مصر... من وسط الأحداث (3)
بقلم/ ابراهيم الجهمي
نشر منذ: 13 سنة و 10 أشهر و 11 يوماً
الأربعاء 09 فبراير-شباط 2011 08:22 م

الحلقة الثالثة: من وسط الإعتصام بميدان التحرير

أستسمح الدكتور العزيز محمد جميح في إستعارة الفقرة التالية من مقاله الرائع بعنوان: ( صور وتعليقات من مصر ) بقوله : ( الصورة الكلية التي تأطرت على ميدان التحرير في قلب القاهرة وهو يموج بما زاد على المليون في لوحة فسيفسائية بالغة الإيحاء. انصهرت الأحزاب السياسية في المشهد الكلي، ذاب الطيف الآيديولوجي، اختفت الشعارات الطوباوية، ذابت الفوارق الدينية. وحدها فقط الشعارات المرتبطة بالشباب وهمومه ورؤيته وطموحه، وحدها هذه الشعارات بقيت في الشارع. الشعارات بالعربية الفصحى اصطفت إلى جانب الشعارات العامية والأخرى باللغة الانجليزية، الوسيط اللغوي مختلف والرسالة واحدة في هذا المشهد الكبير الذي يشبه بدون مبالغة يوم الحج في معانيه وأبعاده ) انتهى.

تعالوا معي أذهب بكم إلى ذلك الميدان وأطوف بكم في أرجائه, لتتعرفوا عليه ومن يقطنون به ويعتصمون على أرضه متمسكين بتنفيذ مطالبهم مصرين على عدم إبراحه حتى تتنفذ مطالبهم, معبرين عن صمودهم وإصرارهم بوسائل مختلفة, وبعبارات جادة وحادة وأحياناً مضحكة, تعددت وتنوعت كل ألوان التظاهر والشعارات والهتافات.

( ميدان التحرير )

يبلغ قطره كليو متر تقريباً, ويقع وسط القاهرة,وكان يسمى من قبل بميدان الإسماعيلية, وبعد ثورة 52 سمي بميدان التحرير, وبه كانت تقام الإستعراضات العسكرية أثناء الإحتفالات الوطنية قبل أن تنقل الى منصة مدينة نصر التي قتل بها السادات, وبعد مقتل السادات سمي ميدان التحرير بميدان أنور السادات, وتسمت محطة المترو الرئيسية التي تمر بالميدان بإسمه, ويسعى الآن البعض لتسميته بميدان الشهداء, أو ميدان الحرية.

أنقل إليكم صوراً ومشاهد قل أن توجد في أي ميدان أو ساحة بأي دولة عربية, وبالتأكيد أن ما يشهده اليوم ذلك الميدان من أحداث ومظاهر للتعبير الواسع والكامل عن الحرية هو من ثمار ثورة الشبابية المباركة في 25 يناير2011.

هذا الميدان الواسع الضخم الذي أصبح محط الأنظار على شاشات القنوات الفضائية العالمية على مدار الساعة, تطل عليه العديد من المنشآت الحيوية الهامة كمقر جامعة الدول العربية, وكذلك أضخم مبنى حكومي في مصر وهو مجمع التحرير الذي به مكاتب لأغلب المصالح الحكومية بمصر، وقد أنشأه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, وكذلك تطل على الميدان مباني الجامعة الأمريكية، والمتحف المصري أيضاً الذي يحتوي على أغلى كنوز مصر من التحف والآثار الهامة, وفيه جثة فرعون موسى, كذلك يطل على الميدان مبنى وزارة الخارجية القديم, والمعهد الدبلوماسي , وكذلك فندق هليتون النيل (ريتز كاريلتون), وفندق كليو باترا, وتطل على الميدان العديد من العمارات الضخمة وفي إحداها شقة المناضل اليمني الكبير محمد قائد, أحد كبار الضباط اليمنيين الأحرار وقد إنتقل لجوار ربه العام الماضي ومازالت أسرته تقيم بالمسكن ذاته, ومن المسجد الوحيد الذي يطل على ميدان التحرير- مسجد عمر مكرم – إنطلقت جنازات للعديد من كبار المشاهير المصريين، ومنهم الراحل جمال عبد الناصر والراحلة أم كلثوم. وفي وسط ميدان التحرير يوجد النصب التذكاري لعمر مكرم – وهو أحد كبارالعلماء الذي كان في طليعة المقاومين للإحتلال الفرنسي في الثورة الثانية, وكان له دور في تولية محمد علي باشا الحكم, وقد نفاه محمد علي الى دمياط خوفاً منه - وعلى مقربة من الميدان تتواجد أكبر فنادق مصر مثل هليتون رمسيس, وسمير أميس, وشبرد, وتبعد عنه قليلاً فنادق جراند حياة, والفور سيزون , وبالقرب من ميدان التحرير تقع أهم السفارات الأجنبية مثل السفارة الأمريكية والبريطانية, وأهم المصالح الحكومية كمجلسي الشعب والشورى, ومقر رئاسة الوزراء, ووزارة الصحة, ووزارة الداخلية, ووزارة الأوقاف, ووزارة التجارة, ووزارة الخارجية, ووزارة الإعلام, ومبنى الإذاعة والتلفزيون (المايسبيرو), وكذلك منطقة القاهرة الخديوية التي تعرف ب( وسط البلد) وبها أغلب البنوك المصرية والشركات الكبرى وشركات السياحة ومكاتب خطوط الطيران. كما تطل عليه العديد من المحال التجارية ومكاتب السياحة والمطاعم الكبرى ومنها مطعم ( كنتاكي ) الذي سعى البعض للتهكم بالمتظاهرين في الميدان بأنهم مزدحمون به ومتواجدون لكي يأكلوا منه، وسأتطرق لهذا التهكم وماذا يرد عليه المعتصمون بالميدان .

ويمكن الوصول للميدان من خلال عشرة شوارع رئيسية هي: شارع القصر العيني, و محمد محمود, وكوبري قصر النيل, وباب اللوق, وطلعت حرب,شارع البستان(عبدالسلام عارف), وشامبليون, ورمسيس, والتحرير,وعمر مكرم.

( منتجع الحرية )

هذا الإسم وجدته مكتوباً على خيمة قابعة وسط الميدان وقد كتب بجوار العنوان (الحجز مفتوح) والعنوان 25 شارع الحرية.

ذهبت بواسطة متروا الإنفاق متجهاً لميدان التحرير, ووجدت محطة مترو الأنفاق أنور السادات (التحرير) مغلقة ومنطفئة الأنوار ولا يقف عندها خط المترو. ونزلت بالمحطة التالية وهي محطة محمد نجيب بوسط البلد.

خرجت من المحطة وتوجهت صوب ميدان التحرير، وشاهدت الكثير من المارة قادمين من الميدان وذاهبين إليه! وعلى جنبات الطريق يوجد العشرات من الباعة الجائيلن بالأعلام المختلفة الحجم وأسعرها مابين ثلاثة جنيهات إلى خمس جنيهات, وكلما إقتربت من الميدان إزدادت أعداد المارة وتكاثروا, وهكذا كلما إقربت أكثر, حتى وصلت إلى إحدى البوابات الكبيرة للدخول إلى الميدان عبر شارع طلعت حرب, ومن مسافة بعيدة عن ميدان التحرير قريبة من ميدان طلعت حرب تتواجد العديد من الدبابات تحيط بها أسلاك شائكة وجنود القوات المسلحة بأسلحتهم الرشاشة منتشرين حولها وتشعر بالجو المتوتر والمترقب بين أنصار الثورة والجنود كأنهم يراقبون بعضهم وكل منهم متوجس خيفة وحذر, والجميع جاهز لأي حالة من حالات الهجوم التي قد تتكرر كالحالة المعروفة التي هزت العالم بأسره, وكان لها الأثر الكبير في تفويت فرصة تاريخية بعيد خطاب الرئيس مبارك, والكل يعلم التفاصيل, والجديد ذكره أن الدبابات تحيط بجميع المداخل المؤدية للميدان, وأنصار الثورة وشبابها يفترشون البطاطين والكراتين ونائمين ومتمددين وجالسين تحت جنازير وعجلات الدبابات مستندين على هيكلها خشية تحرك الدبابات واتجاهها صوب الميدان، وخوفاً من تقليص المساحة التي يسيطر عليها أنصار الثورة للتعبير عن حريتهم وأفكارهم وطقوسهم .

ووقفت بانتظام في طابور طويل جداً على شكل حلزوني كي يساعد في إستيعاب المتدفقين للمشاركة مع المعتصمين والمتظاهرين, وتوجد عدة أكمنة وحواجز بشرية من أعضاء الثورة شباباً في مقتبل العمر يتدفقون حيوية ونشاط. حوائط بشرية وصفوف منتظمة كأنهم في طابور عسكري وعلى كل حاجز رأيت ثلاثة صفوف متلاصقة وهكذا في كل حاجز, وبين كل حاجز وحاجز يقومون بالتفتيش الدقيق الكامل ويفحصون بتمعن بطاقة كل زائر .. وكلما قدمت أكثر إلى البوابة الأخيرة كان التفتيش أدق, حتى تخطيت البوابة الأخيرة الخامسة ... وهي المباشرة لدخول ساحة الجماهير, والجدير ذكره وجود سيدات وشابات لتفتيش مثيلاتهن, وهناك ترتيب وتنظيم دقيق وبوابات للدخول وأخرى للخروج, وهكذا الحال في التسع البوابات الأخرى, و يقف على مدخل كل بوابة ضمن البوابات العشر خمسة حواجز أمنية في كل بوابة ما لايقل من ألف شخص مابين مفتشين وحراس وحواجز بشرية كثيفة على مدار الساعة لا يغفلون البتة، وينظمون أنفسهم بورديات منضبطة متأهبة, متيقظة, مستعدة, وكل ذلك يتم بمرونة وهدؤ مما يدل على تنظيم عال يتناسب والمراحل الحاسمة التاريخية التي تشهدها الثورة.

وبين الحاجز البشري الأول والأخير مسافة شاسعة يمنعون أي من الزائرين المرور خلالها .. عدى شباب الثورة المنظمين للجان الحراسة والمتأهبين لصد أي هجوم قد يحدث ولسد أي ثغرة أو فجوة قد يحدثها أحد من المعتدين على ساحة الإعتصام, وفي تلك الساحة الفاصلة بين أول بوابة للتفتيش وآخر بوابة, رأيت أكوام من الأحجار المرصوصة بشكل دائري وهي سلاح ومنجنيق لصد العدوان, وتعجبت عن كيفية إحضار هذه الحجارة حيث نظرت لجميع أرضية وأرصفة الشوارع التي بميدان التحرير وما رأيت أي بلاطة قد إنتزعت من موقعها, بل شاهدت ميدان التحرير نظيفاُ جداً وكثير من الشباب والفتيان يقومون بشكل طوعي تلقائي بتنظيف الطرق, ورأيت فتاتين متبرجتين ملابسهن نظيفة وراقية جداُ وواضح أنهن من أسرميسورة تقومان بتنظيف الأرض والتقاط المخلفات من قارعة الطريق في كيس قمامة, ورأيت أناساً آخرين يقومون بذات العمل وهم مسبتشرين مسرورين.

ولقد دخلت الميدان بصعوبة بالغة حيث رفضوا إدخالي فأعطيتهم جواز السفر الخاص بي, وطلبوا مني بأسلوب مهذب الإنتظار وجاء شاب وفحص جوازي بتمعن شديد وقلبه مرات عديدة وسألني هل سافرت إلى أمريكا, أوربا, سوريا, لبنان , ايران, إسرائيل ؟ فأجبته بالنفي, وقال لي أين جوازك السابق؟ قلت له هذا الجواز المجدد, وقلت له إن كان لديكم مانع من الدخول فسأعود أدراجي ! ولكنه رحب بي بعد تردد وقال لي أهلاً بيك .

وعند بوابة الدخول الأخيرة إصطف شباب وشابات يهتفون وينشدون ويغنون رافعين الأعلام مرحبين بالزائرين والقادمين ويرقصون ومعهم طبلات و ميكرفون يرددون شعارات الترحاب ومما سمعتهم يرددونه: وهم يهتفون ويصفقون ويصفرون ويقولون:

أهم أهم أهم ... المصريين أهم * أهم أهم أهم ... المصريين أهم .

وأيضاً يقولون : مرحب مرحب بالأحرار ... أهلاً أهلاً بالثوار

ويقفون في طوابير طويلة بأعداد غفيرة يرحبون بالزائرين والمنظمين للثوار, ورأيت مئآت الزائرين وهم يدخلون محملين بالمؤن الغذائية من جميع الأصناف ومن مختلف الحاجات, وكل ما يخطر على البال, ورأيت شباباً يمشون في سرب طويل كأنها قافلة محملة بالبطاطين والأغطية الجديدة, تبرعاً للثوار, وشاهدت البعض يحمل كراتين أدوية فوق عاتقه يدخلها, ولفت إنتباهي سيدة تدخل وبيدها مجموعة كبيرة من أدوات النظافة وأكياس الزبالة الجديدة بمساعدة إبنها, وشباب الثورة يتسلمون كل تلك المؤن ويقومون بفحصها وتفتيشها ببشاشة وتأسف من القادمين بها, ولم أرى إنزعاجاً أو تذمراً منهم . ورأيت بعض القادمين خاصة من السيدات المنفتحات يحملن مجموعات ورود يوزعنها على شباب الثورة, خاصة للمصابين منهم .

ولفت إنتباهي حال دخولي وتجوالي بالميدان إحكام السيطرة التامة لأنصار الثورة لكل الميدان, وإنتشارهم في كل أركانه وزواياه خشية دخول الجيش وزحفه على الميدان, ورأيتهم قد ناموا وأفترشوا الأرض تحت جنازير الدبابات على كل المداخل, وأعدادهم كثيرة ومتحصنين بأماكنهم كي لا تتحرك الدبابات صوب الميدان أو تضيق الخناق عليهم, وحتى (مجمع التحرير) الذي يطل على الميدان رفض المتظاهرون إتاحة فرصة إسستئناف العمل به وعودة الموظفين إليه, بل أن المتظاهرين يحاولون الزحف الى خارج الحدود التي يحاصرهم الجيش بجنوده و بدبابته الكثيرة, ويسعى أنصار الثورة كل فترة لإحداث ثغرة للتوسع في كل الشوارع المحيطة بهم, وأكثر ما شاهدته محاولات التوسع في شارع القصر العيني المؤدي لمجلسي الشعب والشورى, ومجلس رئآسة الوزراء.

ويحكم شباب الثورة تأمين مداخل جميع العمارات المطلة على الميدان ومراقبة الداخلين إليها بإنتظام, خشية صعود أي معتدي عليها وإلقائه ما يضرهم! وأؤكد على أن أن جميع المحلات التجارية القاطنة أسفل العمارات المطلة على الميدان مغلقة عدا قليل منها كتب عليه مفتوح برغبة أصحاب المكان , وجميع تلك المحلات مؤمنة وسليمة لم تتعرض لأي أذى, وكثير منها أبوابها زجاجية لم تتعرض لأي تلف .

وبالميدان توجد عدة مسارح يلتف حولها الجماهير يستمعون لخطب وكلمات المؤيدين للثورة, ومسارح أخرى توجد فرق موسيقية وشباب وشابات يغنون وينشدون أناشيد وطنية وحماسية ويهتفون بالشعارات المؤيدة للثورة والمطالبة برحيل مبارك , وفي مكان آخر من الميدان رأيت شعراء قد نظموا قصائدهم يلقونها بحماس على الجماهير الغفيرة الملتفة حولهم وسط تصفيق حار, وحماس منقطع الوصف,

وبالمناسبة توجد ميكرفونات كبيرة قد علقت فوق أعمدة الإنارة والأشجار تتبع جميعها الإذاعة الداخلية, وتستخدم وقت النداء العام أو الخطب الجماهيرة الكبرى أو وقت الآذان, وما أحلى أن تسمع الأذان الجميل تعلو جو المكان وكأنك بالحرم المكان - مع الإختلاف في المكانة والقدسية - الكل يسكن صوته ويوقف آلته الموسيقية حتى لو لم يكن مسلماً, أو مصلياً ولكن تعبيراً لإحترام أخوانه من شباب الثورة , وأخبرني أحد شباب الثورة أنه مسلم ولا يصلي أبداً ولكنه صلى مع الجموع الحاشدة صلاة الجنازة على الشهداء وبدون وضؤ- وحسب كلامه - بأن أحد الشباب المسيحيين كان يمسك الميكرفون بجوار الإمام حال الصلاة ويردد بالندأ (الله أكبر) كي يسمع الناس

وأثناء الصلاة توجد جماعات للصلاة مختلفة كثيرة وليست جماعة واحدة , وشاهدت أغلب الحضور لا يصلون.

وبالنسبة لنوعية الجمهور فهم من أعمار مختلفة, ومن كل فئات المجتمع الطبقية, والثقافية, والمهنية, والدينية, والفكرية, ومما شاهدته شعارات كتب عليها (يعيش الهلال مع الصليب) ورأيت صفين بجوار بعضهما يرفع الصف الأول القرآن الكريم ويرفع الصف الثاني الصليب, ويطوفون بجوار بعض حول الميدان يهتفون عاش الهلال مع الصليب وحدة وحدة وطنية, وكذلك شاهدت رجال دين مسلمين يلبسون لباس الأزهر وعمامته المعروفة وبجوارهم رجال دين أقباط بلباسهم الدينية وعلى صدورهم الصليب.

كما شاهدت الباعة المتجولين والواقفين يبيعون الشاهي, والماء, والسجائر, والأعلام, والبسكويت, والترمس, والحمص, والكعك, والمناديل, والمرطبات, والعصائر المعلبة.

وفي الحديقة الواسعة التي تتوسط الميدان المزروعة بالعشب نصبت مئآت الخيام وقد كتب على باب كل خيمة شعارات مؤيدة للثورة, وبعضها مكتوب عليها أبناء المنطقة الفلانية أو المحافظة الفلانية , ويقطن داخلها شباب وأسر بآللآف, ومنهم من هو نائم, ومنهم من يتلوا القرآن ,ومنهم من يصلي, ومنهم من يتبادر الحوار مع أصدقائه, ومنهم من يغنى بقيثارته وآلته الموسيقية, ومنهم من يخط على لوحة أو يرسم عليها فكرة, ورأيت الكثير في المخيمات متمددين على فراشها البسيط مابين كرتون أو بطانية وعليهم الكمادات واللواصق الطبية, خاصة على الرأس, واليد, والقدم, والعين , من المصابين جراء الهجوم الذي تعرضوا له أثناء الغزو بالجمال والخيول والحمير, الذي تصدوا له ببسالة وشجاعة.

واللافت للإنتباه الهاجس الأمني بين المتواجدين وأدركت بأن هناك من يجول بين المتظاهرين يرقبهم بهدوء ويبحث عن أي إثارة أو أعمال تخريب, وكذلك وجود عناصر أمنية متخفية ومخبرين بكثافة بين الجموع يرصدون الأحداث أولاً بأول ولا أعتقد أن شباب الثورة يجهلون ذلك .

ولقد رأيت فنانين وفنانات , وكبار الصحفيين والإعلاميين, وأيضاً رياضيين مشهورين, وسياسيين بارزين يجولون بين الناس, والناس يتحدثون معهم ويلتقطون الصور التذكارية معهم.

ومن احمل الصور التي إستوقفتني إقامة حفل زفاف لعروسين من سباب الثورة وسط الميدان, والشباب والشابات يزفونهما ويرقصون حولهما في فرح وسرور, ويهنؤنهما قائلين ألف مبروك .. (شدوا حيلكم عايزين جيل جديد ينعم بخير الثورة) .

وكذلك شاهدت شباباً بأيديهم مكائن حلاقة يحلقون لمن أراد بالمجان والراغبين يصطفون في طابور طويل, وما فهمت معنى ذلك ؟

ورأيت لوحة مكتوب عليها (مركز إستقبال المقترحات) وبجوارها لوحة أخرى مكتوب بها : تقدم بمقترحاتك لنجاح الثورة ... لا تبخل علينا برأيك ... رأيك يهمنا .. ويوجد صندوق كبير يجلس بجواره شابان يستقبلان المقترحات المكتوبة المقدمة , وبجوارهما شابات يقمن بالإستماع الى المقترحات الشفوية التي يدلي بها الكثيرون وهم منتظمون حتى يأتي كل دوركل منهم , ويتناقشون بينهم ويتحاورون .

ولفت نظري ونال إستحساني وجود مركز كبير كتب في لوحة أعلاه: مركز المفقودات والأمانات, يحرسه مجموعة من الشباب وله سكرتارية تستقبل المفقودات ممن وجدها, وسكرتارية أخرى تستقبل البلاغات عن المفقودات, مما يؤكد حرص شباب الثورة على أن تكون الثورة سليمة وأمينة على حقوق الشعب, ورأيت فتاة وهي تحضر نقوداً قالت أنها وجدتها بالأرض في مكان كذا وبجوار كذا, وأشهد لله أني ما رأيت أي أحد يتكلم أنه تعرض للسرقة أو للنهب رغم إزدحام المكان بمئآت اللألف من الجماهير المختلفة, وكم حوادث سرقة ونشل يتعرض لها الراكبين على الأتوبيسات المزدحمة في الأيام العادية, حتى أصبح شعار ( خلي بالك من جيبك ) لكل من يدخل زحمة في الأسواق أو يركب الأتوبيس.

وشاهدت مجموعة كبيرة تطوف بين المتظاهرين وهم يحملون جنازة وهمية ملفوفة بالعلم, ويرددون الدعاء للشهداء ويقسمون أن دماء الشهداء لن تضيع هدراً, وأنهم لن يعودوا حتى تتحقق مطالب الثورة, ولن يخونوا شهدائهم, وهذا المنظر كان مؤثراً.

وسمعت البعض يتفاخر بأنه من الثوار وأنصار الثورة منذ اليوم الأول لإنطلاقتها وما برح الميدان ولا تخلف عن ركب الثوار, ويقسم بعدم عودته إلا بعد تحقيق مطالب الثورة .

 وسمعت شاباً ملتحياً يردد بين الناس أن غداً صيام جماعي دعماً ودعاً للثورة.

مع إستمرارية تحليق طائرات الهيلوكوبتر فوق الميدان ليلاً ونهاراً, وأسمع صوتها على الدوام من بيتي القريب من المنطقة.

كما شدني حضور أطفال ورضع مع ذويهم, يرفعون الأعلام وكذلك معوقين راجلين وراكبين العربات الخاصة بهم وهم يرددون الشعارات ويحملون اللآفتات المؤيدة للثورة.

وأكثر ما شاهدته هو الشعارات واللآفتات مختلفة الأشكال والأحجام، فمنها ما كتبت على قماش ومنها ماكتب على كرتون, أو ورقة, أو بلاستيك أبيض ,أو على الأرض حتى أنهم وضعوا أحجار على الأرض رصوها بشكل كبير ورصت على كلمة واحدة هي (إرحل )بالعربية وبكل اللغات .

ووضعوا صور كبيرة بلاستيكية عليها صور وأسماء الشهداء ومعلومات عنهم , وعبارات الترحم عليهم والتعهد بأنهم لن يضيعوا دمائهم ولن تذهب هدراً.

وتنوعت الشعارات والصور المعروضة في أرجاء الميدان التي علقت على الأشجار وأعمدة الإنارة، أو يقف شباب الثوار ممسكاً بها, أو يمرون بها ويطوفون بين الحشود الكثيفة والناس من حولهم يقرأونها ويصورونها ويبدون إعجابهم .

واللآفت للنظر أن هذه العبارات متنوعة ومختلفة والكثير منها يحتوي على عبارات سخرية وتهكم, مما يعكس الروح المصرية الفكاهية التي يتميز بها الشعب المصري البشوش الفكاهي الظريف.

وسأسرد لكم في الحلقة القادمة كل ما رأيته وشاهدته وسمعته من شعارات وهتافات,

وعند خروجي من الميدان من بوابة الخروج الخاصة بذلك يصطف شباب وشابات ويرددون شعارات وداع للزوار ويطالبونهم بالرجوع ويخبرونهم بأنا ننتظركم لا تنسونا.

 ويقولون : مش حنمشي .. هو يمشي ..

 وأيضاً : راجعين تاني .. راجعين تاني ...

وينشدون : وداعاً وداعاً أحلى ناس .. منتظرينكم مستنينكم ما تنسوناش !

ورأيت البعض يسألون الناس المغادرين هل وجدتم كنتاكي؟ هل وجدتم فلوس؟ والبعض يرفع فطيرة كبيرة من الخبز وقد كتب عليها كنتاكي ..

* للإطلاع على صور ملتقطة للميدان يمكنكم زيارتها في صفحتي بالفيس بوك على الرابط http://www.facebook.com/album.php?aid=47639&id=100000288480521

الحلقة القادمة :

 من ميدان التحرير .... الشعارات المكتوبة .. والهتافات لأنصار ثورة25 يناير.