دفاعا عن العلماء وتصويبا للفقيه (2-2)
بقلم/ د/ أحمد عبدالواحد الزنداني
نشر منذ: 14 سنة و 5 أشهر و 28 يوماً
الخميس 24 يونيو-حزيران 2010 10:52 م

قصورا في الفهم والمصلحة في الشريعة

أما القول بأن بعض العلماء الأفاضل كالقرضاوي والعبيكان وابن عثيمين قد أفتوا بجواز تقييد المباح لما فيه مصلحة فهذا حق, إلا أن ما لم يفهمه الدكتور الفقيه كما تبين لي من الشيخ عارف بن أحمد الصبري الذي سألته عن الأمر كوني لست من أهل الاختصاص, هو "أن جواز تقييد المباح يختص به الحاكم في حالات فرديه ولا يقتضي من ذلك إصدار حكما عاما (تشريع) أي أن الزواج بالصغيرة مباح والإباحة حكم شرعي, وتقييد المباح بحكم عام لا يجوز، وهناك فرق بين تقييد القضايا الجزئية التي يحكم فيها الحاكم وبين الحكم العام، فالكليات لا دخل للحاكم فيها وإلا صار مشرعاً من دون الله، ولا يجوز للحاكم أن يجعل المباح حراما فالضرر لا يزال بمثله فلا يجوز رفع الضرر بإيقاعه على بقية الناس", ومن جانبي فإني لا أرى مصلحة من سن قانون تطبقه الدول الغربية ولم يؤتي أكله, فالمرأة في الغرب في وضع لا يحسد عليه فهي تجرد من حقها في الحصول على عقد يحمي حقوقها ممن يستغلونها جنسيا وهي صغيرة ثم ليفضونها وهي في الأربعينيات دون ما أسرة تحميها وتلجأ إليها لتربية أطفالها التي لا يعترف أحدا بأبوتهم, ومن يريد التحقق فليزر مواقع المنظمات النسوية في الغرب ليطلع على الإحصاءات المخيفة التي تثبت مدى عجز تلك القوانين عن حماية حقوق المرأة, فيكفي أن نعرف أن إحصاءات الحكومة الأمريكية للعام 2001م تعترف بأن هناك 10 مليون أم لا آباء لأطفالهن, وتقول نييورك تايمز في مقال نشرته في 2007م أن 51% من الأمريكيات وفقا للإحصاءات الرسمية لسنة 2005م يعشن بدون أزواج, ويقول تقريرا لمعهد أبحاث سياسة المرأة أن النساء المسنات أكثر فقرا من الرجال المسنين, فأين المصلحة في ذلك؟!.

حجج واهية وجهل واضح

وكما ورد في مقال الفقيه فهناك من يوظف قواعد المنطق والروايات التاريخية وسوابق الاجتهاد ليواجهوا بها الأدلة القطعية التي قدمها العلماء بشأن عدم جواز تحديد سن الزواج ومنها بأنه من الصعوبة بمكان التحقق من صدق الرواية التي وردت عن أن رسول الله (ص) عقد بأمنا عائشة رضي الله عنها وهي في السادسة وبنا عليها وهي في التاسعة من العمر بدعوى أن معظم اليمنيين واليمنيات لا يعرفون التواريخ الحقيقة لميلادهم فكيف يتسنى لنا أن نتحقق مما أوردته الرواية أعلاه بشأن سن زواج أمنا عائشة رضي الله عنها؟! وهنا أعتقد بأن من يتبنى هذا الرأي قد يكون جاهلا بأن هذه الرواية وردت في كتاب الأمام البخاري وهو أصح الحديث على الإطلاق ولو علم من جهل ذلك أن المنهجية العلمية التي اتبعها البخاري في تدوين الحديث وهي منهجية قائمة على معايير علمية راسخة شهد لها حتى المنصفين من المستشرقين بالتناهي في الدقة, ومنها أن تلك الأحاديث خضعت لأعلى معايير الدقة من حيث السند والمتن, لو علم ذلك لما ذهب في التشكيك في صحة تلك الروايات, هذا فضلا عن أن المقارنة السخيفة التي عقدها المشككون بالرواية بين سن زواج أمنا عائشة رضي الله عنها وميلاد معظم اليمنيين واليمنيات لأمر يدعوا للاستغراب المصحوب بالشعور بالشفقة على المشككين, فهل يعقل أن نقارن بين سيرة رسول الله (ص) وهو المبلغ لرسالة تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها وبين سيرة اليمنيين واليمنيات الذين لم يسجل ذويهم تواريخ ميلادهم؟!! أين هذا من ذلك؟! ثم أن التشكيك في صحيح البخاري وغيره من كتب الأحاديث الصحاح لهو مدخل بالتشكيك في القرآن الكريم والدين الإسلامي برمته لأنها مصادر أصلية من مصادر الشريعة الإسلامية!! 

الاتفاقيات الدولية وتأثيرها على القوانين المحلية

وعلى نفس المنوال جاء في مقال الدكتور الفقيه رأيا للبعض فحواه أن "الإمبراطورية" العثمانية حددت سن الزواج في 1917م أي قبل ظهور الاتفاقية الدولية المعروفة باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو) بأكثر من ستة عقود وذلك لينفي علاقة تلك الاتفاقية بمشروع قانون تحديد سن الزواج المعروض على مجلس النواب, ولو أجهد الدكتور الفقيه نفسه قليلا وتحقق من الأمر لوجد أن الطلب الذي قدم لمجلس النواب بهذا الشأن من اللجنة الوطنية للمرأة كما يفيد أعضاء لجنة تقنين الشريعة في المجلس قد أوضح في مذكرة مرفقة بالمشروع المقترح أن الرغبة في تعديل القانون المعمول به حاليا يعود إلى الرغبة في إجراء توافق بين اتفاقية السيداو الدولية والقانون اليمني, وبغض النظر عن هذه النقطة فنعتقد أنه من المناسب أن نبين أن صاحب هذا الرأي يجهل حقائق مهمة في عالم العلاقات الدولية كان ينبغي للدكتور الفقيه أن يوضحها له باعتباره متخصص في هذا المجال بدلا من أن يتبنى رأيه في مقاله, فالدولة العثمانية حينها كانت تحت حكم جماعة الاتحاد والترقي التي ثبت صلتها بالماسونية بعد الإطاحة بالخليفة عبد الحميد الثاني آخر الخلفاء الفعليين للدولة العثمانية في العام 1908م ولذا ففي عام 1917م كانت الدولة العثمانية أبعد ما تكون عن حكم الشريعة الإسلامية, وانتهى بها الحال إلى الإلغاء الكامل 1924م, أما ما كان بشأن أثر الاتفاقيات الدولية على القوانين المحلية فهو أمرا من بديهيات العلاقات الدولية ولعله من المناسب في هذا المقام أن نذكر بأن ما يعرف اليوم "بالعائلة الدولية" هو لقب أطلقته أوربا على نفسها بعد ما وضعت أسس القانون الدولي الذي له جذور ثلاثة أثرت في قيامه وهي القانون الروماني والقانون الكنسي المسيحي والتطورات التي لازمت عصر النهضة في أوربا (الدولة القومية, العلمانية, الرأسمالية), ونصبت الدول الأوربية العظمى من نفسها حكما في قبول الدول الأخرى في "العائلة الدولية" حتى تتمتع بحماية القانون الدولي, ولم تكن ترى في غير الدول الأوربية وغير المسيحية أهلا للانتفاع بالقانون الدولي إلا أن تغيّر من شرائعها وقوانينها لتصبح دولا "متمدنة" فمثلا لم تسمح الدول الأوربية للدولة العثمانية بالانضمام إلى "العائلة الدولية" إلا بعد الانتصار عليها في حرب القرم التي انتهت بعقد معاهدة باريس 1856م وبعد أن غيرت الخلافة من بعض شرائعها وقوانينها, ومع ذلك ظل بعض فقهاء القانون الدولي في أوربا يشككون في أهلية الدولة العثمانية لدخول "العائلة الدولية" بدعوى أن "القرآن باقيا بيد العثمانيين وأنه سيظل حائلا لهم دون التعامل مع العالم الخارجي", ولا أعتقد أن الدكتور الفقيه قد نسي هذه الإشكالية الشائكة في العلاقات الدولية وتحديدا العلاقة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي, وأقترح على أخي الدكتور الفقيه قراءة كتاب مهم في هذا المجال هو "الإسلام والمسيحية" للكاتب الروسي الشهر أليكسي جوارفسكي. 

الغرب ليس ملاكا

نقطة أخرى أسجلها على الدكتور الفقيه وهي ما لمسته من دفاع بل اندفاع في مقاله الذي أبدا فيه حسن نية مفرطة تجاه الغرب والمطالب الدولية بتحديد سن الزواج حيث قال "وبعيدا عن نظرية المؤامرة, فإن الغرب يساند حظر زواج القاصرات بشكل أساسي من منظور حقوقي وتنموي وتحديثي ويرى فيه تحسينا للظروف الصحية والمعيشة والتعليمية للنساء ومدخلا لتنظيم الأسرة وتمكين المرأة وتحقيق التنمية الاقتصادية", وهنا أذكر الدكتور الفقيه بأنه لا توجد نظرية في العلاقات الدولية تسمى نظرية المؤامرة ولا حاجة لنا للحديث عن أي مؤامرات فما يحدث في والواقع اليوم جهارا نهارا وخاصة ضد المسلمين لا يحتاج للحديث عمن يعملون في الخفاء أو خلف الكواليس, وأعتقد أن الدكتور الفقيه لو اطـّلع على بعض الأرقام لتريث قبل أن يخلع على الغرب كل هذه الصفات الحسنة, فوضع الإنسان في عالم اليوم الذي يخضع لنظام دولي يقوده الغرب منذ عدة قرون تبينه إحصاءات الأمم المتحدة ذاتها, فمن المعلوم أنه يوجد على الأرض 6 مليار إنسان يعيش منهم ما يقارب من 3 مليار تحت خط الفقر (يعشون على دولارين في اليوم)، ومن بين هؤلاء هنالك 1.2 مليار يحصلون على أقل من دولار واحد يوميا. وفي المقابل توضح الإحصاءات الغربية بالأرقام أن الدول الصناعية تملك 97% من الامتيازات العالمية كافة، وأن الشركات عابرة القارات تملك 90% من امتيازات التقنية والإنتاج والتسويق، وأن أكثر من 80% من أرباح إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان النامية يذهب إلى 20 دولة غنية. وفي البلدان النامية نجد أن نسبة 33.3% ليس لديهم مياه صالحة للشرب، و25% يفتقرون للسكن اللائق، و20% يفتقرون لأبسط الخدمات الصحية الاعتيادية, وفي المقابل تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة في العالم بينما يموت 35 ألف طفل يوميا بسبب الجوع والمرض، كما أن المساعدات المخصصة للدول الفقيرة عن طريق منظمة الأمم المتحدة تقل عما تنفقه تسعة من البلدان المتقدمة على غذاء القطط والكلاب في ستة أيام فقط. وتقول مريم بنت زيدون التي قدمت لنا الإحصاءات السابقة في دراسة منشور لها بعنوان "ظاهرة الفقر في العالم..معضلة تنذر بالخطر", أن الخبراء يحمّلون الدول الكبرى (الغرب) الجزء الأكبر في هذا الخلل الكارثي في النظام الدولي, فهل هذه هي الحقوق والتحديث و التنمية الاقتصادية التي يرجوها لنا الغرب ويتحدث عنها الدكتور الفقيه؟!!

لماذا التهديد؟!

ومع احترامي لحق الدكتور الفقيه في وضع وجهة نظره لكني لا زلت لا أرى أن الموضوعية العلمية وعدم التحيز كانا منبع التحليلات والنتائج التي وصل إليها في مقاله, فأسلوب تهديد العلماء والحكومة اليمنية بغضب الغرب لا يعد أسلوب علمي لمناقشة مشروعية قانون ما ولا يساعد على إرساء قواعد الاستقلال الفكري في بلداننا, فالقوانين تشرع بناء على مطالب واحتياجات محلية ووطنية لا غربية أجنبية, فعلى حد تعبير الفقيه, أن الغرب "يستخدم حظر زواج القاصرات كبالون اختبار لقوة من يسميهم بالمتشددين مقارنة بالمعتدلين ولمدى قدرة الدولة اليمنية على الوفاء بالتزاماتها تجاه المجتمع الدولي... ومن غير المستبعد أن يكون للطريقة التي سيتطور بها الجدل حول زواج القاصرات أثرها العميق على سياسات الغرب تجاه اليمن وتجاه الوحدة اليمنية تحديدا." فلا ينبغي أن نخلط بين مشروعية قانون ما وبين علاقاتنا الدولية والصراع مع من يريد أن يبرمج قوانيننا بما يخدم مصالحة, فهذا الربط يحثنا على ما يمكن أن نسميه الانبطاح للغرب على غرر ما تقوم به حكومة عباس المعروفة بالسلطة الفلسطينية, فمطالب الغرب لا حدود لها وقد عبر عن ذلك ذات مرة وبكل وضوح الرئيس السوري بشار الأسد حيث قال مشكلتنا مع الولايات المتحدة أنه لا يوجد حدود نهائية لمطالبها فمطالبها لا تتوقف عند حد, وأعتقد أن الدكتور الفقيه إذا تمكن من إدراك ما يرمي إليه الرئيس الأسد سيدرك أن إرضاء الغرب سينتهي بنا إلى ما هو عليه حال محمود عباس ورفاقه لا أرض ولا وطن ولا قدس ولا كرامة.

الخاتمة: الشريعة والشريعة فقط

وفي ختام هذا المقال أود أن أصحح معلومة للدكتور الفقيه فقد قال في مقاله "بالنسبة للتيار المعارض [ العلماء]، الذي يشعر بأنه مستهدف من الغرب بطرق شتى، يرى أن سلطته السياسية والأخلاقية والاجتماعية، التي يعتبرها كما يفهم من بيان العلماء أعلى من سلطة مجلس النواب وكافة مؤسسات الدولة، يمكن أن تتعرض للتآكل." هذا الفهم غير صحيح فالعلماء ليسو طلاب سلطة ولا يعتبرون أنفسهم فوق المؤسسات الدستورية وهم يقومون بواجبهم وحسب فلقد ألزمهم الله سبحانه وتعالى بذلك بقوله "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ", البقرة, 159, ولكن ما يعجز الكثيرون عن فهمه هو التفريق بين العلماء وبين الشريعة, فالشريعة هي صاحبة اليد العليا وأما العلماء فما عليهم إلا البلاغ والبيان وعلى الشعب اليمني أن يحمي عقيدته, قال تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) الشورى,48.