علي عبدالمغني.. بطلنا الخالد
بقلم/ عبد الله شروح
نشر منذ: شهرين و 20 يوماً
الأربعاء 25 سبتمبر-أيلول 2024 04:45 م
 

والشمس تتحدّر دمعة حمراء في خد السّماء، يضطجع البطل مضرجاً بدمائه جوار المدرّعة التي كانت تقلّه ليؤدي مهمته المقدّسة في "حريب" بمأرب.   

في جسده بضع رصاصات وعدد من الشظايا، وعلى محياه ابتسامة. تمر حياته الآن أمام ناظريه. تهفهفه نسائم طفولته من هناك، من ذاك المرج الأخضر من ريف إب، من مديرية السدّة، من قريته "المسقاه".  

يشعر بكف أخته "فاطمة" تمسك بيده ليرتعا معاً في حدائق من بهجة الطفولة بقريته الجنّة. يحملق في وجه أمّه الذي ما كف يرضعه حناناً مضاعفاً استعاض به عن احتواء أبيه الذي فقده وهو لمّا يدلف الخامسة بعد.  

ها هم المسوخ يمضون أمام ناظريه، ترتسم على ملامحهم المشوهة لذاذة نصر يتوهّمونه، وها هي الدماء تشخب من جروحه لتضمخ تراب وطنه، معشوقه الأوحد، قدس أقداسه، قضيته الكبرى والوحيدة. يستمر شريط حياته يمر أمام عينيه، وعلى شفتيه الابتسامة لا تزال.

هو الآن في "نيعان"، يتلقى أول تعليمه في "الكُتّاب"، ذلك النوع من التعليم البدائي، حيث الكتاب لوح من خشب، والقلم ريشة أو فحمة والأستاذ لا يدرك ما يلي حدود قريته. 

ينظر إلى نفسه والأطفال من أقرانه وكذا الكبار من أقربائه يحتفلون به في السابعة من عمره بمناسبة ختمه للقرآن قراءةً. 

يمر على كل تلك التفاصيل التي يعيشها طفل مُثقَل بالحرمان من دفء الأسرة المتماسكة في بلدٍ يئن تحت أطنان من الجهل والخرافة تسحقه حتى العظم. 

وها هو في صنعاء وعمره تسع سنوات، يتقدم لمدرسة الأيتام فترى اللجنة المختصة للقبول أنّه مهيأ لاجتياز ثلاث سنوات دراسية. ليس طفلاً عاديّاً. إنه من ذلك النوع الذين تأتي أقدارهم مرتسمة على ملامحهم، تنطق بها حركاتهم وسكناتهم وكل تفاصيلهم. ليس طفلاً عاديّاً. ترتسم يمنيّته على سحنته بجلاء، بنشاطه الدؤوب، بحذقه الظاهر وبميله للعطاء والخير.

الشمس تحث خطاها مستعجلة الغرق وراء الأفق، وما يزال دمه ينثال ثجاجاً على تربة معشوقته اليمن. يمد كفه المضرجة بالدم، يعجن ببعض دمه قبضة من التراب يرفعها إلى أنفه ويتنشقها ملء صدره، ملء وجدانه، ملء قلبه المفعم بالوطنية والإباء.  

يلتقي بالمناضل "جمال جميل" وعمره إحدى عشرة سنة، قبل أيّام فقط من ثورة 48، بعد مضي سنتين من دراسته بمدرسة الأيتام. يقرّبه المناضل الكبير منه ويسأله: فيم تكون السعادة يا بني؟! يجيبه الطفل علي، ببداهة الواعين الكبار وبصدق الأنقياء الصغار: في الحرية.  

يبتسم المناضل، يضمه إليه كولده ويقول وهو يحدّق في عينيه: "لو فشلت ثورتنا، لا سمح الله، فهذا الشبل هو من سيسحقهم"، ويوصيه بالاستمرار بالتعلم ويعطيه جائزة مالية ستعينه على مراحله القادمة. 

حين فشلت ثورة الـ 48، والطاغية يدحرج بسيفه رؤوس المناضلين، يقول جمال جميل، مبتسماً، والسيف مسلط على عنقه: "حبّلناها، وستلد!".

لم يفهم أحد مغزى هذه الجملة، فقط علي فهمها، وظلّت تتردد بين جنبيه أصداء تشعل فيه كل جذوة ثورة وتمرّد. 

وظل الفتى عبد المغني هو الأوّل دوماً، في كل شيء وبكل مكان، ككل الأبطال الذين كانوا لأوطانهم أقدار ابتعاث وعز: الأول في مدرسة الأيتام ثم الأول بالمدرسة المتوسطة ثم الأول في المدرسة الثانوية، وتكون جائزته قلماً من الذهب من البدر المظلم ابن بيت حميد الدين الظلّام.  

توشك الشمس أن تتوارى خلف الأفق، مِزقٌ محمرّةٌ من السحب تتوزع على الأفق الدامي كأنّما انعكاس جسد البطل المضرّج، ويستمر شريط حياته بالمضي أمام عينيه العبقريتين. 

يلتحق بالكلية الحربية عام 1958م، وكعادته يكون الأوّل، وها هو يزمجر من على المنصة يلقي كلمة الخريجين تُبّعاً يمانيّاً حتى النخاع. يكمل كلمته فيهب إليه وجه الإمامة الأكثر شناعة "أحمد" ويهديه قلمه الذهبي. يبتسم البطل واضعاً القلم في جيبه مردداً في نفسه: "بقلمك هذا سأكتب خاتمتك أيها الغشوم"!  

يلتحق بمدرسة الأسلحة بمعية نخبة من أكفأ الضباط الذين صاروا رفاق نضاله تالياً. وبعد تخرجه يعود إلى القرية، إلى حقل صباه، إلى حضن أمّه. هكذا يفعل الأبطال دوماً، بعد أن يحسنوا إعداد ذواتهم بما تستلزمه قضيتهم من أدوات نضال يهرعون لمخازن العاطفة يتزودون منها ما يعينهم على استمرارية المسير. 

يسأل أمه: "أيش رأيش ببيت حميد الدين؟!". تجيبه: "والله يا ولدي إن أعمالهم لا ترضي الله ولا رسوله"، وبحرقة من ذاق مرارة الظلم تزيد: "أمرهم إلى الله". يقبّل جبينها ثم ينظر في عينيها وابتسامته العذبة ملء وجهه: "والله ما تسمعي عني إلا ما يسر خاطرش يا اماه. أما بيت حميد الدين والله ما يذلوني، وسأموت موتة الأبطال".  

بعد أن تشرّبت روحه هذا الفيض المعنوي اتجه البطل إلى "تعز" ثم إلى "الحديدة" متواصلاً مع مجموعة من الضباط الأحرار. ثم يعود إلى صنعاء ليتم تشكيل "تنظيم الضباط الأحرار" بعد محاولات عديده لإنشائه، ويكون البطل أبرز قادته ومسؤولاً عن خلية تتكون من عشرة ضباط.

 

يعود بعدها لينظم مظاهرات للطلاب في كل من صنعاء وتعز والحديدة. يؤمن بأن الفعل الثوري لا يكون كاملاً إن اكتفى بنخبويته، وأنه يكسب فاعلية أكبر كلما سبقته إرهاصات تجعل من كل فئات الشعب فاعلة فيه، وقد كانت قناعته هذه هي التي دفعته في 55م، بعد العدوان الثلاثي على مصر، إلى تنظيم مظاهرة طلابية تزعمها هو، وكانت أول مظاهرة من نوعها نادى فيها الطلاب بالجمهورية فدخل على إثرها السجن ليعتصم الطلاب فلا يعودون إلا به. 

غشاوة بدأت تخامر بصره هذه اللحظات. يشعر بخدر ينتاب أطرافه. باتت حياته تعرض مشاهدها أمام عينيه بتقطُّع: في الخامس والعشرين من سبتمبر يجتمع مع رفاقه من الضباط، يُخرِج من جيبه الورقة التي سطّر فيها أهداف الثورة بالقلم نفسه الذي كان جائزة تخرجه، تلك السطور التي فتحت لليمنيين عصراً جديداً، الأسطر التي تنضح أكاليل ضياء تمزق دياجير الإمامة. ِيكمل كتابتها ويرفع رأسه للسماء مردداً: "اللهم لا تمتني قبل أن أسمع إعلان الجمهورية".  

وفي الحادية عشرة مساءً يقود قوات الجيش التي أعدّها تنظيم الضباط الأحرار إلى "دار البشائر" التي كان يقطنها "البدر بن أحمد"، يحوطونها بالمدرعات ويطلبون منه وحاشيته الاستسلام فيكون الرد وابلاً من الرصاص يضطر بعده البطل ورفاقه إلى قصف تلك الدار.  

وفي صباح الـ 26 من سبتمبر تتحقق أمنية البطل إذ ارتقى "محمد الفسيل" منصة إذاعة صنعاء مرتلاً بيان الثورة معلناً الجمهورية وموارياً الإمامة.  

يشعر البطل بانسلال روحه رويداً رويداً. ترتخي أصابعه عن قبضة التراب المنعجنة بدمه وهو يمر على آخر أيامه التالية لإعلان الثورة. أسبوعان من التصميم الثوري، من الحنكة في توزيع المهام. وها هو اليوم يخرج بنفسه، كعادة القادة الأبطال المغاوير في كل زمن، على طليعة قوة لمواجهة وهم الإمامة وبقايا الخرافة والجهل المتجمعين في "بيحان" بنيّة الهجوم على الجمهورية مروراً بمأرب فصنعاء. وكعادة الجبناء ينصبون له كميناً ويمطرونه برصاص الحقد.  

تغرب الشمس تماماً، ومع تبخر آخر قطرات الحياة من جسده الممتلئ باليمن، مع انسلال آخر ضوء من روحه المشبعة باليمن لأعالي السماء، لوطنها الأبدي الخالد، يلوح في وعيه أبوه المعنوي "جمال جميل". يبتسم ويردد ملء الأرض: "قد ولِدَت يا أبي.. ولِدَت ولن تموت أبداً".