الإسلام وضرورة التجديد الرشيد
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 16 سنة و 10 أشهر و 11 يوماً
الخميس 14 فبراير-شباط 2008 03:54 م

مأرب برس - خاص

أعتب كثيراً على بعض مدارس الجمود في أمتنا التي لم تستطع أن تقدم حلولا لمشكلات وأزمات الأمة، بشكل صحيح ومناسب، لعلّ من أبرز أسباب هذا الجمود، أن الفقيه في هذه المدارس لم يستطع بعد أن يتجاوز غرفة نومه، بمعنى أنه لم يستطع أو لم يتمكن من معايشة مختلف فئات وطبقات وبيئات الأمة، وهذا ما لم يكن من قبل، لقد كان الفقيه في تاريخنا الإسلامي المشرق، يجوب أصقاع المعمورة من بخارى إلى المغرب، ومن الشام إلى مصر واليمن، ومن الحجاز ونجد إلى المغرب والأندلس، بلا حواجز وبلا موانع، الأمر الذي أثمر هذه الثروة الهائلة والضخمة والمباركة من الجهد والاجتهاد البشري، في شتى ضروب الشريعة والحياة .

 صحيح أن ثورة الاتصالات والفضائيات قاربت كل بعيد، لكنها لم تستطع بعد أن تقدم الثقافة الإنسانية بشكل أمين وشامل، لأسباب كثيرة، ليس هنا مجال سردها، لكن لعلّ من أبرزها أن ملاّك هذه التقنيات في الغالب هم من تجار المال والسياسة والترفيه، وليسوا من تجار العلم والثقافة والحرية، كما أنهم لا يمثلون التيارات الحية في العالم، بقدر ما يمثلون المستعمر وثقافته وأخلاقه وسياسته في الاستعمار الفكري والثقافي والاقتصادي، وما أشبههم بمجموعة من اللصوص استولوا على طائرة ضخمة ليغيروا من مسارها، وليسقطوها على الأحياء والمساكن والمصانع فتدمر كل شيء وقعت عليه .

أعود إلى موضوع تيارات التجديد التي يشن عليها البعض حمم غضبه، وجام سخطه، لأنها خرجت عن حدود الزمان والمكان، والعادات والمألوفات والثقافات الاجتماعية، ولم تخرج فيما أعتقد عن حدود الشريعة والفقه والحكمة، إلا ما ندر، ذلك أن مساحات الأمة الإسلامية باتت غير محصورة ولا محدودة، فالإسلام كعقيدة بحمد الله أضحى يغطي كل كوكب الأرض، كما أنّ نسبة المسلمين بفضل الله تزيد يوما عن يوم، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً، كما أن الحضارة المعاصرة بشتى قضاياها ومشكلاتها الناتجة عن تطورها السريع والباهر، كل ذلك جعل الفقيه المعاصر، قد يخرج عن الفقه التراثي، الذي كان له ظروفه وأحواله، آنذاك، إلى فقه أكثر رحابة وسعة، يشمل كل المستجدات والقضايا الحادثة، وفق النص الشرعي لا وفق الفقه المذهبي .

إن هذا التيار التجديدي، ينبغي أن نشير هنا على عجالة إلى بعض حسناته التي أخرجت المسلمين من مآزق كثيرة، وأن نشير كذلك إلى بعض قادته وأساتذته، من باب ذكر الفضل لأهل الفضل .

من أبرز أساتذة هذا التيار الرشيد، فقيه العصر يوسف القرضاوي، فقيه وأديب وشاعر الإسلام، فمن يقرأ كتبه، ككتابه القديم فقه الزكاة في الإسلام، وفقه الأولويات، وكتابه التطرف والجمود في مسيرة الحركة الإسلامية، وغيرها من الكتب، التي تربو على مائة وثلاثين كتاباً، والتي نهل منها أجيال الإسلام، يشعر بمدى الحاجة الماسة إلى فكر التجديد والتطوير، لمواكبة العصر، وبلا خروج عن مقاصد النص .

لقد تطرق القرضاوي إلى كثير من القضايا والمشكلات في الفكر والثقافة والسياسة المعاصرة، وأبرز مدى مرونة الإسلام وتطوره وقدرته على مواكبة العصر، وتحدياته المختلفة .

 

ومن أبرز أساتذة هذا التيار الرشيد، الدكتور سلمان العودة، فكم يسر على المسلمين، وفتح لهم أبواباً من الخير والرحمة والتيسير، في كتابه الرائع، (افعل ولا حرج) هذا الكتاب الذي وجدت فيه الأمة رحمة الإسلام ومرونته وسعته وجماله وعالميته، كان الحجيج من قبل لا يجدون مكاناً للنوم والراحة في منى إلا الطرقات والشوارع والقمامات، نظرا لزحمة الحجيج في المخيمات، وكان البعض يببيت ليله ونهاره في هذه الطرقات، ومما ذكره العودة في كتابه: الآنف الذكر أنّ الإسلام لا يقبل هذه الصورة المقززة من القمامات والقاذورات، وأن هذه الأجواء لا تناسب أجواء العبودية الحقة، وأنه إذا ضاقت منى فللحاج أن يبيت حيثما انتهت إليه المخيمات، بناءً على القاعدة الشرعية المشتهرة، المشقة تجلب التيسير، فجزي الله خيراً الشيخ العودة خير الجزاء، حيث اجتهد لرفع الحرج عن المسلمين، وأعانهم على طاعة الله، وفقا لمقاصد الشريعة السمحة .

ومن أبرز أساتذة هذا التيار التجديدي المبارك كذلك، الدكتور راشد الغنوشي، وأفكاره الرائعة في جانب السياسة الشرعية، واجتهاده في جملة من القضايا المعاصرة، ومنها: مسألة دار الحرب ودار الإسلام، وأن هذه النظرية الإسلامية ناسبت زمناً مضى، وظروفاً ولّت وأدبرت، ويمكن أن نستعيض عنها في زماننا بدار أخرى ألا وهي دار الأمان، فحيثما وجد المسلم الأمان والسلام وحرية التدين والعقيدة فهي داره، وهذا الاجتهاد من الغنوشي أحسب إنشاء الله أن صاحبه له الأجر مرتين، أجر الاجتهاد، وأجر الصواب، فأي دار للإسلام هذه التي يسميها البعض بدار الإسلام فيما المساجد فيها والأسواق والمدارس والمستشفيات .. الخ تكاد تكون معسكراً أمنياً واحداً، والحقوق مصادرة وحرية العبادة ممنوعة، والخوف والقلق يخيم على كل فرد فيها، فأي دار للإسلام هذه؟!!، إن تسميتها بهذا الاسم مغالطة للواقع والتاريخ، وظلم عظيم للإسلام، الذي يحرم في كل تشريعاته هذه الصورة .

 وأي دار للحرب هذه التي يجد فيها المسلم الأمان والحرية على نفسه وماله وعرضه وفكره، أكثر من بلده ووطنه، ويجد فيها المواطنة الكريمة، والحماية والأمن والاستقرار!!.

 إنه بحق اجتهاد بحاجة إلى دراسة من مجامع الفقه الإسلامي والبحوث والدراسات، لا سيما وقد اتفق جميع حكّام المسلمين بعد دخولهم في مواثيق الأمم المتحدة على اعتبار دول العالم كلّها دولاً معاهدة وليست دار حرب، كما قال العلامة فيصل مولوي .

 ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام:

ما ذكره المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة في رسالة عن نظرية الحرب في الإسلام حيث ذكر رأيان للفقهاء في دار الإسلام ودار الحرب. ثم اختار رأيَ أبي حنيفة وهو :

 أن مدار الحكم هو أمن المسلم، فإن كان آمنًا بوصف كونه مسلمًا فالدار دار إسلام، وإلا فهي دار حرب. وقال: إنه الأقرب إلى معنى الإسلام.." .

وبالتالي فما ذهب إلى الشيخ الغنوشي ومن وافقه في مسألة إعادة النظر في التقسيم التاريخي للدور، من كونها دار إسلام ودار حرب، ودار عهد ..الخ، وغيرها من التقسيمات هي تقسيمات تاريخية، وليست شرعية لازمة .

وإنما أشرت إلى هذا المثال لحاجتنا الماسة إليه في زماننا، حيث باتت حرية العبادة والتدين ثقافة عالمية ودينا مسلّماً به - وإن ضاقت به بعض الأوطان والمدارس الغربية مؤخرا - فمآذن المساجد وبناياتها في بعض البلدان الأوربية، كألمانيا، أعظم وأكبر من بعض الكنائس، ورغم ذلك لم يستطع المسلمون الاستفادة من هذه الثقافة العالمية، في نشر دينهم وثقافتهم وأخلاقهم، سيما في الفترة السابقة، وإن كان الأمر قد تغير إلى حد كبير في الفترة اللاحقة، لكن يبقى لكلام الغنوشي ومن ذهب مذهبه، وجه وحظ كبير من النظر والتمعن والدراسة، ويعكس ثقافة الدعوة والتسامح الإسلامي، في المرحلة الراهنة .

مثل هذا، بعض اجتهادات الدكتور طارق السويدان، في الإفادة من نظم الغرب وتقنياته، وقضايا الحوار والحريات في الإسلام، وليقس ما لم يقل .

ومع أنه لا نسلم بكل هذه الاجتهادات وصوابيتها من هذا الرأي أو ذاك، لكن لا بد من أن يخرج العقل المسلم من أسر الجمود، وأغلال التقليد المقيت، وحرج التشديد، الذي لم ينزل الله به سلطانا .

هذه الاجتهادات المشار إليها آنفا، ربما قد لا تناسب بيئة ما، كبيئة الجزيرة والخليج فظروفها الدينية ذات الوحدة الأحادية وسيطرة الفقه المذهبي عليها، لا يتناسب وهذه الاجتهادات، ربما، لكن هذا لا يعني أن هذه الاجتهادات غير شرعية، جملة، لكونها لا تناسب كل البيئات والمجتمعات، فقد تكون مرفوضة هنا، ومقبولة هناك، وقد لا تحل هنا مشكلة، لكن قد تحل مشكلات كبيرة ، في مكان آخر من عالمنا .

والحاصل أن الأمة بحاجة إلى الفقيه الذي يحل مشكلاتها وفق الشرع المطهر، وإن تعب في التحري والبحث والمطالعة والتمحيص، وإمعان النظر، أكثر من حاجتها إلى الفقيه الذي يسد عليها كل أبواب اليسر والسعة، والله تعالى أعلى وأعلم .