ولايات أمريكية تضربها عواصف مدمرة وأعاصير مع تساقط كثيف للثلوج سفارة واشنطن: ناقشنا مع العليمي مواجهة الحوثيين داخل اليمن وخارجه أول ثمار إسقاط نظام الأسد.. زيادة 400% في رواتب الموظفين زلزال بقوة 4.9 درجة يضرب الجزائر درجة يضرب دولة عربية موقف ارنولد يثير القلق في ريال مدريد أشعلت طرطوس.. غارات مرعبة وهي لأقوى الأعنف منذ عام 2012 قرارات جديدة ومهمة في سوريا… محامون دوليون يتتبعون ثروات عائلة الأسد وتحويلها لصالح الشعب ضبط مصنع ضخم لمخدر "الكبتاغون" بريف دمشق في أحد قصور الاسد الحسيني يتنبأ بسقوط وشيك لجماعة الحوثي الدكتوراة للباحث إبراهيم اليمني من كلية الحقوق جامعة بني سويف مع مرتبة الشرف
هل هناك علاقة بين المذهب والجغرافيا، أو بين المقولات الفقهية والبيئة الطبيعية؟ هل هناك علاقة بين المكان والمعتقد؟ هل يؤثر المكان في أفكار الناس وعقائدهم أو في تقبلهم للأفكار والعقائد، وهل له دور في تطور هذه الأفكار؟ هل تؤثر عقائد الناس وأفكارهم في المكان، وهل تعيد رسم خريطة المكان وتضاريسه ومظهره الخارجي؟
بالنسبة لأثر الدين في المكان، يمكن ملاحظة ذلك بشكل غير مباشر، ذلك أن الدين يؤثر في النظم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية والسياسية للمجتمع، وهي بدورها تؤثر مباشرة على خريطة المكان وصورته الخارجية. كما يبدو دور الدين واضحاً في أشكال المدن وأنماط العمارة، وألوان الملابس وموضة الأزياء، وأصناف الأطعمة والمشروبات، ويظهر ذلك جلياً – على سبيل المثال – في طبيعة العمارة الدينية مثل أنماط دور العبادة، وطرزها المعمارية المختلفة، وكذلك في الطبيعة البيئية لأماكن العبادة في المدن المقدسة، ومظهرها الخارجي.
وبطبيعة الحال فإن مظهر مدينة مكة ـ مثلاً ـ يختلف عن صورة الفاتيكان، والعمارة الإسلامية غير العمارة المسيحية، وشكل المسجد غير شكل الكنيسة، وهما غير المعبد اليهودي أو البوذي أو الهندوسي، وللمدن المقدسة طابعها الخاص الذي يميزها عن غيرها من المدن، الأمر الذي يُظهر أثر الأفكار والمعتقدات الدينية على وجه المكان.
وعلى المستوى المذهبي فإن للخارطة المذهبية علاقة مباشرة بالنزعات العرقية والطبيعة الجغرافية التي تؤثر وتتأثر بالسمات المذهبية المنتشرة في هذه المنطقة أو تلك.
. ولنأخذ على سبيل المثال انتشار المذهب الشافعي في مناطق اليمن السهلية والساحلية، في حين أن المذهب الزيدي انتشر في مناطق اليمن الجبلية إجمالاً، مع بعض الاستثناءات، حيث تتناسب البيئة الجبلية القاسية وقلة الموارد مع دعوات الثورة والخروج التي شرعها فقهاء الزيدية، وهي الظروف التي أثرت في تكييف المبدأ الزيدي «الخروج على الحاكم الظالم» الذي أعلى من شأنه فقهاء هذا المذهب، وجعلوه شرطاً للإمام الذي يتولى الولاية العامة، وهو المبدأ الذي يعني بشكل نظري الخروج على كل حاكم ليس من «نسل الحسن والحسين: سبطي النبي» لأن هذا الحاكم إجمالاً حاكم ظالم، أخذ حق «أهل البيت» الذين هم «الحكام السماويون» بأمر من الله للأمة، حسب مقولات هذا المذهب. غير أن التطبيق العملي لهذا المبدأ يعكس طبيعة الصراع على السلطة والثروة في مناطق اليمن الجبلية التي شهدت على مر التاريخ
صراعات تبدأ من شمال البلاد الجبلي باتجاه الغرب والجنوب – والشرق أحياناً – بطابع ديني مذهبي، ولكنه في الحقيقة نزوع نحو الاستحواذ على السلطة والثروة فرضته الطبيعة الجغرافية والبيئية القاسية التي ساعدت على تشكل قوة مقاتلة قنَّعت حاجاتها المادية للثروة بأقنعة دينية، وطورت مقولات مذهبية تشرع التمرد ليجد المتمردون تكييفاً شرعياً جعل غزوات السلب والنهب «جهاداً في سبيل الله» حيث صُنِّفت الكثير من المصنفات الفقهية التي تجيز ذلك،
وأهم تلك المصنفات كتاب: «إرشاد السامع إلى أخذ أموال الشوافع» للإمام الزيدي المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم. إضافة إلى ذلك فإن وجود مبدأ التمرد هذا جعل أئمة المذهب الزيدي يلجؤون للمناطق الجبلية الوعرة التي تمكنهم من شن الغارات، ومن ثم العودة إلى أماكن محصنة يصعب الوصول إليها، حيث كان اختيار المكان مناسباً لطبيعة المقولات المذهبية التي تقوم على شن الغارات التي تناسبها الأماكن المحصنة في مرتفعات شمال اليمن، وقد تجلى هذا في لجوء الإماميين من أتباع الزيدية إلى جبال صعدة بعد قيام النظام الجمهوري، حيث كمنوا خلال العقود الماضية يتحينون الفرصة للانقضاض على النظام الجمهوري، حتى واتتهم في 2014 عندما دخل الحوثيون صنعاء، وأحكموا سيطرتهم على أغلب محافظات البلاد، قبل تراجعهم عن كثير منها.
في المقابل، لم يجد مبدأ «الخروج على الحاكم» بيئة مناسبة في المناطق الساحلية الغنية نسبياً، ذلك أن مبدأ الخروج يشرعن للثورات والتمردات والصراعات المستمرة، وهذا لا يتناسب مع بيئة هذه المناطق التي تشكلت فيها مع الزمن بيوتات تجارية كانت تحرص على تهيئة بيئة سلام واستقرار ليتناسب ذلك مع تدفق حركة التجارة عبر البحرين الأحمر والعربي وعبر شبكة من الطرق البرية المختلفة. أما خارج اليمن، فنلحظ أثر البيئة الجغرافية في
بعض المقولات الفقهية ضمن المذهب الحنبلي، في شكله الذي تعرضه مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيما يخص المنظومات الفقهية التي تحكم علاقة الجنسين، وطبيعة المظهر الاجتماعي للرجال والنساء، ونلحظ أثر «العرف المجتمعي» الذي انعكس على المقولات الفقهية المختلفة التي أخذت من تراث عرفي قبلي مناسب للبيئة الجغرافية التي نشأ وانتشر فيها هذا المذهب الذي انتقل من العراق إلى مناطق في الجزيرة العربية، تأثرت به وأثرت في مقولاته الفقهية ببيئتها الجغرافية وطبيعتها المجتمعية. كما أن مبدأ «طاعة ولي الأمر» الذي أكد عليه أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب مناسب لطبيعة المجتمع القبلي، حيث تحتم تقاليد القبيلة طاعة أفرادها لشيخ القبيلة، وهو الأمر الذي يتناسب مع الطبيعة الملكية في المملكة العربية السعودية، والذي كان له دور كبير في الاستقرار السياسي الذي عاشته المملكة منذ تأسيس دولتها الثالثة المعاصرة على يد الملك عبد العزيز آل سعود وإلى اليوم.
وكما كان لتحريم «الخروج على ولي الأمر» دور في الاستقرار السياسي في السعودية – مثلاً – فإن تحريم الخروج على التقاليد الدينية الممتزجة بالعرف المجتمعي كان له كذلك دور في ترسيخ مجموعة من القيم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي طبعت المجتمع بطابع محافظ، التقت فيه التقاليد المجتمعية والأحكام الفقهية ضمن سياق بيئي تقبَّل هذه التقاليد وعمل على تطويرها بما يتناسب والبيئة الجغرافية والتقاليد العرفية لسكان هذه المناطق.
. والمقاربة ذاتها يمكن أن تنطبق على البيئات الجغرافية المنعزلة، سواء كانت صحراوية أو جبلية، حيث تلجأ المجموعات البشرية إلى تطوير منظومات مذهبية وفقهية تتناسب وبيئتها الجغرافية وانتماءاتها العرقية، وبما يعطي تلك المجموعات طابعها الهوياتي المميز لها عن غيرها من المجموعات البشرية الأخرى، وهو ما يمكن ملاحظته في انتشار الإباضية ـ مثلاً ـ في مناطق في سلطنة عمان حيث ساعدت البيئة الجبلية على حماية المذهب من هجمات خصومه في الدول المتوالية، وإن كان المذهب قد طور منظومة فقهية تحاول أن تتجاوز إفرازات فترات الصراع التاريخي بين طوائف المسلمين المختلفة، والشيء ذاته يمكن أن يقال عن انتشار الإباضية في مناطق بني ميزاب
الجزائرية، حيث الانتماء العرقي الأمازيغي الذي حاول من خلال الإباضية الحفاظ على هويته العرقية بانتهاج هوية مذهبية مغايرة للهوية المذهبية للأغلبية المالكية، وبما يتناسب مع الظروف البيئية والمجتمعية في مناطق الجنوب الجزائري ذات الطابع الصحراوي المنعزل.
وفي علاقة الجانب العرفي بالمقولات الفقهية يمكن الاستشهاد باشتراط الإمام الشافعي «تكافؤ النسب» لصحة الزواج، نظراً لتأثره بالأعراف القبلية والقرشية التي تعلي من شأن النسب، فيما لم يشترط الإمام أبو حنيفة النعمان ذلك، نظراً لخلفيته الثقافية غير العربية، حيث أسقط شرط «تكافؤ النسب» لرغبته في إدماج الأجناس المسلمة غير العربية بالأخرى العربية، وعلى الرغم من أن الزيدية هم أحناف الفقه إلا أنهم خالفوا الأحناف في هذه المسألة، حيث وافقوا الشافعي في اشتراط التكافؤ في النسب بين الزوجين، وهذا بسبب تأثيرات قبلية قرشية تجمع الشافعي والإمام زيد ضمن تقاليد عرفية قبلية واحدة. وهنا يظهر ـ بشكل جلي ـ دور البيئة الجغرافية والتقاليد المجتمعية في نشأة وتطور الأفكار والمقولات المذهبية المختلفة للمجموعات البشرية بتنوعها العرقي وبيئاتها الجغرافية المختلفة.