الكويت تقهر الإمارات بهدف قاتل في خليجي26 مارب برس يكشف عن شبكة حوثية تغرر خريجي الإعلام للعمل مع منظمة مضللة في صنعاء محاولة تصفية مواطن خلال تلقيه العزاء بوفاة زوجته بمحافظة إب منتخب عُمان يحول تأخره بهدف أمام قطر إلى فوز 2-1 النائب العام السوداني: 200 ألف مرتزق يقاتلون إلى جانب قوات الدعم السريع معارضون في تل أبيب: يجب على إسرائيل أن تضرب إيران بشكل مباشر إذا كانت تريد وقف الحوثيين المليشيات الحوثية تعتدي على أحد التجار بمحافظة إب تحركات لطرد الحوثيين من العراق وإغلاق مكتبهم... مسؤول عراقي يكشف عن طلب أمريكي بوقف أنشطة الحوثيين في بغداد مناقشة مخطط ''استراتيجي" لمدينة المخا درجات الحرارة والطقس المتوقع في اليمن خلال الساعات القادمة
أما وقد جاءت الصورة من ليبيا، فإنها تأتي محملة بشيء غير قليل من رموز الدهشة والغرابة، الأمل والألم، الثورة والثورة المضادة، القيود والفضاء الكبير، الصحراء والأبيض المتوسط. لا عجب فهذه ليبيا بلد الثورة و«الكتاب الأخضر» والأخ العقيد. هل أجرؤ فأقول ليبيا «عمر المختار» و«معمر القذافي» اللذين دخل أولهما التاريخ من باب الشهادة والجهاد ويبدو أن الثاني سيخرج منه من باب القمع والاستبداد.
سيل من الصور انهمر من الشاشات الحمراء هذه الأيام، الشاشات التي لم تعد فضية بعد أن غزاها البث الملون واللهب العربي القادم من الشوارع الغضبى والحارات الجوعى والأحمر المراق على الطرقات.
الصورة الأولى على بساطتها ربما كانت أكثر الصور رمزية واحتشادا، أعمق الصور معنى وأبعدها دلالة. صورة «الكتاب الأخضر» أو الجدارية التي رسم عليها غلاف سفر الثورة الليبية الكتاب الذي ضم خلاصة فكر «الأخ القائد» في «النظرية العالمية الثالثة». لست أدري لماذا تبادرت إلى ذهني صورة أخرى في مكان آخر وأنا أشاهد هذه الصورة. صورة جدار برلين الذي انهار على وقع ضربات الجماهير الحاشدة، والذي رمز إلى انهيار «النظرية العالمية الثانية» قبل عقدين من الزمان.
هل اختصرت صورة الكتاب المنهار المسافة ما بين انهيار «نظريتين عالميتين»؟ ماذا أراد الليبيون الذين وقفوا يرقصون على حطام «الكتاب الأخضر» أو الجدار الأخضر؟ ولماذا غلف الكتاب باللون الأخضر في بلد يكاد الأصفر الرملي يكون هو اللون السائد فيه. انهار الجدار، انهار الكتاب، انهارت النظرية التي ظل القذافي وحده في كل العالم مصرا على صلاحيتها لكل زمان ومكان. وكما كان انهيار جدار برلين فاصلا بين تاريخين في العالم فإن انهيار «الجدار الأخضر» بدون أدنى شك يرمز إلى بداية تشكل تأريخ جديد في ليبيا والمنطقة العربية برمتها.
ترى هل نقلت الصورة المنهارة إلى «الأخ العقيد»؟ هل شاهدها في قلعته المحصنة في باب العزيزية؟ وعلى ذكر «العزيزية»، ألا يذكرنا ذلك الاسم باسم آخر مر علينا في صورة أخرى محترقة اندلعت من أكفانها كل ألسنة النيران التي ضربت موجاتها قلب هذا العالم. ألا يتشاءم القذافي من أن اسم آخر قلاعه يبدو مطابقا لاسم ثائر خاض بحار النار وخرج منها بطلا شعبيا اكتسحت صورته كل ما عداها من صور علقت في الشوارع والميادين العامة، صورة أخذت موقعها إلى جانب صور أخرى تعج بها الساحات هذه الأيام مثل صورة عمر المختار وعبد الناصر والحمدي وغيرهم من القادة الذين مروا على هذه الربوع ذات زمان؟ ألا يربط القذافي بين «العزيزية» و«البوعزيزي»؟ ألا يرى أن النيران التي انداحت من أكفان ذلك الضحية التونسي ستأتي على آخر قلاعه؟ آه لو أستطيع معرفة شعور «الأخ العقيد» وهو يرى مواطنيه يرقصون على حطام كتابه؟ هل قلت على أشلاء جثته النظرية والسياسية؟
الصورة الأخرى كانت لحاكم «العزيزية» الذي خرج في التوقيت ذاته الذي خرج فيه من قبله حاكمان آخران سبقاه إلى كواليس المسرح بعد أن ملآ الدنيا وشغلا الجمهور فترة طويلة.
خرج «الأخ العقيد» في كامل حلته المفضلة «لديه»: ألوان عجيبة، وخطوط متقاطعة، وقطع غير متناسقة ولون غير أخضر يتشح به قائد ثورة الفاتح. وإذا كانت رمزية صورة الكتاب المنهار تكمن في أنها صورة غير ناطقة، فإن رمزية صورة «الأخ العقيد» تكمن في أنها صورة وأنها ناطقة في الوقت ذاته، الصوت والصورة في حضرة «قائد الثورة» مكتنزان بالرموز.
ألوان الملابس وتشكيلتها وتركيبتها ووضع كل قطعة فيها، الحنيات والنتوءات، حركات «ملك ملوك أفريقيا»، نبرة صوته أثناء الخطاب، المبنى الذي قصفه الأميركيون ذات يوم، المبنى المكتنز أيضا برمزيته الخاصة لدى «ثائر لوكربي»، كل ذلك بدا رمزا كليا محيرا مدهشا غريبا فولكلوريا في الوقت ذاته.
في صورتين سابقتين مشابهتين قدمتا من كل من مصر وتونس بدا الحاكمان في شكل أنيق، ولكن كانت الصورة تنبئ بالنهاية الوشيكة. أما هذه الصورة فمختلفة، إنها غير أنيقة ولكنها عنيدة مشاكسة فكاهية حادة. الصورة هنا لا تطرح أسئلة بقدر ما تقدم أجوبة جاهزة لكل سؤال. قائد الثورة في حالة من «الصحو التام». غيره فقط هم الذين يتناولون «الحبوب»، غيره فقط هم «الجرذان» الذين يسقيهم بن لادن «حبوب الهلوسة» مع الحليب في المساء، ثم يخرجون صباحا ليحطموا مراكز الشرطة واللجان الشعبية وجداريات «الكتاب الأخضر». بدا العقيد في الصورة بهلوانا آنا، ثائرا آنا، فيلسوفا حكيما آنا آخر. مكتنز هو بالرمز والثورة والأنا التي تضخمت حتى ملأت كل جوانب الشاشة العملاقة التي أصبحت صورة كلية تنساب منها المعاني والدلالات. هناك أيضا بعدٌ آخر للصورة التي تكونت من اندماج عدة صور لـ«الملك الجمهوري أو الجماهيري» لا فرق: الخيمة التكنولوجية التي يسكنها، الخيمة التي تلازمه في حله وترحاله كانت أيضا حاضرة في المشهد، الخيمة التي أراد القذافي أن يجعل منها رمزا للصحراء فحول بها ليبيا كلها إلى صحراء قاحلة. الخيمة التي ترمز للصحراء و«الأخضر» الذي يرمز للتمدن الزراعي يندغمان في تنافر واضح في الصورة التي لا يشبه تناقضاتها إلا تناقضات ملابس «الأخ القائد» وأفكاره التحررية.
صورة أخرى قدمت من ليبيا ضمن مشهد الصور القادم من البلاد التي استمر مخاض صورها أربعين عاما أو يزيد حتى خرج منها شلال الصور متجاوزا حدود ليبيا إلى أبعد نقطة يمكن أن تصلها فيوضات الموج. الصورة - هنا - هي لشيخ جليل، يعتمر ملابس يغلب عليها البياض، وجه سمح لكنه صارم، ملامح واضحة، عينان فيهما مزيج ليبي عجيب من نار ونور. هذه الصورة لا يمكن للعين أن تخطئها، إنه «عمر المختار»، الرجل الذي يقول «معمر القذافي» إنه وريثه الشرعي على الرغم من أن ابن عمر المختار مؤيد للثوار الخارجين على القائد الملهم. عمر المختار في شخصه رمز كبير، معنى كبير، أمل كبير وثورة كبيرة. كتب تحت الصورة «نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت». أليست العبارة في حد ذاتها موغلة في رمزيتها؟ ألم يقل عمر المختار بعد أن سمع الحكم بإعدامه: «نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت.. وهذه ليست النهاية.. بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه.. أما أنا... فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي». ألم يمتد العمر بالمختار ليلتحم بالزمن المطلق ولاد الثوار، ألم يكن المختار أطول عمرا من الذين شنقوه، ألم يستمر المختار حيا إلى أن مات وانتصر والتحم بالأبدية الموغلة في رمزيتها.
صورة عمر المختار مدهشة في تداعياتها التاريخية. وعندما يرفعها الثوار الخارجون على «قائد الثورة»، فإن هذا يعني أن «قائد الثورة» يرمز للاحتلال الإيطالي. عندما تكون صورة «عمر» وصورة «معمر» في حالة من التضاد، فإن «معمر» لا يمكن أن يكون عند من يرفع صورة «عمر» إلا نسخة مموهة من الإيطالي غراتسياني الذي حاربه المختار. صورة عجيبة تظهر «قائد الثورة» الذي يقول إنه قضى على قواعد الاستعمار تظهره امتدادا للمستعمر. صورة تختصر القدر العجيب الذي دفع بشعوب المنطقة من الاستعمار إلى الاستبداد، أو على قول شاعر اليمن البردوني «ومن مستعمر غازٍ إلى مستعمر وطني». صورة عمر المختار واثقة، وعبارته صارمة: «لا نستسلم، ننتصر أو نموت». التحدي - إذن - كبير بين «الثوار» و«الثائر» بين «علم الاستقلال» و«علم الثورة». وهذه هي المفارقة الليبية المميزة: «علم الاستقلال» يقاتل «علم الثورة». ما معنى هذا؟ أليس الأصل أن «علم الاستقلال» هو «علم الثورة»؟ وإذا لم يكن العلمان علما واحدا فهل يعني ذلك أن الثورة غير الاستقلال، أو أن هدف الثورة لم يكن الاستقلال؟ أم يعني ذلك أن الثورة خطفت أحلام الناس وباعتهم «وهما أخضر» غطى حقيقة أن «الأخ الثائر» لم يكن أكثر من عارض أزياء أشبه ما يكون بأولئك الذين يخطفون أبصار الناس عند الصديق برلسكوني، أو بشكل أدق إنه يشبه بهلوانا رومانيا قديما يقدم عروضه أمام الحاشية الملكية في أحد مسارح روما القديمة. لأول وهلة تتعرى الألوان وتظهر خطوط النسيج، وتتكلم الصورة بكثير مما وراء الصور والسطور، لأول مرة تظهر الصورة التضاد الحاد بين «عمر المختار» و«معمر القذافي» الذي حاول أن يرسم لنفسه صورة «الثائر الأخضر»، فانتهى «ملكا جماهيريا» تزحف نحو قصر الجماهير التي «خدرها» ببطشه وكوميدياه ونظرياته، ثم ادعى أن بن لادن يسقيها «حبوب الهلوسة» كل مساء.
انتهى الكلام ولم تنتهِ صور المشهد العجيب القادم من بلاد «عمر المختار»، البلاد التي يبدو أنها اكتشفت نفسها مؤخرا وعرفت أن جدها يدعى «عمر المختار»، وأن اسم «معمر» ليس إلا تشويها بشعا لـ«عمر» الاسم الجميل والثورة الحقيقية.
* كاتب يمني مقيم في بريطانيا