نحو إعادة هيكلة القطاع غير الربحي في اليمن - 1
بقلم/ شوقي عبد الله عبّاد
نشر منذ: شهرين و 28 يوماً
الثلاثاء 17 سبتمبر-أيلول 2024 07:01 م
 

المقصود بالقطاع غير الربحي في هذا المقال كل جهة تعمل على تقديم خدمة مجتمعية دون أن تهدف إلى ربح مادي. ويدخل في هذا القطاع جميع منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والمؤسسات الدعوية والهيئات الثقافية وما شابهها، وقد تتبع بعض جهات هذا القطاع إلى القطاع الخاص أو العام لكنها تهدف في الأساس لتقديم النفع للناس أيا كان هذا النفع لكن الأصل إن معظم جهات هذا القطاع لا تنتمي إلى أي من القطاعين إياهما. أصبح القطاع غير الربحي -والذي يطلق عليه القطاع الثالث- من القطاعات التي تعتمد عليه الدول اعتمادا كبيرا لا يقل عن اعتمادها على القطاعين العام والخاص، لأنه مكمّل لهما بل إن بعض الدول المتقدمة، أحدثت تشريعات وقوانين تسهل من عمل هذا القطاع أكثر من القطاعين الآخرين حتى يتمكن من لعب دول فعّال في التنمية المحلية، بما يخفف في الأخير الكثير من الأعباء عن الدولة.

قد يستغرب المواطن اليمني عندما يعلم أن عدد منظمات المجتمع المدني في بلده تعد بالمئات أو الألوف، معظمها جمعيات خيرية، ففي محافظة واحدة قد تجد أكثر من 200 منظمة، وجه هذا الاستغراب كون الناتج من هذا القطاع غير واضح أو في أحسن أحواله ضعيف، لكن قد يزول الاستغراب نسبيا إذا علم هذا المواطن أن أكثر هذه المنظمات أصبحت مجرد أرقام على ورق فمعظمها "مجمّد العضوية" أو "خارج نطاق العمل"، و لكن اسمائها باقية في الكشوفات نظرا لصعوبة إلغاء أي منظمة حيث أن الأمر يتطلب إجراءات طويلة تمر عبر عدد من الدوائر الحكومية كالشؤون الاجتماعية والمحاكم، فإنشاء المؤسسات المدنية سهل جدا بينما إلغاؤها فيه شيء من الصعوبة. ولذلك قد تجد أن هناك مؤسسة تعمل في الشارع اليمني بينما هي رسميا غير مرخص لها من قبل الجهة الرسمية أو من قبل الاتحاد الذي ينضوي تحته كل المنظمات المدنية.

لا يخفى على إنسان ما تعانيه البلد من أزمات على جميع الصُعُد، مما يجعل دور هذا القطاع مهم جدا أكثر من أي وقت آخر، الأمر الذي يحدونا إلى إعادة النظر في هيكلية جميع جهات القطاع غير الربحي، وذلك من خلال ست آليات:

أولا: العمل على إلغاء أي منظمة لا تلتزم بالمتطلبات والشروط، ثم تحديث قائمة المنظمات سنويا حتى يعلم الناس بهذا الأمر، فلا يتعاملون مع أي جهة غير رسمية.

ثانيا: العمل على دمج أكثر من مؤسسة في مؤسسة واحدة طالما أن هناك تشابه في الأهداف، مثل هذا الدمج ينبغي أن يتبناه أصحاب المؤسسات أنفسهم ولا يأتي من خارجهم لأنهم هم أصحاب الشأن، وفي المقابل العمل على تقسيم المنظمة الكبيرة في أهدافها وفروعها إلى أكثر من منظمة أكثر تخصصية، وهذه الآلية معروفة في علم الإدارة.

ثالثا: تصحيح العلاقة بالمنظمات الدولية: عادة ما تلعب المنظمات الدولية دورا اغاثيا في البلدان المنكوبة أو المضطربة، و اليمن واحدة من تلكم البلدان، الإشكال في اليمن -سواء في الشمال أو الجنوب- يأتي من كون هذه المنظمات تعمل في وقت غياب كامل للدولة أو في أحسن الأحوال غياب جزئي، فلو كانت الدولة حاضرة كما ينبغي، لاتضحت العلاقة مع هذه المنظمات وتم ضبطها بما يحقق مصلحة البلد، خصوصا أن المبالغ التي يرصدها المانحون ليست بالهيّنة و بإمكانها تحل العديد من المشاكل الحياتية للناس، لكن مع غياب أجهزة الدولة في الكثير من المناطق يصبح عمل هذه المنظمات بما يحقق مصالح المتنفذين وقد يكون بعض هؤلاء المتنفذين من أرباب القطاع غير الربحي، و هذا نوع فساد إداري آخر!

 

يا معشر القراء يا ملح البلد *** ما يُصلح الملح إذا الملح فسَد

 

إن الاعتماد الكامل على المنظمات الدولية أدى إلى إفساد الشعب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فأصبح الكثير يعتمد على أعطيات المنظمات الدولية وهباتها، وعند تأخر أو انعدام هذا النوع من الدعم تجد الواحد منهم يصول ويجول لبقاء ذلك الدعم الذي إنما هو دعم مؤقت وليس دائم، لكن المنظمات نفسها جعلته دائما بل وأرشدت الناس إلى استخدام أساليب ملتوية للحصول على المزيد من هكذا دعم! أين المشاريع المستدامة من عمل هذه المنظمات، وأن وجدت فأين مرودها وأثرها؟ ومن المسؤول عن هذا التلاعب في المشاريع، كم منظمة دولية أجرت تقويما لمشاريعها التنموية في اليمن؟ ثم أفصحت عن نتائج هذا التقويم! مع عدم وجود مثل هذا التقويم لا يمكن للشعب ولا حتى الدولة أن تعرف ما إذا كان قد تم تنفيذ المشاريع كما ينبغي أو لا؟ لكن يبدو إن الدولة تتغافل عمدا عن هذه المنظمات وما تقوم به لأن هذه المنظمات أصبحت موردا يغطي العجر الحاصل لدى جهات حكومية أخرى كالصحة والتجارة. وهذا قد يكون مقبولا -إلى حد ما- لكن بشرط إن مثل هذا التغافل أو بالأصح الصمت من قبل الدولة سيؤدي في الأخير إلى خلق فرص عمل أو تكوين أشكال جديدة لرأس المال، والخلاصة في هذه النقطة العمل على وضوح العلاقة بين الدولة والمكونات السياسية والمدنية من جهة وبين المنظمات الدولية والمانحين من جهة أخرى.

 

لذلك المتوقع هو أن تكون مؤسسات المجتمع المدني هي من تقود عملية التصحيح في هذا الإطار لأنه لا يتوقع أن يقوم بذلك أيا من القطاعين الآخرين. أما ثالثة الأثافي فهي عمل المنظمات الدولية في أمور خارج مهامها الأساسية التي جاءت من أجلها وتبنيها مشاريع أقل ما يقال فيها إنها لا تخدم البلد في الفترة الحالية! لذلك على جميع جهات القطاع غير الربحي أن تجعل العلاقة مع المنظمات الدولية علاقة واضحة المعالم! مبنية على مصلحة البلد وعموم الناس. وإنه لمن نافلة القول إن مؤسسات القطاع غير الربحي الرسمية مخوّلة لنقد عمل المنظمات الدولية ولو بدت هذه المنظمات للوهلة الأولى إنها محايدة ومستقلة، وهذا النقد يستلزم الاطلاع والفهم المسبق لكل الاتفاقيات الرسمية التي تمت بين (الدولة) أو من يمثلها مع المانح الدولي لأن الأخير غالبا ما يجعل تمويله مشروطا. وهذا يتطلب فتح باب التعاون بين مؤسسات القطاع غير الربحي على مصراعيه، وهذا تفصيله في النقطة التالية.

4- التعاون مع الآخرين في كل ما فيه نفع للبلاد، لأن هناك خدمات ومشاريع قد لا تتمكن مؤسسة أو اثنتين أو ثلاث من أن تتبناها، نظرا كون مثل هذه المشاريع تتطلب نفوذا في جهات في الدولة، الأمر الذي يجعل تنفيذ هكذا مشاريع بعيد المنال، ولذلك يصبح إبرام اتفاق أو تعاون بين أكثر من منظمة مدنية نحو تنفيذ هذا المشروع أو تلك الخدمة المجتمعية سهل المنال بعد أن كان صعبه، طبعا لا يلزم من هذا التعاون أن يتخلى كل واحد عن رؤاه وأفكاره التي يتبناها، فإن القاسم المشترك بين المنظمات أكثر من المختلف عليه، وهو ما يحث عليه الشرع والعقل معا، وقد ذكر ابن قيم الجوزية –أحد علماء المسلمين السابقين- في كتابه (زاد المعاد) إن الكفار لو طلبوا التعاون في أمر من الأمور التي يحبها الله ينبغي على المسلمين أن يتعاونوا معهم، وكل أمور الخير هي مما يحبها الله، فإذا كان التعاون يصح مع غير المسلمين فالتعاون مع المسلمين أولى وأولى، مَن مِن الجمعيات الخيرية أو المؤسسات المدنية أو حتى الملتقيات الشبابية والتي تصنف هي الأخرى ضمن منظمات المجتمع المدني، مَن مِن هؤلاء لا يرغب في القضاء على عادة تعاطي الشبو؟ مَن مِنهم لا يتمنى أن يجد العاطلون أعمالا تناسبهم؟ من منهم لا يرغب في تقليل تكاليف الزواج للشباب؟ الجواب: لا أحد، الأغلبية إن لم يكن الكل يتفق على هكذا أهداف، إذن ما الذي يمنع من العمل جميعا كحزب واحد في هذا المضمار ولا بأس بالبقاء مع أحزابنا وجمعياتنا في الأمور الأخرى! العجيب هو أنني كلما اقترحت هذا المقترح مع إدارات بعض الجمعيات الخيرية، هذه الجمعيات التي تمثل أغلب منظمات المجتمع المدني في اليمن، أجد تجاوبا وتأييدا لهذا المقترح، لا أذكر أحدا ممن اقترحت عليه هذا الاقتراح اعترض بل وافق واعتبرها أمنية يسأل الله أن تتحقق، هكذا كان رد عدد من إدارات الجمعيات الخيرية، لكنه لا يتجاوز كونه ردا إيجابيا، أما تحويل المقترح إلى عمل واقعي ملموس، فهذا لم تتبناه أيا من الإدارات المذكورة، وما أظن أحدا يتبناه على الأقل على المدى القريب لأن الذي يقدّم خطوة و يؤخر أخرى في مسألة التعاون مع الآخرين في أمر ينفع البلاد والعباد، مثل هذا لا تعقد عليه آمال كبيرة لأنه فاقد للثقة بما لديه، متردد في قدرته على التغيير، وهذه حالة تعتري الأفراد والمؤسسات على حد سواء، بل والدول كذلك. وعلى إدارات الجمعيات الخيرية والمؤسسات المدنية أن يتنبهوا لهذا الأمر خصوصا في مثل هذه المرحلة التي يمر بها اليمن، ومن لا يريد من منظمات المجتمع المدني أن يتعاون ويتحالف إلا مع شبيهه في المنهج والفكر والطريقة فلن يجد أحدا يعاونه! إننا في زمن التعاقدات والتحالفات والاتفاقيات بين دول وبين شركات عالمية، قد يكونوا في يوم من الأيام أعداء لكنهم أدركوا أهمية التعاون فيما بينهم وما يحققه من مصالح يستفيد منها الجميع، و أحسن مثال على ذلك، الاتحاد الأوربي الذي بدأ بتعاون بين ست دول أوروبية في مجال الفحم ثم توسع وشمل دول أوروبا كلها و تجاوز مجال الفحم ليشمل بقية المجالات الحيوية في بلدانهم، أما نحن فلا نزال في المربع الأول، نقدّم رجل ونؤخّر أخرى، فالذي يشتم مخالفيه ليلا ونهارا قد لا يجد أحدا منهم عندما يحتاجهم، والذي يرمي مخالفيه بالعمالة لأنظمة إقليمية سيصعب عليه أن يتحالف معهم بعد ذلك، و الذي يصنّف العاملين في منظمات مدنية رسمية بالإرهابيين قد لا يجد من يقف معه إذا واجهه الإرهابيون الحقيقيون، وأنصح جميع مؤسسات القطاع غير الربحي أن يتسموا بالطرح العاقل المتزن الذي يفكر في مصلحة الناس والبلد قبل مصلحة الحزب ومصلحة الزعيم و مصلحة القائد ومصلحة السيد ومصلحة شيخ القبيلة! عشر سنوات مرت على الحرب في اليمن، استفاد منها أطراف داخلية وخارجية باستثناء طرف واحد لم يستفد شيئا بل خسر، ذلكم هو الشعب اليمني، سواء كان في الشمال أو الجنوب، وسيظل هذا الطرف يخسر ما لم تصدق النية والإرادة في التغيير (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) سورة

 

التوبة 46، التغيير الذي ينبغ من الداخل، وأول من يتوقع منه قيادة مثل هذا التغيير هم أرباب العمل المدني وأصحاب القطاع غير الربحي!