكومات. ولعل الامبراطورية الإعلامية السعودية أكبر مثال على ذلك، فعلى الرغم من إطلاق عشرات القنوات والصحف العابرة للحدود، إلا أنها ظلت أسيرة التوجهات السعودية الرسمية، خاصة وأن ممولي تلك القنوات هم من حاشية السلطة والمقربين منها سياسياً ومالياً. لكن قبضة الديكتاتوريات العربية على وسائل الإعلام تلقت ضربات موجعة عندما ظهرت الهواتف الجوالة، وأصبح كل من يحمل موبايلاً صحافياً أو مراسلاً بطريقته الخاصة. وقد ساهمت تطبيقات الاتصالات والتواصل الحديثة عبر أجهزة الموبايل في تحرير الإعلام وإخراجه إلى حد ما من ربقة الأجهزة، بحيث صار الناس يتداولون الأخبار التي تهمهم عبر أجهزتهم بعيداً عن الدول، مما حرم الإعلام الرسمي والإعلام شبه الرسمي الدائر في فلك السلطات الكثير من التأثير والانتشار. لكن بالرغم من انتشار وتأثير تطبيقات التواصل الخليوية، إلا أنها تبقى تحت رحمة الدول التي تستطيع إما حجبها أو مراقبتها أحياناً. ولا ننسى أن الكثير من الحكومات العربية وضعت قوانين صارمة لملاحقة مجرمي االتواصل الاجتماعي. وهناك أجهزة ووسائل مراقبة للتجسس على الاتصالات والتواصل بين الناس، بحيث بات البعض يرسل لك رسالة عبر تطبيق الواتساب وغيره، ثم يمحوها من جهازه فوراً خوفاً من الملاحقة خشية أن تطّلع عليها كلاب الصيد السايبرية.

لكن انتشار مواقع التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها من المواقع التي انتشرت كالنار في الهشيم بين شعوب العالم، والشعوب العربية خاصة، جعلت الكثيرين يظنون بأن الإعلام سيخرج نهائياً هذه المرة من يد الحكومات ووزارات الإعلام العربية. وهذا ما حدث فعلاً منذ سنوات، بحيث أصبحت مواقع التواصل لأول مرة في التاريخ البشري صوت الشعوب الحقيقي، بحيث تحول كل فرد يملك جهاز كومبيوتر أو حتى هاتفاً خليوياً إلى ناشر وصحافي بطريقته الخاصة. ولا يكلف المرء سوى فتح حساب شخصي أو صفحة على مواقع التواصل ليبدأ بمخاطبة العالم أجمع بالنشر والتعليق والتوجيه. وهنا فعلاً وجدت الدول نفسها لأول مرة في تاريخها في الزاوية، بحيث خرج الأمر من يدها تماماً رغم كل ما استثمرته في التجسس والمراقبة والضبط. بالطبع لا يمكن للدول أن تراقب ملايين الحسابات على مواقع التواصل، ولا يمكنها أيضاً أن تعاقب ملايين البشر على ما ينشرون إذا ما خرجوا عن طوقها. إلا أن هذه الفرحة بظهور مواقع التواصل وتحولها إلى برلمانات شعبية حقيقية للتأثير على الحكومات وتفنيد رواياتها السياسية والاجتماعية، بدأت تتلاشى في الآونة الأخيرة.

وجدتها وجدتها، صاحت الدول. لماذا نترك هذا الفضاء التواصلي الرهيب تحت سيطرة الشعوب؟ لماذا لا نتدخل نحن بطريقتنا لاستغلال تلك المواقع للدعاية والترويج والتضليل بنفس الطريقة التي كنا نشتغل بها في وسائل الإعلام التقليدية القديمة؟ وفعلاً بدأت الدول تصنع جيوشها الالكترونية الجرارة، وتنفق عليها الملايين لكبح المد الشعبي لتلك المواقع. ليس هناك الآن بلد عربي لا يمتلك جيشاً أو ذباباً الكترونياً تديره أجهزة المباحث والمخابرات للترويج لوجهة النظر الرسمية ولإرهاب الشعوب وتحويل تلك المواقع إلى مجال حيوي للدول والحكومات. وقد شاهدنا كيف جندت السعودية عشرات الألوف من الشبان لمهاجمة كل من ينتقد النظام، لا بل إن الإرهاب والترهيب الحكومي في السعودية أدى إلى خروج ملايين المغردين السعوديين رغماً عنهم من موقع تويتر مثلاً ليفسحوا المجال للون واحد من الرأي، ألا وهو رأي الذباب الكتروني الذي يسبّح بحمد النظام وحاشيته.

حاول أن تنشر أي استطلاع حول قضايا سعودية في تويتر حيث يسيطر الذباب الكتروني، فستجد أن غالبية المصوتين من الذباب، بحيث تكون النتيجة لصالح النظام، لكن ليس نتيجة استفتاء حر، بل نتيجة تجنيد ألوف المرتزقة للتصويت باتجاه معين. وبذلك تكون بعض مواقع التواصل قد أصبحت وسائل دعاية لهذا النظام المتنفذ أو ذاك، خاصة وأن المغردين المستقلين والأحرار يخشون أحياناً من التعبير عن آرائهم الحقيقية بعد أن بات المنشور التويتري أو الفيسبوكي يودي بصاحبه إلى غياهب السجون.

والأخطر من ذلك، وبعد أن بدأ بعض مواقع التواصل يتخلى عن وظيفته التواصلية ويتجه باتجاه العمل التجاري، راح الكثير من المتمولين والحكومات الثرية تحاول شراء الحصص في مواقع التواصل الدولية للسيطرة عليها وتسييرها في الاتجاه الذي يخدمها، ولطرد الأصوات التي يمكن أن تزعجها. ولطالما سمعنا عن اختراق بعض الدول لهذا الموقع أو ذاك. وإذا استمرت النزعة التجارية في مواقع التواصل، فستجد الدول، وخاصة الثرية، منفذاً واسعاً لها للتغلغل فيها وحرفها عن مسارها التواصلي وتحويلها إلى أدواة دعاية وترويج مدفوعة الثمن. وبذلك تأخذ الدول والحكومات زمام المبادرة ثانية في السيطرة على وسائل الإعلام التي ظننا خطأً أنها خرجت من قبضتها.