توافق دولي عربي على الوضع في سوريا جدل بشأن عودة السوريين اللاجئين في أوروبا إلى بلادهم بعد سقوط الأسد وزير الدفاع التركي يكشف عن عروض عسكرية مغرية قدمتها أنقرة للحكومة السورية الجديدة ماذا طلب الرئيس العليمي من واشنطن خلال اجتماع عقده مع مسئول كبير في مكافحة الإرهاب؟ عاجل: قرارات واسعة لمجلس القضاء الأعلى القائد أحمد الشرع يتحدث عن ترشحه لرئاسة سوريا أميركا تطلب من عُمان طرد الحوثيين من أراضيها مؤشرات على اقتراب ساعة الخلاص واسقاط الإنقلاب في اليمن.. القوات المسلحة تعلن الجاهزية وحديث عن دعم لتحرير الحديدة تعرف على ترتيب رونالدو في قائمة أفضل 100 لاعب في العالم قرار مفاجئ يفتح أبواب التحدي في كأس الخليج
قبل اكثر من اربعين عاما تلقت وزارة الثقافة في اليمن انذاك دعوة رسمية من وزارة الثقافة العراقية للمشاركة في مهرجان المربد للشعر العربي والذي كان بمناسبة مرور (1000) عام على رحيل الشاعر أبو تمام.
بدورها اختارت وزارة الثقافة اليمنية واحدا من انبغ شعراء العربية المعاصرين الشاعر الكبير عبد الله البردوني فاعد الشاعر البردوني قصيدة تتناسب في موضوعها وفي جوها العام مع المهرجان وتعد بحق واحدة من روائع الشعر العربي المعاصر.
:جو القصيدة
القصيدة تصنف على انها من قصائد المهرجانات وللمهرجانات وقصائدها جو خاص تتناسب مع صخب المهرجانات ومع طابعها الجماهيري
كما ان من خصائص قصائد المهرجانات انها تبنى في الاغلب على فكرة او حدث تاريخي بارز يكاد يكون مختزن في الذاكرة الجمعية للحاضرين كما تحدث الشاعر البردوني عن هذه النوعية من القصائد في كتابه الرائع : أشتات .
لنعد سويا الى جو القصيدة الموسومة ب: ابو تمام وعروبة اليوم.
من الطبيعي ان يقتنص البردوني بحسه الشاعري المرهف و بسجيته وقوميته العربية هذا المهرجان ليوصل رسالته للامة العربية وللشعوب العربية فكانت هذه القصيدة التي يقول في مطلعها:
مااصدق السيف ان لم ينضه الكذب
واكذب السيف ان لم يصدق الغضب
بيض الصفائح اهدى حين تحملها
ايد اذا غلبت يعلو بها الغلب
هذا المطلع يحيلنا الى قصيدة شهيرة في الشعر العربي وهي القصيدة التي عارضها البردوني ونسج قصيدته هذه على منوالها وعلى نهجها وعلى ذات البحر والوزن العروضي تلك القصيدة للشاعر العربي ابي تمام التي يقول في مطلعها:
السيف اصدق انباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
ولكي ندخل الى جو القصيدة البردونية لابد ان نتعرف على جو القصيدة التي نسجها ابو تمام فهي المفتاح وهي المدخل لقصيدة البردوني التي نحن بصددها .
في عام 223 للهجرة الموافق 838م امرأة مسلمة تصرخ مستنجدة باسم خليفة المسلمين حينها بنداءها الشهير :وا معتصماه ؛ بعد ان تعرضت للظلم على يد علوج الروم.
وصلت هذه الاستغاثة اذان المعتصم فجرد جيشا قوامه تسعون الف مقاتل لنصرت تلك المرأة المسلمة المستنجدة.
وفي تلك الاثناء بعض المنجمين ابدوا معارضتهم الشديدة لهذه الحملة بحجة سوء الطالع لكن المعتصم لم يلتفت لتلك الشائعات وامر الجيش بالمسير على الفور والنتيجة كانت نصرا من الله وتأييد منه وفتح المسلمون عموريا وكذبت طوالع النجوم واتضح تدليس المنجمين.
ولان الشعر ديوان العرب فقد دون الشاعر ابو تمام تلك المعركة الخالدة ساخرا في مطلع قصيدته من تخرصات المنجمين.
اذا هذا هو المدخل للقصيدة ولجوها العام وسياقاتها التاريخية.
تابع الشاعر البردوني تلك الرؤية للشاعر ابو تمام ونسج قصيدته (التي نحن بصددها) مخاطبا بها ذات الشاعر الذي خاطبه البردوني وكأنه موجود في ذلك المهرجان مقارنا بين عرب الامس وحميتهم وغيرتهم وبين عرب اليوم وتخاذلهم وتقاعسهم عن نصرة القضايا العربية المعاصرة والعادلة وعلى رأسها قضية فلسطين .
يقول البردوني بعد ذلك المطلع الاستهلالي:
أدهى من الجهلِ عِلْمٌ يطْمَئِنُّ إلى أنصافِ ناسٍ طغوا بالعلمِ واغْتَصَبُوا
قالوا: همُ البشرُ الأَرْقَى وَمَا أَكَلُوا شيئاً ..كما أكلُوا الإنسانَ أو شَرِبُوا
يتحدث البردوني هنا عن الاستعمار الغربي الجاثم على دول ما يعرف بالعالم الثالث.وكيف ان المستعمرين يدعون زورا انهم هم الارقى والاكثر تحضرا ويرمون غيرهم من الشعوب المستعمرة بالهمجية والتخلف.!
والتمس العذر منك أيها القارئ العزيز اذ سننتقل على عجل إلى الابيات التي تحدث فيها شاعرنا البردوني عن محبوبته صنعاء.
في هذه القصيدة يخاطب عبد الله البردوني الشاعر ابو تمام حينا باسمه حبيب وحينا بكنيته الشهيرة ابو تمام فقال :
حبيب وافيت من صنعاء
يحملني نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب
صنعاء هي معشوقة البردوني هي معه اينما حل واينما ارتحل فهو دائما ما يتغنى :(ان معي صنعاء).
وفي هذه القصيدة يحدث رفيقه في الشعر عن صنعاء حاضرة اليمن فيخاطبه باسمه حبيب وهذا هو اسم ابو تمام : حبيب بن أوس.
يخاطبه انه وافى من صنعاء على الوعد المنتظر وهو هنا يقصد موعد انعقاد المهرجان.
يقول البردوني لابي تمام انه جاء من صنعاء محمولا على ظهر نسر وهذا الوصف الشاعري يحيلنا الى اجواء قصص ألف ليلة وليلة وخصوصا قصة السندباد وعلاء الدين اللذان تحملهما الطيور في تنقلاتهما .
شاعر من القرن العشرين عبدالله البردوني يخاطب احد اسلافه الشاعر ابو تمام من القرن التاسع الميلادي عن الوسيلة التي استقلها من صنعاء الى دمشق لم يكن الطف من لفظة( النسر ) ولو قال البردوني كلمة اخرى واصفا الطائرة التي استقلها لما كانت بهذه الجمالية ولم تكن متوافقة مع سياق القصيدة .
ثم يعود البردوني ليحدث ابو تمام عن صنعاء اكثر فاكثر فيقول له:
ماذا أحدّث عن صنعاءَ يا أبتي ؟
مليحةٌ عاشقاها السلّ و الجربُ
ماتتْ بصندوقِ (وضاح) بلا ثمنٍ ولم يمتْ في حشاها العشقُ والطربُ
كانت تراقبُ صبحَ البعثِ فانبْعَثتْ في الحلمِ ثمّ ارتمتْ تغفو وترتقبُ
لكنها رغمَ بخلِ الغيثِ ما برحتْ حبُلْى وفي بطنهِا "قحطان "أو"كربُ"
وفي أسى مقلتيها يغتلي "يمنٌ " ثانٍ كحلمِ الصِبا ، ينأى ويقتربُ
لعل البردوني هنا لمح في عيون محدثه ابو تمام اسئلة عن صنعاء فاجابه البردوني بهذه الابيات الشهيرة عن صنعاء.
يناديه ب يا ابتي يقصد البردوني هنا ابوة الشعر وانه تتلمذ على قصائد ابو تمام ونسج على منوالها ودندن على مواويلها.
يحكي البردوني عن صنعاء بأنها مليحة ولكل مليحة عاشق لكن البردوني هنا يخالف توقعاتنا عن العشق.
فلصنعاء عاشقان وهي دلالة شؤم فحتما هاذان العاشقان على صراع دائم كل منهما يريد الظفر بمعشوقته وبمحبوبته صنعاء.
يصدمنا عبد الله البردوني حين يخبرنا ان عاشقا صنعاء عاشقين قاتلين ...
هما : السل والجرب .
ولكن لماذا لم يكتفِ البردوني بذكر عاشق واحد لصنعاء لماذا اصر على انهما عاشقان قاتلان خطيران معا هما السل والجرب.
من المعلوم ان السل مرض قاتل يصيب الجسد من الداخل.
اما الجرب فهو مرض خطير قاتل ايضا يصيب الجسد من الخارج.
مرض يقتلها ويدمرها من داخلها هو السل.
ومرض خارجي ينهش جسدها ويشوه جمالها الفتان من الخارج وهو الجرب.
وهنا تتجلى براعة الشاعر البردوني في تكثيف الصورة الشعرية وقولبتها في نسق عميق الرؤى و الإيقاع ؛ فقد قصد البردوني بالمرض الذي يفتك بصنعاء من الداخل الحروب الاهلية بين اهل اليمن انفسهم والقلاقل الداخلية التي تنهك صنعاء خصوصا واليمن عموما مما يسهل على العدو الخارجي الذي رمز له البردوني ب(الجرب) وهو المتمثل بالاستعمار والاطماع الخارجية الفتك بصنعاء ومعها تذوي اليمن وتتحول الى ركام من الاوجاع والالام والمعاناة.
يا لها من معاناة ابدع البردوني في تصويرها بهذه البراعة وبكل هذا الاتقان الادبي الذي قل ان يجد له نظير في الشعر العربي المعاصر.
بطبيعة الحال وحال صنعاء بهذه المأساة
والسوداوية (كما رسمها البردوني) فان مصيرها المحتوم هو الموت الزؤوام.
لكن البردوني ببراعته الفذة وبشاعريته المعهودة يختار لصنعاء نهاية درامية سوداوية استلها من التاريخ العام لليمن واليمنيين .
يكمل البردوني حديثه الاليم عن صنعاء الأليمة ويخبرنا انها ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن!؟
يا ترى من هو وضاح الذي ماتت صنعاء بصندوقه بلا ادنى ثمن وبلا قيمة مستحقة؟!
عبد الله البردوني يستخدم رمزية الشاعر وضاح اليمن - يقال ان اسمه (عبد الرحمن بن اسماعيل الخولاني) - والذي تتلخص قصته انه كان من اشهر رجال العرب ايام الخليفة الاموي الوليد بن عبد الملك وكان شديد الجمال بهي الطلة فاتن الهيئة فكان لا يمشي الا مقنعا حتى لا ترى وجهه النساء فيقعن في حبه وفي غرامه .
تنامت اخبار وضاح اليمن وجماله الفتان حتى وصلت شهرته الى ام البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك والتي عزمت على اللقاء به في موسم الحج .
ويقال ان ام البنين ارادت ان تُدخل وضاح اليمن الى قصرها المنيف حتى تحظى بجماله فاتفقت معه على ان تدخله الى قصرها داخل احد الصناديق المحملة بالبضائع وبطريقة ما وصل هذا السر الى الخليفة والذي امر على الفور بدفن صناديق البضائع جميعا وبالطبع كان من ضمنها الصندوق الذي كان بداخله الشاعر وضاح اليمن فكان ذلك الصندوق قبره وتابوته وحامل مأساته ومأساة شعبه اليمني معا .
هذه المأساة التي عاشها وضاح اليمن جرد منها البردوني هنا صورة حزينة لموت صنعاء بعد ان اطبق عليها عاشقاها السل والجرب واردياها مقتولة في صندوق وضاح موؤودة بلا ثمن .
وهنا يقدم البردوني وضاح اليمن بصورة الجاني الذي تسببت مغامراته الطائشة غير المحسوبة ونزواته الشخصية الفجة في قتل صنعاء ودفنت معها اليمن في تابوت عفن ...
ولأن البردوني دائما ما يتمسك بالأمل ويزرع بذور الصباح في اغلب قصائده.
يؤكد هنا ان صنعاء رغم موتها الشنيع لم يمت في حشاها العشق والطرب.
فصنعاء هنا كالعنقاء تنبعث من بين الركام والخراب لان في احشائها العشق حيا لم يمت؛ اضف الى ذلك انها رغم كل مأساتها الا انها قادرة على ابتكار الطرب وتصديره للعالم ومن لا يطرب تعده العرب لئيما .
والطرب الصنعاني كما هو معروف عنه قاوم النسيان وبقي احد شواهد صنعاء الحضارية رغم موتها الطويل والذي قصد به البردوني غيابها الحضاري كما المح له البردوني في قصيدة هذه.
فقد كانت صنعاء حاضرة من حواضر الثقافة العربية القديمة مثلها مثل بغداد ودمشق والقاهرة وغيرها وكانت صنعاء فيما مضى مقصد طلاب العلم والعلماء ألم يقل فيها الامام الشافعي:
لابد من صنعاء وإن طال السفر.
لكن تلك المكانة العلمية لصنعاء(رمزا لمكانة اليمن العلمية والتاريخية قديما) تدهورت تدريجيا حد التلاشي والغياب التام.
وهنا تكمن عبقرية البردوني وشاعريته الفريدة فهو يقول في البيت الواحد ما يقوله غيره من الشعراء في قصيدة كاملة.
فحين تحاول تتبع المعنى الذي قصده البردوني في بيت واحد تتفرع لديك الصور وتتشعب بك الطرق فترى فيما رمز له البردوني سيلا من الصور المتحركة والمترابطة والمتراصة معاً.
وكما أسلفنا فإن مما يميز شعر عبد الله البردوني انه شاعر يتمسك بالأمل ويبعث في قارئه اشراقة المستقبل رغم سوداوية الحاضر الذي رسمه البردوني في اغلب قصائده الا إنه يبعث بشعاع النور من أعماق الليل الاسود الكالح.
ونلحظ هذا النسق البردوني واضحا وجليا في هذه الابيات التي صور فيها صنعاء بصورة الضحية المضرجة بدمائها المدفونة في تابوت مأساتها ، إلا ان صنعاء -بحسب البردوني- موعودة بالمستقبل وحتما سينير عتمتها صبحا أغر فهي حبلى بقحطان آخر وبكرب آخر جديد سيعيد لها ملاحتها ويصون جمالها ويرفع شأنها الى المكانة التي تستحقها.
قال البردوني:
لكنها رغمَ بخلِ الغيثِ ما برحتْ حبُلْى وفي بطنهِا "قحطان "أو"كربُ"
وفي أسى مقلتيها يغتلي "يمنٌ " ثانٍ كحلمِ الصِبا ، ينأى ويقتربُ
واكتفي معكم بهذا القدر من تذوق هذه الابيات من هذه القصيدة البردونية والى لقاء اخر يتجدد مع عبد الله البردوني .