جنان لوزي...
بقلم/ عبدالله الثلايا
نشر منذ: 14 سنة و 8 أشهر و 7 أيام
الثلاثاء 13 إبريل-نيسان 2010 03:37 م

يطلق أبناء محافظة ذمار مصطلح \"لوزي\" على ذروة الجنون. لم يستخدموا ذلك المصطلح جزافاً بل أنهم أرادوا به التلميح للممارسات الجنونية التي عجز إبليس نفسه عن الإتيان بها كربط منطقي لا ينكره أحد. فأبناء ذمار يؤمنون بأن كلمة \"اللوزي\" تصف قمة الجنون، والجنون فنون، والفن نتاج الإبداعات والابتداعات مفردها بدعة والبدع ضلالة ومآل كل ضلالة في النار، والنار مثوى إبليس. لقد أسقطوا هذا النظرية الجديدة بكل حيثياتها على ما يعتمل في الساحة الوطنية من ذبح لأجنحة حمامة الحرية البيضاء \"حرية التعبير\"، الضامن الأكبر لوجود أدنى مستوى للديمقراطية والحرية والمساواة التي ينص العقد المُلزم \"الدستور\" على وجودها رضى من رضى وأبى من أبى.

لم يشهد الوطن في تاريخه الحديث ما يشهده اليوم من أفول سريع لحرية التعبير، آخر ما تبقى من ضمانة للديمقراطية المغتالة. فما يبدو على السطح يعكس صمت الحكومة الحالية عن رد الفعل الشعبي وتقارير الحريات وحقوق الانسان الدولية التي تأخذها الحكومة الغربية في الاعتبار عند تحديدها مبالغ المساعدات التي يتحملها دافعوا الضرائب من مواطنيهم. وما تحول المبادرات الأجنبية لدعم تنمية اليمن الى محاكمة له سُميت في قمة أبوطبي رسمياً باسم \"مؤتمر الاقتصاد والحوكمة\" وليس الدعم والتنمية كما كانت تتوقع الحكومة قبل مؤتمر لندن، ولتتوالي سلسلة هذه المحاكمة إلى جلسات مستقبلية في جدة وبرلين هذا العام.

المصيبة هنا أن الحكومة لا تعي مدى تأثير تكميم وزارة الإعلام (بشكل خاص) لأفواه \"الصحافة\" في قرار المانحين بتحديد سقوف المساعدات. فالسفارة الأمريكية على سبيل المثل لديها ثلاث إدارات في الأقل كل منها يضع مهمة رقابة وضع الصحافة في بداية قائمة اهتمامات برامجها، ولعل الوكالة الأمريكية للتنمية والادارة السياسية والاقتصادية والملحقية الثقافية من أهم تلك الادارات. فحرية التعبير هي آخر صمام للشفافية وسلامة سير التنمية والديمقراطية والحرية التي تدندن بها الحكومة ليلاً نهاراً.

لم تلجم وزارة الإعلام ألسنة الصحافيين بمشروع قانونها المعجز، بل أنها استبقت ذلك بلجم ألسنة وعقول مسئولي التلفزيون والإذاعة الحكومية ذاتهم، فأقالت جميع مسئوليها الكبار الذين يرفضون تدخل الوزارة في كل صغيرة وكبيرة في أعمالها الفنية والإدارية، ففرضت تطويل زمن النشرة الرئيسة في القنا ة الأولى إلى سأكثر من ساعة ونصف ثم فتحت لها خطوط هاتف ساخنة بين مكتب الوزير واستوديو البث لتعمل الوزارة بدلاً عن المخرج في توجيه المذيعين والمقدمين والتعديلات على عمل الفنيين العاملين وراء الكاميرا، ثم بدأت بفرض بث الأغاني الحماسية القديمة، ثم المسلسلات القديمة ثم مقابلات مع فنانين وشخصيات بارزة يرجع تسجيلها إلى بداية الثمانينات، وذلك في ممارسات تكشف عن تقليص المصروفات على البرامج التي تستحوذ على أغلبية ميزانيات تلك الوسائل الإعلامية، فيما لم تعيد الوزارة مثلاً في العام الفائت أي مبلغ فائض إلى وزارة المالية.

تكريس الفردية

وقد أسهمت سياسة الوزارة في إضفاء صبغة الفردية والتكريس لشخصية فخامة رئيس الجمهورية بشكل ملحوظ في أوقات الحرب السادسة وقبلها في وقت كانت العامة في حاجة ماسة إلى شد الانتباه نحو الوطنية وحب الوطن كمعيار لا يختلف عليه اثنين وليكن اتجاهه السياسي ما يكون، وليس استفزاز من لا يميل مع الرئيس. ويعد المهتمون بمبادئ الاتصال والاعلام مثل هذا التصرف استفزاز قد يقلب الكفة على غير ما كانت الوزارة تنويه خاصةً في ظل وجود مصادر أخبار داخلية وخارجية كثيرة جداً. وكمثال لتلك السياسة الاعلامية مثلاً فرض وضع أي شخص أو مسئول يعطي تصريحاً للتلفزيون أمام صورة كبيرة لفخامة الرئيس وضرورة إقحام اسم الرئيس في التصريح المعتزم بغض النظر عن طبيعة التقرير وملائمة دخول اسم الرئيس فيه. كما تتبع نشرة الأخبار أغاني حماسية مركز الاهتمام فيها فخامة الرئيس، ثم اقتباسات وتصريحات قديمة للرئيس... إلخ. وكانت نتيجة تلك السياسة هو انتقادات قوية من أعضاء الحزب الحاكم قبل المعارضين وعزوف العامة عن متابعة الأخبار مفضلين الاستماع اليها من القنوات الفضائية بدلاً من الانتظار أكثر من ساعة في انتظار خبر محلي معين فضلاً عن الأخبار الدولية التي تستغرق نصف ساعة لا أدري من يتابعها!

من ميكرفون إلى سماعة ميري

لم يقف الأمر عند تلك الحدود المحلية فحسب، بل انها تعدتها إلى فرض نظاماً استخباري رقابي إعلامي، ففرضت \"حارس\" إعلامي من العلاقات العامة بالوزارة مع كل صحفي وإعلامي أجنبي قد تستأجره المنظمات الأجنبية لتوثيق أنشطتها التنموية في البلاد كل ذلك على نفقة الزائر مع فرض بدل سفر يومية لا يقل عن 40 دولاراً في اليوم. وقد أتي هذا اليوم الذي يتدفق فيه على اليمن عشرات الصحفيين والباحثين والمنظمات الأجنبية لعمل بحوث تبريرية كأساس لمقترحات مشاريع سياسية تعتزم القيام بها للاستئثار على تمويلات برامج المانحين لتنمية اليمن، ولتظل الوزارة تصيغ خططاً جنونية أخرى لتسليك حارس إعلامي لكل ظل أجنبي يذكّر الكثيرين بالدولة البوليسية التي لا تملك علاقة بحرية التعبير الذي تعاقدت عليها السلطة مع الشعب.

خُذ الحكمة!

أما آخر فنون ذلك الجنون فهو عزم الوزارة استحداث قناة فضائية ((عسكرية)). أبناء ذمار يتعجبون ماذا سيعرض القائمون على هذه القناة، فهل سيعرضون عليها آخر ما توصلت إليه التقنية العالمية من طائرات متقدمة ومتنوعة! أم بقايا معدات قديمة دمرت في الحروب الأخيرة، أم أنها رسالة جديدة بشكل حديث تنطوي على ترهيب واستفزاز جديد لأناس تسببت سياسات الوزارة نفسها في تحويل اتجاهات مجموعات من العامة. ففي الوقت الذي يبدأ فيه فخامة الرئيس مساعي ميدانية وإعلانه عن سياسات توافقية لزيادة شعبيته خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية ولإحداث تقارب بين الفرقاء، يظهر المسئولون عن الحديث نيابة عن الحكومة بشكل رسمي يظهرون مثل هذه المبادرات التي تُفضي إلى الاستعداء والإستفزاز. ولعل تلك المبادرة هي آخر المتمات التي وصمها أبناء ذمار بالبدعة التي تقود إلى مأوى إبليس الخالد حسب تندرهم. وبالرغم من أن الدستور يؤكد على حيادية الجيش والأمن، إلا أن القناة المذكورة في حال قيامها تحت مثل هكذا إدارة ستعكس للعالم بأكمله حتماً فردية الحكم وعسكرية التفكير وجنون صناع القرار، وهذا طبعاً مالا يرغب به فخامة الرئيس ولا رؤوس السلطة بطبيعة الحال.