في مدرسة الثورة
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 13 سنة و 8 أشهر
الخميس 28 إبريل-نيسان 2011 11:35 ص

لم يكن أحد يتوقع أن يحدث لبلاد "ما بين المائين" كل هذا قبل أن يحرق ذلك التونسي-الخارج من أحراش الحارات القديمة والملتف في مناديل النار-نفسه أمام جمع من الحائرين الخارجين مثله من العرق والكبت وبيوت الصفيح. هي إذن إرادة الله التي أخرجت من كفن البوعزيزي كل هذه النار الممتدة في هشيم النظام الرسمي العربي لتحيله بمعجزة إلى جثة هامدة لتخرج الشعوب من تحت ركامة حرة تتنفس هواء جديداً وتشبع عزة وكرامة بعد طول عناء ومسغبة.

هذه الثورات الحاصلة لا شك أنها ستدرس لأبنائنا في الأجيال القادمة، سيتعرف أبناؤنا على ثورات من نوع آخر وثوار بسطاء غير مؤدلجين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. صورة الثائر هنا مختلفة، ثائر يقوض عهوداً من تراكم الذل والقهر ويحيلها هباءاً منثوراً بدون رصاص، ولا بريق ثوري خادع. حق لهذه الثورات أن تسمى "ثورات الشعوب"، إذ معظم ما كان قبلها كان "ثورات جنرالات" وجيوش.

ماذا علمتنا هذه الثورة في اليمن خاصة وفي عموم البلاد العربية سواء التي شهدت ثورة أو التي لم تصلها رياح الثورة بعد؟

أشياء لا تحصى: أول الدروس في فصول الثورة أن "القوة الناعمة" هي التي يعول عليها في التغيير، وهي القوة التي أعطيت للأنبياء والمفكرين وكبار المصلحين الروحيين. هذه القوة هي التي تهزم الطغيان دون أن تولد طغياناً آخر، لأنها قوة غير طاغية ولا باغية، ولا هي قوة الكبراء والأعيان. إنها قوة البسطاء، قوة النفر الذين خرجوا غير متمايزين وإن اختلفت مشاربهم، هي قوة الشعب وقوة الروح المبدعة التي انطلقت من قيود الزمن واختصرت المسافات.

الدرس الثاني في مدرسة الثورة يتمثل في أن الطغاة المستبدين مهما علا شأنهم إلا انهم لا يملكون في الحقيقة إلا عناصر ضعفهم، وأن ما نراه من بريق القوة وهيلمانها ما هو إلا زبد يذهب جفاء ليبقى في الأرض ما ينفع الناس من قيم ومباديء وأعراف.

الدرس الثالث هو أن الشعب بوحدته أقوى من كل المستبدين، الشعب الموحد يعني كافة أطياف المجتمع التي انضفرت في صرخة واحدة قوية تطلب التغيير. الوحدة هي الكلمة السحرية التي تفسر انتصار الثورة في تونس ومصر واليمن. وعندما نقول الشعب فإننا نقصد المجتمع المدني بكل فئاته، لأننا إن لم نكن شعباً فإننا مجاميع من القبائل الجغرافية والمذهبية والعرقية. عندما غاب مفهوم الشعب الواحد في اليمن خلال السنوات الماضية حضرت القبيلة بمفهومها غير الواسع، حضرت الجغرافيا بمعناها الضيق، وجاءت المذاهب التي لم يعد منها في الآونة الأخيرة إلا معاني الفرقة والخلاف. وأوضح الأدلة على ذلك أن الإخوة في "الحراك الجنوبي" قضوا سنوات طويلة دون أن تصل قضيتهم إلى معشار ما وصلت إليه القضية اليمنية الكبرى اليوم عندما التحموا مع جماهير الشعب وذوبوا حدود الجغرافيا وتجاوزوا المقولات التي أعاقت بلوغ صرختهم-على أحقيتها-مسامع السامعين. والدرس هنا: أننا بدون الوحدة مجرد جغرافيا هشة وتاريخ مضطرب ومذاهب متناحرة وبكر وتغلب وبسوس شمطاء تنوح على بعير أجرب.

الدرس الرابع في مدرسة الثورة هو أن الأنظمة السياسية في البلاد العربية كلها ما هي إلا عوامل فرقة في الوقت الذي ترفع فيه شعارات الوحدة بين أبناء الشعب الواحد من جهة، والوحدة بين أبناء البلدان العربية التي تشكل شعوبها أمة واحدة من جهة أخرى. الحق أن هذه الأمة أمة واحدة وأن عوامل الفرقة فيها ليست أمريكا وإسرائيل وحدهما وإنما الأنظمة العربية الحاكمة بالمقام الأول. هذه الأنظمة هي التي أضعفت الأمة أمام التدخلات الأجنبية الأمريكية والإسرائيلية والإيرانية، وهي التي قسمت شعوبها إلى جغرافيا مهترئة، ونسيج اجتماعي ممزق وتاريخ من الصراع المدنس غير النظيف. الدرس العظيم هنا أن الأنطمة العربية عاشت على التناقضات، وكما أفقنا على حقيقة أن تهمة إحراق الكنيسة التي كادت تودي بالوحدة الوطنية في مصر كانت من صنع وزير داخلية النظام المصري، أفقنا على حقيقة أن أنظمتنا العربية ما كان لها أن تعيش كل هذه المدة الطويلة لولا اعتمادها سياسة المستعمر القديم "فرق نسد"، السياسة التي قالت لنا هذه الأنظمة أنها وجدت في الأصل لتحاربها.

ومن أعظم دروس الثورة اليمنية المباركة أنها أعادت تشكيل الوعي الديني لدى النخبة والمجتمع على حد سواء. هناك مفاهيم دينية كان ينظر لها على أساس أنها من المسلمات سوف يعاد النظر فيها بدون أدنى شك. قضايا طاعة ولي الأمر، وحدود سلطة الحاكم، ومبدأ الشورى والديمقراطية، والخلاف المفتعل بين مباديء حقوق الإنسان العالمية والمباديء الإسلامية، وحقوق المرأة والأقليات في الإسلام سوف يعاد النظر إليها من زوايا جديدة. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفاهيم الولاء والبراء، والعلاقة بالآخر المسلم والآخر الغربي لا بد أنها سيعاد النظر إليها، خصوصاً ونحن نجد الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي تؤيدان التدخل الغربي لنصرة الشعب الليبي المظلوم على سبيل المثال.

ومن دروس ثورة اليمن المباركة وغيرها من ثورات الشعوب العربية أنها أسقطت الشعارات. صحيح أن لهذه الثورة شعاراتها الخاصة بها إلا أن شعارات هذه الثورة هي شعارات واقعية نابعة من عرق الناس وخارجة من حشرجات الصدور المكدودة. أدرك الثوار الجدد أننا خدعنا لعقود طويلة بالشعارات فجعلوا من ضمن شعاراتهم شعار "إسقاط النظام" الذي يعني في حقيقته "إسقاط الشعار". اختفت شعارات مناجزة أمريكا وإسرائيل، لم تحرق الأعلام الأمريكية ولا الإسرائيلية ، وأحرق مكان هذه الأعلام صور الزعماء العرب في تطور لافت للاتجاهات الجديدة. لا يعني ذلك بالطبع أن الاحتلال الإسرائيلي والانحياز الأمريكي لم يعد يشكل هاجساً لدى شعوب المنطقة، ولكن ذلك يعني أن هذه الشعوب سئمت شعارات الذين يحاربون إسرائيل على "جبهة الجولان" والذين يحاربون أمريكا على "حدود ضحيان" على سبيل المثال.

وهناك مع الدروس السابقة بعض الحقائق التي يحسن ذكرها هنا: الأولى أن الثورة في اليمن وجدت لتنتصر، كما قال ابن عمنا الرائع عمر المختار "نحن لا ننهزم، ننتصر أو نموت". لا خوف على الثورة بعد أن شبت عن الطوق، وقوي عودها. لا خوف عليها بعد أن اجترحت فعل التغيير، وبعثت الروح في الناس الذين خرجوا في الشوارع حاملين معهم آلامهم وآمالهم ويقية مما ترك آل الزبيري وآل النعمان. ومع أن الحذر واجب إلا أن كثرة الإرجاف تحدث البلبلة في صفوف الثوار، كثرة الحذر نوع من التثبيط، وضرب من الخوف وعدم الثقة. لا خوف على الثورة لأن الثائرين سيظلون يحمونها إذا ما أراد الرجعيون ركوب موجتها أو إذا ما حاول الذين انحرفوا بثورة سبتمبر وأكتوبر أن ينحرفوا بمسارها. لا أعتقد أن مهمة الشباب الثائر اليوم أن يخوض في غمار السياسة في الغد، مهمة الشباب ستظل مهمة الثوار في نقائهم، ينزلون إلى الميدان إذا لبس أحد "بردة النبي" عليه الصلاة والسلام ليركب موجة ثورتهم أو جاء آخر بـ"جبة العروبة" ليحيلها شوفينية عنصرية. ولا يعني ذلك أن "النبي" غير حاضر في أدبيات الثورة ولا أن "العروبة" بعيدة عن مضامين الثورة، ولكن ذلك يعني أن أحداً لن يستطيع تسييس الدين والعروبة لخدمة مصالحه السياسية في حكم الناس والتسلط على رقابهم بعد اليوم.

أنا على يقين من انتصار ثورة اليمن العظيمة، بل على يقين أنها انتصرت، تلك الثورة التي كشفت عن معدن هذا الشعب العظيم، الشعب الذي لم يعد "حاشد وبكيل"، ولا "مطلع ومنزل" ولا "شمال وجنوب" ولا "زيود وشوافع"، الشعب الذي يصنع اليوم معجزته بنفسه ويعلم الناس كيف تصنع الثورات وتنتصر الشعوب.

وبعد فها هو نفس الرحمان قادم من اليمن فاستبشروا يا أهل الشام "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".

*كاتب يمني مقيم في بريطانيا