العرب وتهاوي الشعارات!
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 13 سنة و 7 أشهر و 9 أيام
الثلاثاء 17 مايو 2011 10:28 م

هذه مرحلة تهاوي الشعارات. العبارات المطاطة عن «العلاقات الأخوية المتينة» بين الأشقاء في اليمن وقطر - على سبيل المثال - تتلاشى على وقع الحقيقة الماثلة للعيان التي تشير إلى خلاف عميق في وجهة النظر للأحداث في اليمن. سقوط الشعارات يعني أن الخلافات الحادة بين «الشقيقتين» تعود إلى الملف الحوثي ومرورا بـ«قمة غزة» وانتهاء بالثورة الشعبية في اليمن التي يبدو أن قطر تتخذ موقفا مختلفا إزاءها. سقط إذن «الغزل السياسي» بين البلدين الشقيقين أو الحبيبين إن جاز أن تكون هناك «رومانسية سياسية»، لينتهي النظام في قطر «الشقيقة» - حسب الخطاب الرسمي اليمني - متآمرا على اليمن، وينتهي النظام في اليمن «الشقيق» إلى «ديكتاتورية تقتل شعبها» حسب الدوائر القطرية. وفي ليبيا تهاوت شعارات «الأخ العقيد» مع تهاوي تماثيله وتطاير صفحات كتابه الأخضر في الهواء. «الأخ العقيد» يصرح بأن انهيار الاستقرار في ليبيا خطر على العالم، وعلى إسرائيل. إسرائيل وليبيا إذن في خندق واحد ضد التطرف و«القاعدة» وأسامة بن لادن والجرذان وأصحاب «حبوب الهلوسة».

ذهبت «حكايات الجدات» التي كان «أخونا العقيد» يحدثنا فيها عن فلسطين والحج إلى فلسطين، وذهبت أسطورة «إسراطين» وحق العودة، كلها ذهبت مع أول أصوات الثورة الليبية. كلها انهارت ليتبين لنا من تحت الركام أن «استقرار ليبيا من استقرار إسرائيل»! حقيقة مرة، لاذعة، صادمة للوهلة الأولى فقط، غير أنها ليست آخر الحقائق اللاذعة المتكشفة تحت غبار «الكتاب الأخضر» الذي حوله الليبيون إلى كومة من غبار بعد أن تحول فعليا ومنذ فترة طويلة إلى «كومة من كلام» بين غلافين أخضرين. وقبل أن تستفيق أيها القارئ المسكين وأنت تتجرع مرارة هذا المقال، خذ أيضا حقيقة ناصعة أخرى ظهرت عقب انهيار «منظومة الشعارات السورية» في «المقاومة والممانعة والحق العربي وقلب العروبة النابض». قال: «رامي مخلوف» قريب الرئيس السوري وأحد أبرز رجال الأعمال السوريين بالحرف الواحد إن «استقرار إسرائيل من استقرار سوريا»، حقيقة مرة، لاذعة صادمة للوهلة الأولى كأنها إحدى حقائق النظام في ليبيا، بل هي هي لأن ليبيا هي سوريا وسوريا هي ليبيا في هذا السياق على الأقل.

سقطت إذن شعارات النظام في دمشق كما سقطت من قبل شعارات «أمة عربية واحدة» التي كانت ترفع في دمشق وبغداد، في الوقت ذاته الذي كانت دمشق تقف فيه إلى جانب طهران ضد بغداد في تناقض صارخ مع الشعار المرفوع. ومع سقوط شعارات النظام الرسمي العربي التقليدية، يبدو أن هذا النظام يحاول إعادة إنتاجها في شكل آخر باعث على السخرية مثل الشعارات المسيئة إلى الشعوب التي انتفضت سلميا والتي وصفت بأنها مجاميع من «الجرذان» في ليبيا و«قطاع الطرق» في اليمن و«عملاء إسرائيل» في سوريا في تناقض صارخ مع الحقيقة المدوية التي تطوع السيد رامي مخلوف بالكشف عنها والمتمثلة في أن «استقرار إسرائيل مرتبط باستقرار سوريا» والتي تفهم على أن «استقرار إسرائيل مرتبط باستقرار الأنظمة الحاكمة» التي رفعت شعارات المقاومة فترة طويلة من الزمن، لا لتحرير الأرض ولكن لتخدير الجماهير وإطالة فترة بقاء الأنظمة بحجة التجهيز لتحرير أرض تستمد هذه الأنظمة شرعيتها من احتلالها. الحقيقة الناصعة اليوم تحت سماء ثورات الشعوب العربية تقول إن النظم التي رفعت شعارات معينة في مرحلة زمنية معينة في هذا الجزء من الجغرافيا قد استخدمت هذه الشعارات لتخدير مشاعر شعوبها لصرف هذه الشعوب عن المطالب الحقيقية القريبة المنال مثل مطالب التنمية والحرية والعدالة والمساواة. يقال للنظام السوري مثلا أفرج عن السجناء السياسيين، فيرد: نحن دولة مواجهة ولا ينبغي التساهل مع من يسعى لقلب نظام حكم مقاوم. يقال: على العين والرأس، اسمح بحياة سياسية تعددية إذن. يرد: حذار من السعي بالحزبية إلى خلخلة الوحدة الوطنية مما يمكن العدو الإسرائيلي من الجبهة الداخلية. يقال له: قليلا من حرية الصحافة إذن. يقول: لا. إسرائيل على الحدود. يقال: ولكن إسرائيل فيها أحزاب وفيها صحافة حرة وسجونها خلو من سجناء سياسيين من مواطنيها اليهود على الأقل، ومع ذلك لم تتعلل يوما أنها «دولة مواجهة» لكبح جماح الحريات العامة. يرد النظام: سوريا دولة مستهدفة وظروفنا مختلفة، لا، لا لسنا مهيئَين للديمقراطية بعد. هل ولدت هذه الشعارات ميتة إذن؟ هل استمرت فترة ثم تحولت مع الزمن إلى «عادة صوتية» اعتادت الآذان على سماعها حتى اكتفينا من الألسن بترديدها؟ مهما يكن الأمر فالواقع أن هذه الشعارات كانت وسيلة من وسائل أنظمة القمع لإدامة سطوتها على الشعوب المقهورة، لأنه تأكد اليوم أن الأنظمة التي ترفع هذه الشعارات هي أبعد ما تكون عنها.

ولعل فهم هذا الواقع هو ما جعل ملايين المحتجين العرب اليوم لا يرفعون شعارات معادية لإسرائيل ليس لأنهم راضون عن إسرائيل ولكن لأنهم ساخطون أكثر على أنظمتهم القمعية، ولأنه من وجهة نظر المحتجين فإن رفع الاستبداد مقدم على دحر الاحتلال، ولأن الاستبداد الداخلي أصبح صنوا للاحتلال الخارجي عند المحتجين ولأن - وهذا هو المهم - شعارات معاداة إسرائيل أصبحت من وجهة نظر المحتجين «شعارات الأنظمة القمعية» والتي أصبحت جماهير المحتجين تبتعد عن رفعها إمعانا في الابتعاد عن شعارات الأنظمة التي لم تعد أكثر من «فقاعات صوتية» تنفجر فوق العواصم العربية ولا تبلغ «تل أبيب».

هكذا إذن ذهب «الشعار» وجاءت «الحقيقة»، وبين حضور «الشعار» وغياب «الحقيقة» أمضى العرب عقودا طويلة في شبه سبات. وبين «الشعار» و«الحقيقة» تكمن أزمة العرب المتمثلة في جانب منها في حضور «الخطاب» وغياب «الوعي» أو حضور «الخطاب الشعاراتي» وغياب «الوعي الحقيقي» إن جاز التعبير. وبعد. فهل العرب اليوم على أبواب مرحلة «الوعي الحقيقي» مقابل مرحلة «الخطاب الشعاراتي» التي سادت خلال العقود الماضية؟ وهل وصلنا إلى إدراك حقيقة «أن الشعار هو الوجبة الدسمة للفقراء في الدول التي ليس فيها غير شعب جائع وحاكم ممتلئ»، وهل نعي لماذا تخلو شوارع واشنطن وباريس ولندن من الشعارات وتكتظ بها شوارع صنعاء ودمشق وطرابلس على سبيل المثال؟ الإجابة عن الأسئلة المطروحة بيد رواد الحقبة العربية التي يبدو أنها بدأت في التشكل لحظة أن لوح ذلك التونسي بيده على رأسه قائلا بصوت متهدج: «هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية»؟

* كاتب وأكاديمي يمني مقيم في بريطانيا