مكونات الحراك.. ونظرية المُجتمع الفسيفسائي..! ..
بقلم/ همدان العليي
نشر منذ: 14 سنة و 10 أشهر و 26 يوماً
الخميس 28 يناير-كانون الثاني 2010 09:28 م

سبق وتحدثنا عن المُجتمعات الفسيفسائية في مقال سابق، وقلنا بأن المُجتمع الفسيفسائي في نظر فقهاء علم الاجتماع: عبارة عن تجمعات بشرية غالباً ما تُقدِّم الهوية الخاصة (مصلحة الطائفة أو القبيلة أو الجماعة أو الحزب) على الهوية العامّة، ونظراً لتغليب المصلحة الفئوية على المصلحة العامة، كثيراً ما تنشب النزاعات والفتن في هذه المُجتمعات كما ورد في أحد مؤلفات الدكتور السوري حليم بركات. أيضاً أشرنا في نفس المقال إلى أن التكوين المُجتمعي في المحافظات الجنوبية اليمنية على الأرجح مُجتمع "فسيفسائي" والسبب يرجع إلى أن جنوب الوطن كان حتى زمن ليس ببعيد مقسّماً إلى عدد من السلطنات والمشيخات التي كان لكل كيان منها حدود جُغرافية مُحددة، وقوانينها وأعرافها الخاصة، ولم يكن لجنوب الوطن كياناً واحداً يحتوي ويضم المجتمع الجنوبي اليمني تحت مُسمى قومي واحد إلى أن تم ذلك على يد الاحتلال البريطاني بالقوّة سنة 1959م والذي سمُي حينها(اتحاد إمارات الجنوب العربي) وعندما وصل عدد الدول المتحدة إلى إحدى عشر دولة، تم تغيير اسمها إلى(اتحاد الجنوب العربي) عام1962م.. أما في السابق، فقد كانت المجتمعات في إطار كل سلطنة أو مشيخة تدين بالولاء لسلطنتها أو مشيختها وفق المصالح الوطنية الخاصة بكل قطر، وبالتالي كانت الحروب تنشب بينها من وقتٍ لآخر حتى بعد أن وحّدت بريطانيا تلك الأجزاء قسرا لأنه من الصعب التخلي عن ثقافة التقوقع والتقسّم أو الاستئثار الفئوي في وقت بسيط في حين أن هذه الثقافة تجذرت عبر سنوات طوال، ولعل ما حدث في جنوب اليمن من حروب وتصفيات داخلية طائفية دموية قبل الوحدة اليمنية أكبر دليل على فسيفسائية المجتمع في هذا الجزء من وطني الحبيب.. بخلاف المُجتمع في شمال الوطن والذي أُرجّح على أنه مجتمع تعددي، فهو يتكون من تعدد ديني(مسلمين ويهود) ومذهبي(شوافع وزيود وصوفيين ومكارمة) إضافة إلى التعدد في التكوين القبلي.. فبالرغم من كل هذا التعدد، هناك تعايش وتوافق نسبي مقارنة بجنوب الوطن، وهذا لا ينفي حدوث حروب آنية بين القبائل، أيضاً وجود انقلابات واغتيالات سياسية.. ولكن لم يحدث قط أن تم التصفية العرقية بالهوية كما حدث في الشطر الجنوبي اليمني قبل الوحدة، ويرجع هذا التناسب والتعايش في هذا المجتمع المتعدد الديانات والمذاهب والثقافات؛ إلى الحكم الامامي الواحد على كل مناطق شمال اليمن، فقد هذّب ونمّط المجتمع في تلك المناطق على مفهوم الوطن الواحد، وهذا ما نحتاجه اليوم حتى لو اضطررنا إلى تقديم بعض التضحيات، وليس كما ينادي البعض بمشروع الفيدرالية.

لاقى هذا الرأي انتقاداً شديداً في بعض المحافل السياسية الالكترونية بالرغم من أني هدفت من خلال هذا الطرح إلى التوضيح بأن ما يحدث من التفاف حول هدف الانفصال في بعض المحافظات الجنوبية، ما هو إلا التفاف آني ووقتي وسينتهي مع قضاء الهدف وهناك مؤشرات كثيرة تؤكد ذلك سنذكر بعضها في هذا المقال.. أيضاً-كما وضّحت آنفاً- هدفت في مقالي السابق إلى إظهار أهمية وحدة الشعوب في إلغاء نزعات ورغبات المجتمعات الفسيفسائية الدائمة في التشرذم والتقوقع أو الاستحواذ، كما أنهت الوحدة اليمنية نزيف الدم بين أبين ويافع والضالع وشبوه.. وبالتالي لم ولن يكن القصد من طرحي التقليل من شأن أبناء وطني، كما أني لا أجد هنا ما يُعيب في استخدام مُصطلح (فسيفسائي) على أي مُجتمع إن كان كذلك، لأنها تصنيفات ومُسميات علميّة، حاولتُ أن أعكس بعضها على المُجتمع الذي أنحدر منه وليست للسخرية أو للتقبيح كما استخدمها أو فسرها بعض أمراض النفوس..

نحن اليوم ربما نؤكد على ما جئنا به في مقالنا السابق إذا ما ذكرنا تعدد وتنافس مكونات ما يُسمى بالحراك المختلفة، وأسقطنا هذا التعدد والتشرذم-الذي يصفه البعض بالصحّي- بين جماعات الحراك على نظرية المجتمع الفسيفسائي.

إذا عدنا إلى ما قبل استقلال جنوب الوطن من براثن الاحتلال البريطاني، نجد أن الحركة التحررية في المجتمع قد أفرزت كثيرا من الهيئات والنقابات والتكتلات السياسية التي كانت تتوحد في هدف إخراج المحتل، وتختلف في الرؤى والوسائل والأيديولوجيات والاستراتيجيات.. وكثيراً ما كانت تحدث التداخلات والتصادمات بين أنشطة هذه الكيانات السياسية المختلفة حتى وصل الحال ببعضها إلى تخوين الآخرين وتسفيههم.. وبعد خروج المحتل البريطاني من جنوب الوطن، نشب العراك على من هو الأحق بالسلطة وقيادة البلاد، فهناك من جعل الأحقية له كونه حارب هو وزمرته في الميدان عسكريا، وهناك من جعل الحق له كونه من لعب الدور السياسي في هذه الحرب على المستعمر، وهناك من نسب لنفسه الحق لأنه يملك مشروعاً تنموياً أقدر من نظيره، وهناك من أراد أن يُرجع زمن السلطنات والمشيخات، وهناك من طلب بأن تكون عدن للعدنيين.. وهناك من أراد حضرموت للحضارم.. وهكذا استمرت هذه المُماحكات السياسية وصولاً إلى الفشل الاقتصادي والسياسي وحدوث تصفيات يناير1986م التي كان يسعى أصحابها إلى الاستئثار الفئوي-وليس الفردي- بالحكم.

اليوم يتكون الحراك من مكونات مُختلفة، وأستغرب من وسائل الإعلام العربية التي تختزله تحت مسمى واحد وتحت إدارة وزعيم واحد، لأن هناك كثير من التيارات لا تعترف بالمدعو علي سالم البيض زعيماً لها، وهناك من لا تعترف بالمدعو طارق الفضلي كقائد عليها، كما أن هناك جماعات لا تُريد حراكاً سلمياً ويُريدونها بحاراً من الدماء، وهناك من يريد إنعاش الحزب الاشتراكي الجنوبي ليكون الرائد في الساحة الجنوبية، وهناك الناقم على الحزب الاشتراكي ويُحمّله كل ما يسموها بانتكاسات الجنوب.. وهناك تيارات قاعدية تستشري وهدفها دولة إسلامية(بمعنى أصح قاعدية).. وهناك تيارات داعمة للحراك وهي صامتة تنتظر الفرصة لكي تقوم بفصل حضرموت.. باختصار كوكتيل من الحركات السياسية المُتشددة، لكل واحدة اديولوجياتها ورؤاها المستقبلية الخاصة التي من الصعب جداً التخلي عنها مستقبلاً.

 يقول البعض بأن تعدد وتنافس وتشدد مكونات مايُسمى بالحراك ظاهرة صحيّة ومفيد للقضية، بينما يرى المتابعون عكس ذلك، فلو كانت ظاهرة صحية لاستفاد جنوب اليمن اقتصاديا وسياسياً من تلك الانشقاقات والكيانات التي ظهرت قبل وبعد الاستقلال وصولاً إلى الوحدة اليمنية.. ولم يعش تلك الحروب الدموية الطائفية الطاحنة.

الخلاصة.. ما حدث قبل استقلال جنوب الوطن من الاستعمار البريطاني، وما حدث بعده، وما يحدث اليوم في أروقة ما يُسمى بالحراك المُطالب بالانفصال، ما هي إلا إثباتات على فسيفسائية المجتمع في هذا الجزء من فؤادنا –وطننا- وهذا الأمر يدفعنا إلى الحث مُجدداً على أهمية وحدة كل أراضي اليمن كونها الوسيلة الوحيدة القادرة على تنميط الناس على التعايش في ظل وطن واحد مع إمكانية وجود الآراء المُتعددة البناءة، أما التشرذم فما هو إلا أساس لتشرذم آخر ستخلق له المسوغات والمبررات حينها، وقد أشار إلى ذلك الأستاذ الدكتور صالح باصرة -وزير التعليم العالي باليمن- في تساؤله عندما خاطب مكونات ما يُسمى بالحراك عبر لقاء تلفزيوني حين قال( هل يعتقد أبناء الضالع وأبين ولحج بأن أهل حضرموت وشبوة سيقبلون أن يتحكم البعض بالثروة الموجودة في أراضيهم إذا ما تم الانفصال فعلاً؟ )، أيضاً قد أوضح هذا الأمر الدكتور عيدروس النقيب بطريقة أُخرى في لقاء تلفزيوني مُماثل.. فهل من مُتأمل؟