الذكرى الأربعون لاستقلال الجنوب
بقلم/ علي ناصر محمد
نشر منذ: 17 سنة و أسبوع و 3 أيام
الثلاثاء 04 ديسمبر-كانون الأول 2007 08:40 ص

بعد صدور قرار تعييني محافظاً للجزر في البحر الأحمر والمحيط الهندي ، كنت في طريقي إلى ميناء التواهي (البحرية) لأبدأ رحلتي إلى ميون وكمران، كانت الأفراح بالاستقلال ما تزال معقودة.. لم تشهد عدن في حياتها فرحة كتلك التي شهدتها صبيحة الثلاثين من نوفمبر 1967م وبعده، كانت أيام فرح وأعراس حقيقية .. أول عرس تعيش فيه بعد (129) عاماً من الاحتلال البريطاني، الفرحة تعم عدن والمحميات بالانتصار التاريخي على قوات الاحتلال وبزوغ فجر الاستقلال.. هذا اليوم الذي طال انتظاره أكثر من قرن وربع القرن جاء معمدا بالدم، وبالتضحيات الغالية، والانتفاضات والثورات، والتمردات، وأرواح الشهداء.. بالعرق والدم والدموع، ولم يكن هبة أو منحة من أحد، لذلك كان الفرح على قدر الكفاح والصبر المرير..

كنت أشاهد مئات السيارات تتحرك وتطوف أحياء وشوارع مدينة عدن تحمل آلاف الشبان الثائرين المفعمين بنشوة النصر..وكان هتافهم للثورة .. وللحرية..

وبهذه المناسبة يطيب لي أن أتقدم بأحر التهاني القلبية لأبناء شعبنا بمناسبة الذكرى الأربعين لرحيل الاستعمار البريطاني واستقلال الشطر الجنوبي من الوطن. إنه النصر العظيم الذي صنعه نضال الشعب بمختلف قواه الوطنية والسياسية عقب اندلاع ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة والتي تعتبر امتداداً لسلسلة الانتفاضات الشعبية التي قادها شعبنا منذ الاحتلال وحتى الاستقلال.تلك الذكرى التي أيقظت في أنفسنا الاندفاع والأحلام كما كنا نعيشها في فترة حماس الشباب حيث جعلتنا نعتقد أننا سنحرر بقبضاتنا ليس جنوب اليمن فحسب بل محابة ومكافحة كل القواعد العسكرية في المنطقة.

كان ذلك زمن الغليان والثورات التحررية الكبرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ضد الاستعمار والأحلاف والقواعد العسكرية، وبالنسبة لنا كان أكثرها تأثيراً ثورة مصر - عبد الناصر ، وثورة الجزائر التي كنّا نتابع أخبارها يوميّاً عبر أثير إذاعة «صوت العرب» .

كنا مؤمنين بما نفعل ، الأولويات كانت واضحة و قاطعة ، والوطن قبل وفوق كل شيء .

كان زماننا صعباً، لكنه كان جميلاً ونقياً ومليئاً بالتفاؤل والثقة بالمستقبل، ففي مثل هذه الأيام قبل أربعة وأربعين عاماً كان جنوب اليمن كله يغلي حماسةَ وإرادة، العمال والطلاب والفلاحون وتنظيم القبائل ورجال الدين والشعراء والفنانون والصحفيون والضباط وكل الجماهير كانت تقف صفاً واحداً خلف الثورة .. أحالتهم وطنيتهم صقوراً ونسوراً..، فصورهم الشاعر محمد سعيد جرادة:

أفلاذ أكـباد الجنوب تجمعوا فرقاً كأسراب النسور الحوّم

سـكتوا فأعلنت البنادق منطقاً هو فوق سـحر بلاغة المتكلم

وكذلك كتب الشاعر عبد الله البردوني أنشودة الجنوب وقال فيها:

زمجري بالنار يا أرض الجنوب والهبي بالحقد حبات القلوب

انطلقت الثورة من جبال ردفان الشمّاء في 14 أكتوبر عام 1963م، بقيادة الجبهة القومية بعد استشهاد البطل راجح بن غالب لبوزة، ومعه كوكبة من شهداء الثورة ، وسط تأييد شعبي في كل أنحاء الوطن ، وتعالت الهتافات في كل أنحاء الجنوب وهي تردد أغنية الفنان محمد محسن عطروش :

«برع برع يا استعمار برع من أرض الأحرار»

والقصائد والأغاني الحماسية للشاعر الكبير عبد الله هادي سبيت:

يـا شـاكـي الـســـلاح شوف الفجر لاح

حط يدك على الـمدفع زمـان الـذل راح

كنت أسمعها من مايكروفونات شوارع الحوطة ، وكنت قد انتقلت للعمل في سلطنة لحج عقب خروجي من السجن مع صديقي ورفيقي حسين الجابري وعدد من الطلاب والمدرسين في ولاية دثينة على اثر المظاهرات التي خرجت في أنحاء الولاية احتجاجاً على منع السلطات الاستعمارية دخول لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، وكانت قنبلة المطار التي قام المناضل الوطني الراحل خليفة عبد الله حسن خليفة بتفجيرها في مطار عدن على المندوب السامي البريطاني والوفد المرافق له قبل المغادرة إلى مؤتمر لندن في ديسمبر عام 1963 قد عطلت وأجلت المؤتمر، فقد كانت كل تلك الأحداث من الممهدات لقيام الثورة المسلحة في الجنوب خاض خلالها شعبنا كفاحاً بطولياً على مدى أربع سنوات في كافة أنحاء الجنوب وفي قلب مدينة عدن روح الثورة وقلعة الثوار والأحرار حيث توج نضال الشعب في الجنوب الذي قادته الجبهة القومية وجبهة التحرير وبقية القوى السياسية بتحقيق النصر وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في 30 نوفمبر عام 1967 برئاسة المناضل قحطان محمد الشعبي، وكانت تلك بداية مسيرة طويلة من الكفاح والنضال والتضحيات نحو الاستقرار، حققت خلالها إنجازات كبيرة وفي مقدمتها توحيد الجنوب ، وإنهاء حالة الثأر التي كانت سائدة في زمن الاحتلال ، وبناء دولة قوية مهابة لها حضورها العربي والدولي ، كانت طموحاتنا أكبر من إمكانياتنا في مسيرة كان فيها الصواب أكثر من الخطأ ، والمعوقات أكثر من الممكنات ، انتصارات وإنجازات وإخفاقات، والكثير الكثير من التضحيات .

أما ما حدث من صراعات سلطوية، فقد كان سببها تباين في الرؤى والتوجيهات المتعلقة ببناء الدولة والمجتمع ، وبالموقف من قضية الوحدة اليمنية، وبسبب غياب الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة ، وأيضاً بسبب الظروف المعقدة والمناخ السياسي، الإقليمي والدولي السائد حينها في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. ومن جانبنا جميعاً فقد تم نقد هذه السلبيات والاستفادة من دروسها ، والاعتراف للشعب بهذه الأخطاء حيث خسرت الثورة والتجربة في الجنوب، العديد من أبنائها الأبرار ممن ذهبوا ضحية لها خلال مراحل مختلفة من عمر الاستقلال كما أشرنا لذلك في أكثر من لقاء وحديث، ولم يكن الشطر الشمالي من الوطن، ولا ثورته، ولا تجربته، بمنأى عن تلك الصراعات التي ذهب ضحيتها عشرات بل مئات الآلاف من أبناء الشعب اليمني، وسبق أن أشرت في صحيفة الأيام الغراء في يناير من عام 2006 وطالبت حينها بتشكيل لجنة محايدة من الأكاديميين والمستقلين الذين ليس لهم علاقة بهذه الصراعات منذ قيام ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر وحتى الآن بهدف تحليل ما جرى والوقوف على الأسباب والمسببات، واستخلاص الدروس والعبر من هذه الأحداث ، لتطلع الأجيال الحالية والقادمة على الحقائق كما هي دون تضليل، وتفصيل التاريخ على مقاسات الحكام والذي سينتهي بانتهاء حكمهم، ودون أن تخضع للأهواء والتفسيرات للأغراض السياسية الآنية صباحاً ومساءً ، التي تبعدها عن أهدافها في تضميد الجراح ، ولكن عظمة الشعوب، تقاس في قدرتها على تجاوز المحن، لا في المزيد من زرع الفتن ، وتقاس في حكمتها على تجاوز الآلام، وصراعات الماضي، والنظر والتطلع إلى المستقبل، لا في نبش هذا الماضي والتمسك بأهدابه. وتكمن عظمة الشعوب في وضع وتنفيذ مشاريع النهوض الكبرى بالوطن.

واليوم ، وأنا أهنئكم بهذه المناسبة ، فإنني أناشد شعبنا وقياداته أن يكونوا جميعاً على مستوى المسؤولية وأن يترفعوا عن المصالح والأطماع الشخصية والأحقاد والصراعات الجانبية، فالمال مآله الزوال ، والسلطة ليست نهاية الحياة، والأصل والبقاء هو للوطن وليس للأفراد، وما نحن إلا من العابرين ضمن مرحلة قصيرة في تاريخ هذه الأرض العظيمة.. فما أحوجنا إلى إزالة آثار كل الصراعات السياسية والحروب السابقة، وتهيئة المناخ لبناء الوطن الحر القوي العادل الذي يستوي فيه كل أبنائه.

وأجدد مناشدة الأخ رئيس الجمهورية للمرة الرابعة بإطلاق سراح المعتقلين على اثر الاعتصامات السلمية، بمناسبة الذكرى الأربعين لاستقلال جنوب البلاد وعلى رأسهم العميد ناصر النوبة رئيس جمعية المتقاعدين والمناضل حسن باعوم، ووقف الملاحقات الأمنية، ومحاسبة الذين أطلقوا النار على المعتصمين، واعتبار الذين قتلوا شهداء للثورة اليمنية. ونحن اليوم في أمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى للتصالح والتسامح لأنه يخدم مصالح الوطن العليا ويُفضي إلى الأمن والاستقرار، وأن يحتكم الجميع إلى لغة الحوار ومنطق السلم والسلام ، بعيداً عن المكابرة والمكايدة السياسية، وبمنأى عن لغة التهديد والوعيد كما صرح أحد المسؤولين بالنزول إلى الشارع والتلويح باستخدام السلاح والهجوم في الإعلام قد أصبح سلاحاً فاسداً وخاسراً سيرتد على أصحابه، ولن يؤدي إلا إلى مزيد من التوتر والأزمات وإلى ما لا يُحمد عقباه.

أحيي في الختام أرواح شهدائنا ، والخلود لهم جميعاً.

كل عام وأنتم ووطننا الحبيب وأهله الطيبين بألف خير.

عودة إلى كتابات
الأكثر قراءة منذ أسبوع
الأكثر قراءة منذ 3 أيام
سيف الحاضري
إلى قادة مليشيات الحوثي: آن الأوان لمواجهة الحقيقة
سيف الحاضري
الأكثر قراءة منذ 24 ساعة
د.مروان الغفوري
ملحمة معركة حماة بسوريا
د.مروان الغفوري
كتابات
في وداع أخــي ( عبده المعافى ) *
بلال الربية
مشاهدة المزيد