حين يبكي العظماء فالعذابات زائلة
بقلم/ حسن الحاشدي
نشر منذ: 12 سنة و 11 شهراً
الأربعاء 25 يناير-كانون الثاني 2012 03:20 م

بينما هو يتفقد رعيته في إحدى الليالي وقع سمعه لصوت فتاة ترد على أمها: «إذا كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا» ، كانت تلك الكلمات هي رد الفتاة على أمها حين طلبت منها خلط الماء مع اللبن لغرض بيعه في السوق ، وقعت تلك الكلمات على أسماعه رضي الله عنه فذرفت عيناه وردد قائلاً : «إذا كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا مراراً..». كان ذلك الحس المرهف والشفافية المطلقة والشعور بالآم وعذابات الآخرين هو الطاغي على نموذج من الجيل الفريد الذي تربي على عين النبي صلى الله عليه وسلم .

لقد كان أولئك العظماء لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار إلا بتفقد رعيتهم بأنفسهم دون وسائط أو لجان ، وكان أحدهم قبل توليه الخلافة يتفقد إحدى العجائز من رعيته يقضي حاجتها ويحلب لها شاتها ويعينها على نوائب الدهر بعد أن كبر سنها ورق عظمها وهو حاله كذلك بعد توليه مقاليد الخلافة رافضاً الاستشارات بأن وضعه الجديد يتطلب منه إن كان الأمر ولابد فليجعل لها خادماً يتفقدها ورزقه على بيت مال المسلمين فأبى وأصر إلا أن يتفقدها بنفسه ، وقد كانت تنظر إليه وعيناها تغرورق دمعاً وكان هو كذلك ؛ ذلك هو الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه . إنه حال المؤمنين رحماء بينهم ، فالرحمة لا تنزع إلا من شقي .

ما سبق هو ما تبادر إلى ذهني بعد إجهاشي بالبكاء وأنا أشاهد دموع العظمة والرحمة التي ذرفها رحيم القلب وعظيم الهمة المخضرم محمد سالم باسندوه - رئيس حكومة الوفاق الوطني أمام حشد النواب في البرلمان اليمني ؛ حرصاً على وحدة وسلامة اليمن من التشضي والانقسام إلى دويلات وتجنباً للاحتراب .

لم يكن باسندوه وحده في ذلك . بل إن المعاناة من الطغيان والتسلط على العباد ونهب خيرات ومقدرات الشعوب وإذلالها أخرجت تلك الظلمات من رحمها عظماء آخرون ، فهذا المنصف المرزوقي الرئيس التونسي الجديد يجهش بالبكاء أمام البرلمان التونسي بعد خطابه التاريخي والذي تعهد فيه بالعمل لصالح الأمة ، وحماية جميع أبنائها بمختلف أطيافهم بعد أن سامهم التعيس زين العابدين بن علي سوء العذاب .

وذلك مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي أمام حشود الشعب الليبي المنتصر في ثورته في موقف مؤثر وقبل إلقاءه خطابه يسجد بجبهته يعفرها بالتراب حمداً وشكراً لله ثم يحبس دموعه ويغالبها وهو يلقي خطابه أمام جموع الأحرار الليبيين الذين مرغوا أنف طاغيتهم المستكبر بالتراب .

وقبلهم الثائر المصري عصام شرف يلقي اليمين الدستورية في منصبه لرئاسة الوزراء أمام أبناء شعبه متأثراً في ميدان التحرير متجاوزاً برتوكولات القصور والبرستيج الفارغ وتعقيداته .

أنني على يقين أن تلك الزعامات العظيمة هي نتاج لإرهاصات الثورات العربية ، التي سوف تقود الأمة إلى تحولات حضارية لا مكان فيه للمستبدين المجرمين المستكبرين ، الذين قست قلوبهم فهي كالحجارة ، فأمهلهم الله ولم يهملهم فسامهم سوء العذاب ، وعلى أعين شعوبهم ؛ محققاً فيهم قوله عز وجل : (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ. فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) الآية.

لقد زهد باسندوه بموكب الرئاسة فتركه تقشفاً ، وزهد منصف المرزوقي بقصور بن علي فباعها ليقضي على البطالة في أوساط شعبه ، ويستعد عبد الجليل لتسليم السلطة بعد الفترة الانتقالية .

إن المجد القادم هو للشعوب المستضعفة المنهكة التي تولى ويزال زمام أمرها القادة العظماء ، الذين استضعفوا وذاقوا مرارات الاستضعاف ، فخرجوا من رحم الأمة بقلوب حية ومشاعر شفافة ورقيقة .

قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

وكما قال الأول :

إذا اشتبكت دموع في خدود ** تبين من بكى من تباكا

وما أشبه الليلة بالبارحة...