تعز... أوهام الزمن الجميل
بقلم/ بشرى المقطري
نشر منذ: 13 سنة و 11 شهراً و 13 يوماً
الإثنين 10 يناير-كانون الثاني 2011 06:47 م

قديما كنت من أولئك المتحمسين لشيء اسمه تعز، تاريخ تعز، سياسي تعز، أدباء تعز، صحفيي تعز، عمال تعز، مزارعي تعز وكنت اعتقد أن هذا الشارع التعزي وبعيداً عن أحزابه المتخاصمة له القدرة الفذة في امتلاك مفاتيح الفهم والبناء والمدنية، ومهما كان متعباً ومحطماً فإنه قادر على تغيير مستقبل اليمن الكالح كعملاق نائم ينتظر الفرصة في اللحظات الحرجة ليهب من رقاده وينتفض ضد البدائية والهمجية التي نعيشها.

طبعا لم يكن هذا تعصباً جينياً ولكن بحسب قراءات تاريخية عفا عليها الزمن وبُعداً ماضوياً حالماً يحرك فيًّ حماسة لا تنقطع، كان ذلك زمن عبد الحبيب سالم ومؤتمر تعز الجماهيري ومظاهرات التأييد لوثيقة العهد والاتفاق، لازلت أذكر صدى تلك الأصوات في قاعة المركز الثقافي وهم يحاولون البحث عن حل لمأزق بلاد مازالت منذ ذلك العهد الغابر تسير نحو الهاوية.ورغم أني كنت صغيرة، لكني كنت أنظر بحب لأولئك القادة الذين لم تستطع السلطة في أشد مراحل تاريخها دموية من إسقاط خياراتهم الرحبة المحبة للحياة.

كان كل شيء مختلفاً ومميزاً العهد الذي كانت فيه هذه المدينة مركز إشعاع ثقافي وسياسي وقادتها ومثقفيها هم قادة التغيير الذين يراهن عليهم الجميع، كانت جامعتها أيضاَ في ذلك العهد القديم فضاء حراً لكل المشارب السياسية والفكرية وساحة حرة لكل الأفكار النيرة التي مهما اختلفت فإنها تبني ولا تهدم ولم تصبح بعد معسكر لتخريج أنصاف المواهب وكان اتحاد أدباءها وهجاً ثقافية ورافداً معرفياً للبلاد بأسرها ولم يصبح بعد حديقة خلفية لمقبرة الأجينات...

كنت أفاخر-قديما- بانتمائي لهذا الأصل التعزي الذي لديه قدرة على الإبداع في أقسى الظروف، كان هذا في زمن القراءات السخيفة، والرؤية الرومانسية الحالمة، زمن الأفكار العقيمة، زمن العهد التعزي البائد الذي مازلت أسيرة أساطيره، لكني اعتقد الآن أن ذلك الزمن ولى بغير رجعة وأني فقط وبعض الحالمين مازلنا معلقين بذلك الزمن بخيط حاني يخرج من القلب، كهوس مدمر للأعصاب ونغمض أعيينا عن ما تراكم في هذه المدينة من بلادة وغثاء وتعب، ولم ندرك أن هذا الشارع الذي نتغنى به ليل نهار ونناطح فيه الآخرين قد مات منذ حرب 1994م وربما من عهد المؤتمر الجماهيري بعد أن ماتت قياداته وتشتت بعضها في الأرض.

في هذا الأربعاء الحزين سقطت كل القناعات في رأسي وأنا أرى المدينة- في صيرورة عقلي على الأقل- تدخل زمن المحاق الذي تعيشه منذ سنوات طويلة كشيء لابد أن نقنع أنفسنا بأننا كنا حالمين وأن رهاننا على هذه المدينة كان خاسراً. صحوت من خيالاتنا القديمة مذعورة وأنا أرى المسيرات المؤيدة للرئيس تتوافد من كل القرى كقطيع من الخراف يسوقها ممثلي الدوائر الانتخابية وقادة الحزب الحاكم، وكنت أسير مع الموكب البليد بسبب الزحام إذ لم استطع النفاذ من مجرى السيل البشري الكاسح، اسمع الشعارات الغبية عن ديمقراطية الرجل الأول التي سقطت منذ أكثر من ثلاثين عاما وأريد أن أضحك على هذا الاستخفاف حتى نهاية العالم...

كانت المظاهر العسكرية في كل شارع وجولة والسيارات المصفحة كعين يحرسها الله في كل مكان تقصده، أغاني أيوب طارش الوطنية التي لم تحرك فيّ سوى غما دفينا على وطن الفضول الذي كان يحلم فيه، كنت أسير مع رخاوة المشاعر الرعوية التي تمجد الحاكم بأمر الله وأضيع في هذا الحشد، أضيع في دوامة الصراخ، والغثاء، والنفاق، والكذب، والزيف، والتسطيح المريع للحقائق، والتلاعب بمستقبلنا....

 أصبحت تعز الآن مدينة المفارقات المضحكة، هذه المدينة والتي مهما كنا نحبها فلن نتعاطف مع انسياقها الأعمى لتكريس سلطة الدكتاتور والرئيس المؤبد، هذه المدينة التي لم نسمع لأهلها صوت حينما يلعلع الرصاص في ليلها، ويعبث ناهبي الأراضي بممتلكات أبنائها، أو حينما تطفئ الكهرباء فيها لساعات طويلة، أو حين تشقق أهلها من الظمأ أو حينما مات كثير من خيار أبناءها بحمى الضنك أو حينما كان أبناءها وقودا لحروب السلطة على الحوثيين، أو حينما تنامت مشاعر العداء ضد أبناءها وقُتل بعضهم في مدن الجنوب بسبب ممارسات السلطة الظالمة ضد أبناء الجنوب أو حينما قتل الدكتور درهم القدسي وهرب قاتليه. هذه المدينة المعدومة الفرح والمشروعات الحيوية والمنجزات والطرقات، والمياه، والتوظيف، والحياة هل من العدالة أن يخرج أبناءها للمطالبة بتأبيد الرئيس صالح والتسبيح بحمد عهده.

كنت أرى الحشد التعزي الأعمى يمشي كقطيع بليد إلى ميدان الشهداء: دكاترة وعمداء جامعة، مدراء عموم ومدراء سجون، عسكر وقيادات، ونساء عسكريات، وموظفي حكوميين وطلاب مدارس ومعاهد، مشهداً عبثياً لاستعراض هزيل للقوة والهبة الشعبية لشارع بائس بامتياز تُحركه بلطجية السلطة وزعاماتها وعسكرها وناهبيها. وكنت أسأل نفسي هل انتهى ذلك الزمن الذي كان يعول على أهل هذه المدينة باعتبارهم الشرارة الأولى التي ستقود البلاد إلى التغيير والتمنية وتحقيق العدالة والتنمية؟، هل انتهى ذلك الزمن إلى الأبد وأن الحياة تغيرت والأحلام تغيرت وأن هذه المدينة التي عاش فيها الإمام أحمد أواخر أيامه هاهي تهب في دورة تاريخية عمياء لتعلن إمام جديد ومن سلالة أخرى لليمن لتعيدنا هذه المدينة البائسة إلى ألف سنة سابقة..

هل كل شيء دخل اليوم دورة المحاق فقط ظل أنا وغيري من الحالمين خارج هذا الزمن الذي تشكل وفق مخيلة حامضة وأن علينا الحفاظ على رؤوسنا من التلف..