الدعوة الفاجرة
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 6 سنوات و 5 أشهر و 26 يوماً
الأربعاء 27 يونيو-حزيران 2018 08:16 م
  

كل دعوة تُحَبِّبُ الفقر إلى الناس، أو تُرضِّيهم بالدون من المعيشة، أو تُقنعهم بالهُون فى الحياة، أو تُصبِّرهم على قبول البخْس، والرضا بالدَّنِيَّة، هي دعوة فاجرة!

يُراد بها التمكين للظلم الاجتماعي، وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد. وهي ـ قبل ذلك كله ـ كذب على الإسلام، وافتراء على الله.

صدق المفكر الراحل محمد الغزالي، هي دعوة فاجرة، تلك التي تَلْبسُ ثوب الحق، وهي تُخفي وراءها الباطل، وما بين الحق والباطل حدٌّ فاصل رقيق، يقف عليه المُلَبِّسون على الناس دينهم.

في الوقت الذي تئِن الشعوب العربية من سوء المعيشة وغلاء الأسعار، في ظل الأنظمة الفاسدة التي سرقت خيرات العباد، ينبري كهنة المعبد لدعوة الناس إلى الصبر على المصائب والنوائب، والرضا بقضاء الله وقدره، وتحميلهم المسؤولية عن ذلك الغلاء، بسبب ذنوبهم، والهدف واضح، وهو التغطية على فساد السلطة وسوء إدارتها للبلاد، ونأيها عن مسار العدالة الاجتماعية.

هو المنهج ذاته الذي تبنّاه نابليون بونابرت في حمْلته على مصر، حينما وزع منشورًا على المصريين يأمرهم فيه بالرضا بقضاء الله وقدره، والتحذير من أن مقاومة الفرنسيين معارضة للأقدار. وهو المنهج ذاته الذي تبنّته بعض الطرق الصوفية المُغالية التي روّجت للمُحتلين، بحجة أن جهادهم ينافي الرضا بالقضاء والقدر.

واليوم تُروِّج عمائم السلطات لتلك الدعوة الفاجرة، التي يُراد بها تبرير الظلم الاجتماعي، ولا خلاف في أن المسلم يرضى بقضاء الله وقدره ويصبر على الفقر وشَظَف العيْش، لكن الدّين الذي أمره بذلك، هو الدين ذاته الذي أمره بالأخذ بالأسباب، وإصلاح الأوضاع الفاسدة، والأخذ على يد الظالمين.

هؤلاء الذين يُحمِّلون الشعوب مسؤولية الغلاء وسوء الأوضاع المعيشية، ويأمرونهم بالتوبة حتى تنقشع الغُمّة، لم يخبروهم أن من هذه التوبة التصدي للفساد السياسي والمالي الذي صنع الأزمات الاجتماعية، وأحدث شرخًا في المنظومة القيمية للمجتمعات.

إنهم يُمْعِنون في التلبيس على الناس، فيستحضرون حقبة في العهد النبوي كان المسلمون يأكلون فيها أوراق الشجر، والنبي صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، فصبروا على الفاقة والعَوَز.

ووجْهُ التلبيس، أنهم يُشبهون العهد النبوي، الذي كان يحكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير من عدل وحكم بالقسط»، بحكم المُستبدين الذين نهبوا ثروات الأمة، وأودعوا خيراتها في يد ثُلّة من شرذمة تقوم بدور الظهير لكل طاغية، تدعم مُلكه، وتنوب عن الشعب المطحون في إظهار الرضا بقرارات السيد، ولو كان الشعب لا يجد قوت يومه.

الذين يأمرون الشعوب بالصبر على الجوع في ظل فساد السلطات، هم تلك الطبقات التي لم تُجرّب معنى خواء البطون، فهم الذين يأكلون في المطاعم الفاخرة، وغيرهم يبحث عن كسرة خبز في حاويات القمامة، يركبون السيارات الآخرة وغيرهم يتكدّس في وسائل النقل العامة، يسافرون للعلاج في الخارج وغيرهم لا يجد لولده ثمن زجاجة دواء، يُلحقون أبناءهم بالمدارس الخاصة، وغيرهم لا يجد لأبنائه ثمن حقيبة مدرسية أوّل العام.

فأنى لمثل هؤلاء الذين لم تُصبهم الدائرة أن يشعروا بالفقير؟

الذين يتكلمون منهم باسم الدين ويتحدثون عن خلافة عمر، التي شهدت عام المجاعة وصبر الناس عليها، لم يتحدثوا أن الخليفة عمر شارك رعيَّته المعاناة، ولم يكن له قصر منيف يأكل فيه أشهى الأطعمة بمعزل عن الجياع، بل كان يُقرْقر بطنه من أكل الخبز والزيت.

ولم يذكروا للناس أن أحد رعية عمر بن الخطاب، عارض أمير المؤمنين عندما أمرهم بالسمع والطاعة، فقال الرجل لا سمع لك ولا طاعة حتى نعلم من أين أتيت بالثوبين مع أن القسمة اقتضت أن يكون لكل فرد ثوب واحد، فلما أتى الخليفة عمر بولده وأخبرهم أن أباه رجل طويل لا يكفيه ثوب، فمن ثم أعطاه الثوب خاصته، فاطمئن الرجل وقال: الآن نسمع ونطيع.

والقصة مشتهرة في غير كتاب من كتب التراث، والعهدة على أهل التحقيق كابن القيم في إعلام الموقعين، وابن الجوزي في صفة الصفوة، وغيرهما من العلماء.

فرقٌ كبير في أن تحْدُث الأزمات المعيشية بسبب قلة الموارد والخيرات، مما لا دخل لأحد فيه، وأن تحدث تلك الأزمات بسبب فساد السلطة وغياب العدالة الاجتماعية، ففي الأولى تكون الدعوة إلى الصبر والرضا مقبولة، وفي الثانية لا تعدو هذه الدعوة أن تكون تبريرًا للجوْر والسرقة والظلم.

وربما تكون الدعوة للصبر والرضا بسوء الأوضاع المعيشية وغلاء الأسعار مقبولة، إذا أظهرت تشَارُكَ الحاكم والمحكوم المسؤولية في حدوث الأزمات، وأن على الطرفين إصلاح الفساد كلٌ في ميدانه ونِطاقِه، أما تحميل الشعوب وحدها المسؤولية فهذا حديث المُزوِّرين.

الشعوب عندما ترضى بالهوان والمذلة وفتات الخبز، بينما ثمرات كفاحها يأكلها المترفون، فإنها على جهل عظيم بعلاقة الحاكم بالمحكوم، فالسلطان للأمة، تُولّي من يحكمها، وتراقبه، وتحاسبه، وتعزله إن اقتضى الأمر بالطرق المشروعة، وليس السكوت على الظلم الاجتماعي رضًا بالقضاء والقدر، بل هو سلبية وخنوع وتضييع للحقوق.

وليست تلك الكلمات خطابًا تثويريًا، وإنما هو بيان لزيف هذه الدعوة الفاجرة التي لا يستفيد منها سوى الأنظمة المُستبدة التي استأثرت لنفسها بثروات الشعوب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

* إحسان الفقيه كاتبة أردنية

 
مشاهدة المزيد