آخر الاخبار
يا بحارة مارسيليا ،, لقد رحل صالح سميع.
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 16 سنة و 6 أشهر و 16 يوماً
الثلاثاء 03 يونيو-حزيران 2008 11:35 م


مأرب برس- خاص

منذ عامٍ واحدٍ فقط كان د. صالح سميع، وزير شؤون المغتربين المقال المستقيل، يتحدّث في لقاءات صحفيّة عديدة عن اليمنيين في الشتات. بدا مدركاً بعمق لمشاكلهم واحتياجاتهم، وأبعد من ذلك : لواجباته في العهد القادم. كانت مهمّته الأولى هي استعادة الاختصاصات المخطوفة، بحسب مقولته لصحيفة النداء بتاريخ 3 مايو 2007. وضع حجراً على حجر وتحدّث بطريقة أشبه بمصلحي القرون الوسطى عن أمانيه ومشاريعه، عن مكاتب تخص المغتربين يجري الإعداد لفتحها في السفارات، عن الاستقطاعات التي يقوم بها طيور النور والظلام من مخصصات الجاليات، هكذا قالها سميع : انتهى زمن الاستقطاعات إلى الأبد. وكما كان يتحدّث في إنتاجه الفكري المهم " أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي" فقد تحدّث عن أزمة المهاجر اليمني بنفس الدرجة من العمق. ففي برمنجهام عالج إشكالية يمنية عميقة أسماها " نزعة التحكم التاريخية لدى الفرد اليمني" وتحاور مع المتصارعين على قيادة الجالية اليمنية هناك بلغة يسمعونها كثيراً في ذلك البلد، لغة الديموقراطية، فهزوا رؤوسهم بخجل، واستجابوا له. وعندما أدار وجهه تجاه فرنسا فإنه كان يقصد مكاناً غير مسبوق بالنسبة لمسؤول يمني، بالنسبة ليمني إجمالاً. عن ذلك المكان قال سميع : يوجد في مرسيليا 600 يمني، هم بحارة سابقون، وضعهم مزري للغاية، ومحبط، حتى أن أبناءهم فقدوا هويّتهم، تقريباً فقدوا لغتهم الأصلية. وعندما سألته صحيفة 26 سبتمبر، قبل حوالي عام، عنهم قال إنه زار فرنسا واقترب منهم كثيراً. وبأسى قال للصحيفة إنه سيفعل شيئاً ما حيالهم. كم هي مفاجئة فخمة أن يتحدث وزير للمغتربين – في بلد يقال لها اليمن ، من أرض الله - عن تقصّيه لمشاكل مواطنيه، مرؤوسيه ، لدرجة إحاطته بوضعية بحّارين تائهين، بحارين قدامى، رجال امتصتهم المحيطات والأمواه من ساحل عدن إلى جيبوتي، وبعيداً حتى ألقتهم على سواحل مرسيليا المكشوفة، السواحل التي تدفع فيها حتى طيور المحيط ثمناً للإقامة. عندما قرأت تلك المقابلة حسبت أني أسترخي بجوار صموئيل كوليردج وهو يدندن بأغنيته الشهيرة "سجع الملاح القديم" ومن خلفه تعوي البحار مثلها مثل ذئاب البر: ماء في كل مكان، لا قطرة للشرب. وبالمناسبة : هل تحدّث " أتخن تخين" في اليمن قبل صالح سميع عن البحارة اليمنيين، هؤلاء .. بحارة سميع؟ هل قرأتم قبل " صالح كوليردج سميع" عن بحّارة يمنيين منذورين " للشمس وللشطآن"؟  

  

حتى عندما كان يتحدّث عن اليمنيين في السعودية، أعني اليمنيين قبل الأخدود الشهير في خميس مشيط، الجياع غير أولئك الذين أعادوا لسورة " والسماء ذات البروج" معناها المادي المحسوس من جديد.. كان سُميع كوليردج يستخدم لغة دالّة غريبة على فضاء التداول اللغوي في اليمن : نسعى لاستعادة جثّة 150 يمني ماتوا في السعودية بسبب حوادث السير. نحنُ نسمع ، فيما نسمع ونرى، عن الدول الكبرى التي تفتح أراضيها وسماواتها لاستقبال جثامين مواطنيها في الخارج، وتصرّ على أن يختلط طينهم بطين بلدهم حتى لا تطول غربتهم أكثر مما ينبغي. نسمع، فيما لا يسمع أولئك الذين لا ينبغي أن نتحدث عنهم، عن كل ذلك ونلقي أصواتاً ثقيلة إلى دواخلنا، تطابق مقولات العراقي التائه أحمد مطر : يا ليل يا عين، متى الثورة تُشعلْ. لترى عيني وهذا الليل يرحل. وكنّا، حين نلعبُ الشطرنج والدومينو، ننتظر ذلك الزمن الذي سيغني فيه الموتى اليمانون: ليت شعري متى شلقي عصاة المسافر. ويأتينا من الأبعد، من بقعة في الفؤاد، صوتٌ يمنيّ يصلبه الموت على بوابات الدنيا السبع: أريد أن أرمي بكل المسافات، وأنتظي حلمي مثل نجم منفلت، أبحث عن حفنة تراب تختلط بي وأختلط بها، أسميها وطناً. هذه المقولة الفائقة للبنانية الراحلة ليال نبيل، هي سجع ملاح جديد، كانت حاضرة في معيّة صالح سميع حتى لحظة خروجه من الوزارة في 12 مايو، 2008. هل يتذكر أحد تلك العبارة التي كتبها مغترب شريد على جدران عمارته ذات السبعة أدوار في صنعاء، عندما فشل لمدة سبع سنوات في أن يستكمل تشطيبها بسبب منعه من قبل شخصية قوية تسكن بجواره ادّعت أن تشطييب العمارة سيحجب الشمس عن داره. وعندما يئس من المستقبل اليمني كتب عبارته الشهيرة : هذه العمارة للبيع، سنعود إلى الغربة من جديد، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. تُرى ما الذي فعله سميع لأجل ذلك المغترب؟ لقد فعلَ شيئاً مهمّاً، ونافعاً، يتذكره ذلك المغترب، ويلوكه النافذ. يُقال أن صالح سميع استردّ لمواطن مظلوم بيته من حوزة أحد مشرّعي اليمن، أحد صانعي مسوّدات الدستور والقوانين واللوائح والتشريعات ( مجازاً يعني، مش أوي كده). ويروى أبعد من ذلك.. في ساعةٍ ما امتلأت نفسٌ يمنية بكبرياء محض، فوزير شؤون المغتربين سيسترجع جثامين أهالينا في الشتات، مثلما تفعل الدول العظيمة. يا للخيبة، الآن .. 

  

 قال صالح سميع في واحد من مشروعاته: الحساب الجاري للمغتربين يمثّل 70% من إجمالي الحساب الجاري في اليمن، وتقدر استثمارات اليمنيين في الخارج بحوالي 33 مليار دولار، فضلاً عن 5 مليارات في اليمن. قال أيضاً : العمل على سحب بعض هذه الاستثمارات إلى الداخل اليمني لتحريك الاقتصاد هي إحدى مهامي القادمة. لم يكن يتخيّل أنه سيخرج وحيداً إلى داره، وسيتناوب على هجائه واتهامه بالفساد أكثر من مصدر مسؤول مجهول عبر وسائل إعلام مملوكة للدولة، ويساهم في تمويلها بوصفه دافع ضرائب، بسبب إصراراه على أن يذهب مبلغ 4 آلاف دولار شهريّ من جيب سمسار، مرحّل سابق من أثيوبيا في قضايا أخلاقية أقلّها الاعتداء على سيدة محترمة فضلاً عن الاختلاس وعدم الكفاءة، إلى مخصصات دعم الجاليات التي هي أحوج ما تكون إلى شيء يربطها بالوطن الأم، ولو على شكل أغنية في "نوح الطيور". كان من الصعب في لحظة ما أن يتخيل صالح سميع أن البلد الكبير يمكن أن يقايضه بسمسار من الدرجة العاشرة، أن يدوس على شهادة دكتوراه في القانون الدستوري لمصلحة شهادة ابتدائية يحملها سمسار اختلس في خلال ثمان سنوات 60 مليون ريال يمني. مع العلم بأن مخصصات دعم الجاليات لم تتعدّ الـ 63 مليون ريال يمني. كان صالح سميع، في ساعة المكاشفة تلك، أشبه ببروميثيوس، حامل الشعلة المقدّسة، يتخايل أمامه هذا السمسار على شكل فزّاعة جديدة، قمة جبل جليد يتخفّى تحتها آلاف الكيلومترات من الأسرار، ومئات القنوات المخيفة، الأخطبوطيّة، مجرّة متداخلة من الفساد وسنينه، مجلّد ضخم من القصص والحكايا، يمثّل فيها ذلك السمسار مجرّد حجر العقد، أو حبكة الرواية الطويلة. وترك لنا حق الانشداه والاندهاش والانهداش، فكيف أمكن للهيئة العليا لمصافحة الفساد، عدلوا ورايا ربنا يقوي إيمانكم، ومن خلفها رئاسة الوزراء، أن يسقطوا مرّة واحدة وبهذه الخفّة والسرعة وفي قضية اختلاس صغيرة وتافهة للغاية بمقارنتها بالاختلاس الكبير؟ كان في مستطاع الهيئة أن تناور، أن تعمّي عن أصدقائها وصانعيها الطلب، أن تذر الرماد في العيون، شغل سياسة بقه ولف ودوران وبتاع. يقال أن الحسن البصري خرج ذات يوم إلى السوق، فسمع جلبة وهوجة، فلما سأل قيل له: إنه الأمير يقطع يد سارق. فقال الحسن : لا إله إلا الله، سارق السر يقطع يد سارق العلانية. هكذا المناورات، والتعميه، لكن من الواضح أن الأصدقاء في الهيئة العليا لمسافحة الفساد، معلش أنا ألثغ شوية، حديثو عهد بسؤال" ليه بيداري كده" كما في ملحمة "روبي" الشهيرة، فاعتقدوا أن الحل الصحيح يكمن في " الزّق" حتى آخر رمق. 

  

 لم يتأسف صالح سميع على شيء قدر أسفه على" أننا نبني أشياء عظيمة ثم نحوّلها إلى مكايدات". لقد كان من المرحّبين بفكرة " الهيئة العليا لمكافحة الفساد". وبفعل التجربة والخطأ وصل سميع إلى قناعة نشاركه معظم تفاصيلها، تقول أن الحدث النبيل قصد به شيء غير نبيل، نصف كلمة حق أريد بها كل الباطل، وأن أجنحة متكسّرة – اعتذاري لجبران خليل جبران – هي التي بشّرت بهذه الهيئة يوماً ما لكي ترمم ذاتها بغية أن تتمكن عبر هذه الهيئة من تكسير بعض الأجنحة الطائرة، في حلقة صراع أشد ضراوةً من صراع الجبابرة في فيلم 300 أسبرطي، تعيشها الجماعة الحاكمة.. لقد وجد نفسه مفرداً مثل جملَ طرفة ابن العبد، مثل ذئب الفرزدق، في دوّامة تسودها مقولة: سمكٌ أنتم، ومن لم تلتهمه التهمك، ذق إذن طعم قوانين السمك. إنه يتذكّر الآن كل المعارك الغريبة التي وصلت إلى هيئة مكافحة الفساد، وبالطبع فأنا لا أشير إلى ملفات الطلاق والخلع التي فتحت لها الهيئة ذراعيها، بتصريحات مسؤولين فيها. يتذكر صراع وزيري التربية والإعلام، وملفات الفساد التي أعدها كل منهما ليفزع ويرعب الآخر، شغل فزاعات غربان، مش إدارة شؤون دولة، كل يحمي مزرعته الخاصة من غربان منتصف النهار، وأول الصباح. يتخيل كل ذلك بينما هو يفسّر تلك الملفات الغريبة التي كانت تصله من هيئة مكافحة الفساد، لأكثر من ثلاث مرات متتالية، مرفق بها أمر صرف مبلغ 4 آلاف دولار لسمسار ليس مسجّلاً في أي من هيئات الوزارة، وغير ذي صفة قانونية تعطيه الحق في المطالبة بهكذا مبالغ. وأهم من ذلك : هو مدان باختلاسات مليونية. كانت هيئة مكافحة الفساد تبتزّ معالي الوزير صالح سميع بصورة مكشوفة لا مجال فيها للتأويل، هكذا حدس لنفسه ولرفاقه. وعندما اجتمع بأعضاء اللجنة أصابهم الصمت المطبق، وتولى الحديث شخصان غريبان، ومألوفان، كما كشف في حديثه لكل من صحيفتي الناس، والأهالي. يقول سميع عن أحدهما : التقيته لأول مرّة في حياتي. ونحن نقول لسميع: بجد مش فاكره؟ ده صاحب صاحبنا، ياسينووو. أيوه هو يا دكتور.. بالضبط كده، عندك حق. تحدث سميع على المكشوف، استمع إليه رئيس الهيئة العليا لمكافحة الفساد لكنه فضّل أن يبدوَ وكأن الأمر لا يعنيه، وفي قرارة نفسه كان يتمنى أن تحدث أشياء غير حميدة، ربما. وصلت الحكاية برمّتها إلى " طاهر القلب واللسان" في رسالة طويلة ومفصّلة ففضّل طاهر القلب واللسان، رئيس الوزراء بوصف سميع له في نص رسالته، أن لا يستخدم طهارة قلبه ولسانه في هكذا قضية، وأن يوفّر كل هذه الطهارة لإدارة طقوسه الخاصة حين يمتد به العمر ويمسك بالمسبحة والمصحف. أما أمّ المفاجآت في القضية ، إجمالاً، فهي تلك التي تقول تفاصيلها أن رسالة الوزير صالح سميع لم تصل بنصّها إلى رئيس الجمهورية إلا بعد التعديل الوزاري بأيام، بعد أن وضعت الحرب آثامها وبدت حرب باردة ضد شخص وحيد كان بالأمس أكثر الجنود المجهولين مهارة ونبلاً. لينتهي هذا الفصل المليء بالتراب، كما هي نهاية كل فصل يمني تالٍ للثورة، هي قاعدة الشاعر سلم الخاسر، مأخوذة عن بشار بن برد،في تصاريف الزمان : وفاز باللذة الجسور! 

  

 معالي الوزير سميع يصر الآن على رفع دعوى ضد الهيئة العليا لمكافحة الفساد، وهو قانوني محترف، وأستاذ أشرف على / وناقش عشرات الرسائل العلمية في القانون. ويضيف إلى إصراره استعداداً حادّاً لمناقشة ما يسميه المصدر المسؤول "ملف فساد صالح سميع" على العلن، ليعلم الناس المسيءَ من المحسن. في السابق، منذ أشهر، تدخل رئيس الجمهورية لإيقاف معركة اللوزي – الجوفي بكلمة واحدة : بطّلوا. يقول الراوي، الذي يقعد منهم مقاعد للسمع : فبطّلوا. فكيف سيتدخل الآن رئيس الجمهورية في هذه القضيّة؟ كالعادة، يقول العارفون بـ "بطلوا" وأخواتها، سيعلق بهدوء : ما مضى فات والمؤمّلُ غيبٌ، ولك الساعة التي أنتَ فيها. فهل سيتنازل صالح سميع عن حقّه في رد اعتباره في العلن، وعبر مصدر مسؤول يخرج على الناس من الهيئة العليا لمكافحة الفساد، وآخر مسؤول، ومعلوم، يخرج من مجلس الوزراء ليقدما اعتذاريهما لشخص سميع، بصفته، وللمجتمع اليمني الذي تضرّر على المستوى النفسي والوطني من هذه الأكاذيب، ومن استغفاله من خلال ما سمي على نحو مريب بهيئة مكافحة الفساد؟ وما مصير السمسار الذي يخفي تحت إبطيه مليون سمساراً كبيراً؟ المختلس الحامل لأنفس أصدقائه الأخفياء الأنقياء، الذي قال عنه امرؤ القيس : فلو أنها نفس تموتُ جيمعةً .. ولكنها نفس تساقطُ أنفسا؟ على الصعيد الشخصي، لا أتصوّر أن الضرر النفسي الذي داهمني يمكن إصلاحه بغير هدم الهيئة العليا لمكافحة الفساد. فهناك مقولة للسيد المسيح، يرويها المهتمّون بالشأن الأخلاقي والسياسي معاً، تقول : لا (تفعلي) ولا تتصدّقي. وهي تقال في العادة لأولئك الذين يقترفون إثماً بغية تحقيق منفعة للناس. 

  

قال سميع لوسائل الإعلام : أنا من جماعة علي عبد الله صالح، فهل سيقول علي عبد الله صالح : أنا من جماعة سُميع، من جماعة الذين دفع سميع مركزه دفاعاً عن حقّهم، من جماعة الحقيقة والعدالة ، من جماعة الوطن؟ استغربت تصريح د. صالح سميع، منذ أيام، بأنه على استعداد للعمل الوطني مع الجماعة نفسها، دون تحفّظ، مرّة أخرى. وأفكّر الآن في مراسلته بمقولة الشاعر القديم: فلو كان سهماً واحداً لاتقيته، ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ. ويااااا ما في الجراب يا حاوي! إنهم أناسٌ " لا" يتطهّرون، يا كوليردج. لا تنتظروا الرياح، من جديد، يا بحّارة مرسيليا .. يا جثامين المهجر.

*ينشر بالتزامن مع المصدر