العلماء وقضايا الأمة التأثير أم التأثر؟!.
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 16 سنة و 10 أشهر و 23 يوماً
الإثنين 21 يناير-كانون الثاني 2008 11:20 ص

أعتقد أنّ من أهم عوامل وأسباب السقوط الحضاري والثقافي والسياسي لأمتنا، غياب دور العلماء وتأثيرهم الإيجابي في قضايا الأمة، ومشكلاتها، فلقد كان في الماضي الإسلامي، بمختلف أحواله وأوضاعه وتقلباته وتغيراته، يبقى للعلماء دورهم القوي والمؤثر في الأمة، قيادةً وريادةً وإدارة وتوجيهاً، فإن أصيبت الأمة في حكاّمها، وجدت في علمائها العزاء والمواساة، والأمل المتجدد، والصبح الشارق، والروح الوثابة، والقوة المادية والمعنوية، بخلاف الوضع الذي تعيشه أمتنا اليوم، فلربما أصيبت الأمة في حكامها، وأصيبت قبل ذلك في علمائها، أيضاً، إلا ما رحم ربي .

صحيح أن الذي يقود حركات التحرر الإسلامي اليوم بشتى تشكلاته الفكرية والسياسية والثقافية والعلمية، وعلى مدى طول التاريخ الإسلامي، هم العلماء والدعاة والمصلحون والمثقفون، في كل بلد ووطن، إلا أنه يبقى أيضا القول بأن بعض العلماء ليسو على مستوى العصر، وقضايا الأمة ومشكلاتها، وربما كانوا في بعض الأحيان هم إحدى المشكلات، إن لم يكونوا من أهم وكبرى المشكلات .

لا أريد أن أتحدث هنا عن دور السواد الأعظم من العلماء المشرق والمشرف والعظيم والكبير، ودورهم المشكور في تحرر الأمة، وسؤددها وكرامتها، من لدن مجاهد والثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك والإمام أحمد بن حنبل، والشافعي ومالك، وأبي حنيفة النعمان، وشيخ الإسلام بن تيمية، والعز بن عبد السلام، وابن القيم وغيرهم إلى الإمام أحمد ياسين وتلاميذه مشعل وهنية والزهار, إلى حارث الضاري، وغيرهم من هاتيك الكواكب الدريّة المباركة .

إنّ كثيراً من علماء الأمة أبلوا بلاءً حسناً في مؤازرة قضايا الأمة وحلحلة بعض مشكلاتها، في شتى الميادين والصور، بلا نكير من أحد .

بيد أن هذا الدور الكريم الذي اضطلع به العلماء، لا يعني أنه هو كل الدور المطلوب، فللعلماء أدواراً أخرى أهم وأكبر وأعظم، يجب خوضها بجدارة ونجاح، لا تقل عن أدوارهم الجهادية والفكرية، ومن ذلك:

1) السعي الجاد والحثيث للملمة صفوف الأمة وأحزابها وهيئاتها ومؤسساتها ودولها ومنظماتها، خلف المشروع الإسلامي الكبير، بمعنى ألا يكون العالِم حبيس دولته أو منظمته أو جماعته، أو مذهبه، أو مؤسسته، لا يرى ولا يسمع إلا هي، بل الواجب أن يخرج العالِم والفقيه من ربقة المذهبية المقيتة، بشتى أشكالها وصورها، إلى رحاب الأمة بسعتها وشمولها وعالميتها، وهذا لا ينافي الود أو الحب الخاص، لكن لا يجوز أن يكون على حساب مجموع الأمة وسوادها الأعظم .

لقد جنى الولاء الخاص على حساب الولاء العام للأمة ويلات كثيرة، ومحناً متتاليةً، على أصحابه، من تشرذم وتمزق واقتتال، وما نراه على صعيد المشهد العراقي والصومالي والفلسطيني واليمني والأفغاني.. لخير شاهد على ما نقول .

وليعذرني السادة العلماء أن أقول إن كثيراً من التشرذم والتمزق، بعض العلماء هم أحد أسبابه على أقل تقدير.

إن مهمة جمع كلمة الأمة وتوحيد صفوفها، هي مهمة قادة الفكر والرأي في الأمة، وفي مقدمتهم العلماء المتبوعون، والأمراء المطاعون، كأمراء العشائر والقبائل والجماعات والأحزاب الإسلامية، والقادة والساسة الخيرون في الأمة .

على أن هذه الدعوى لا تعني – من زاوية أخرى - مزيداً من تمزيق الكيانات والجماعات بدعوى الوصول إلى الوحدة العامة والشاملة، بل المراد السعي إلى دمج الأمة – كلها - وصهرها تحت لواء التوحيد والهدى والدين الحق، جماعات وأحزاباً وهيئات ومنظمات، على طريق الوحدة الإسلامية الشاملة .

وإنّ الواجب في هذه الأثناء تعزيز معاني الإخاء والوحدة في الأمة، عبر برامج عملية وجادة، وإشاعة ثقافة الوحدة بدلا من ثقافة النزاع والافتراق والاختلاف والتنازع، عملا بالواجب الشرعي، والفريضة الدينية .

قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }الأنبياء92 .

قال البيضاوي في تفسيره:' ملتكم ملة واحدة أي متحدة في الاعتقاد وأصول الشرائع أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة' (تفسير البيضاوي(1/158) .

ويقول سيد في ظلاله: 'هذه هي أمة 'المسلمين' في تعريف الله سبحانه . . فمن شاء له طريقا غير طريق الله فليسلكه، ولكن ليقل:إنه ليس من المسلمين! أما نحن الذين أسلمنا لله, فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله، والله يقص الحق وهو خير الفاصلين . .' .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52} }المؤمنون51 -52 .

يقول سيد في ظلاله: ' وتتلاشى آماد الزمان, وأبعاد المكان, أمام وحدة الحقيقة التي جاء بها الرسل، ووحدة الطبيعة التي تميزهم... ووحدة الاتجاه الذي يتجهونه أجمعين: *وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون*.. ' .

2) تقديم النموذج الإسلامي الراقي، ليس فقط من أعلى المنابر والخطب والأشرطة والفضائيات، بل على مستوى الشركة والمؤسسة والجامعة والمنشأة، والمستشفى، والمحكمة، فأن يلمس الناس صورة راقية من عدالة الإسلام وحضارته، ونظامه وجماله الإداري والتنظيمي والحقوقي، إن هذا لهو أمر عظيم وجلل، يجب الحرص عليه، غاية الحرص، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ{2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ{3} .

وللأسف أيضاً أن أقول إنّه ليُلمس غياب معاني العدالة والمساواة والحرية والكرامة، والشفافية، في بعض المؤسسات الإسلامية، والتي في بعض الأحيان تنسب إلى العلماء، أو يتولاها العلماء، إما بسبب سوء إدارتهم، أو بسبب ضيق الأفق، لدى بعضهم، أو نتيجة لضغوط الواقع الاجتماعي المر، أو نتيجة تجذر العقلية الاستبدادية، لدى فريق آخر، أو نتيجة فهوم خاطئة للشريعة والحياة، أو غير ذلك من العوامل، ولا شك أن الضحية ليس فقط هي المؤسسة أو المنشأة، بل المبادئ والقيم، هي الضحية والتي تُنحر في بعض الأحيان والأحوال بدم بارد، أو ربما تنحر في صورة أخرى نتيجة تطرف وغلو في بعض المفاهيم يكون أكبر من واقع الحال .

 وإنّ إشاعة معاني العدالة والمساواة والحرية والجودة والإتقان والكفاءة والإبداع في المؤسسات الإسلامية، سواء في أوساط الموظفين أو المنتسبين أو جمهور المراجعين، أو عموم الأمة ممن يرمق عن قرب أو عن بعدٍ هذه المؤسسات التي تحمل اسم الإسلام، لهو من أوجب الواجبات الشرعية المتعينة . 

3) تحسس مواطن الإيجاب والخير في الأمة وتنميته وتعزيزه، ذلك أنّ بعض العلماء، غفر الله لنا ولهم، لا ينظرون إلا إلى مواطن الفساد والمرض في الأمة، فتجد خطبهم ومحاضراتهم وأحاديثهم عن هذه الصور السالبة، رغم أن كثيراً من مواطن الخير والحياة والخيرية والجمال في زوايا أمة الخيرية والهداية، قلّ من يلحظها، إن في عالمنا الإسلامي بنوكاً ومدارس ومشافي وأحزابا وهيئات إسلامية، بل وحكومات مسلمة، بحاجة إلى دعم ومساندة وإشادة ومؤازرة، وتوسيع ورعاية، وبحاجة أكثر إلى تنسيق وتنظيم وتعاون، ولو وقع هذا وسعى إليه العلماء، لكان خيراً عظيماً وكبيرا، يضاف إلى رصيد الأمة .

4) ينبغي أن يضطلع العلماء بدور إصلاح ذات البين، سواء بين الهيئات والجماعات بعضها ببعض، أو بين الأحزاب والحكومات، فأحياناً يتطلب الأمر أن يتدخل العلماء ليصلحوا بين الحكومات والشعوب، ولا يخفى ما لهذا الأصل الشرعي العظيم من أهمية كبرى في دين الإسلام، كما قال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }النساء114، فما يجري الآن على كل الصعد الإسلامية سواء في فلسطين أو الباكستان، أو السودان، أو اليمن، أو الصومال من اختلاف أو تناحر، ينبغي أن يكون للعلماء في هذا الخضم دورهم في الإصلاح، وإطفاء وإخماد الثارات والفتن في الأمة المسلمة، عبر العديد من المنظمات والهيئات الإسلامية العالمية، أو الكيانات التي تمثل العلماء، في كل قطر ودولة .

إنه في كثير من الأحيان تحتاج هذه القضايا أو تلك إلى حكيم يصلح ويسدد الرأي، ويلم الشعث .

صحيح أن بعض القضايا تحتاج إلى حسم وقوة، ولا ينفع فيها موعظة العالِم، مهما بلغت موعظته من البلاغة والفصاحة، لكن يبقى هنا للعالِم دور هام وكبير وهو الفتيا الشرعية، لردع الباغي وعدوانه وظلمه، وتوجيه الأمة إلى سبيل الرشاد والحق والهدى، وهذا ما عرفته الأمة على طول التاريخ الإسلامي، من علمائها، الذي كانوا في كل الأحيان يقفون في صف الأمة ضد الطواغيت والمعتدين والبغاة.

ولا يخفى ما لفتيا العالِم المنضبطة شرعياً وواقعياً من أثر بالغ في توحيد كلمة الأمة، وجمعها وانتظامها خلف القرار الشرعي ذي السداد والقبول والحكمة، وهذا ما تفتقده الأمة في أوقات المحن والشدائد، حيث تختلف - في الغالب - فتاوى العلماء تبعاً لاختلاف القرار السياسي، وهذا ما وقع ويقع في كثير من الأحيان، ولعله لم يكن مألوفاً من قبل، حيث كانت الأمة تجد وحدة الفتيا الشرعية، لا سيما في القضايا الكبرى والمنعطفات الخطيرة في مسيرتها .

ختاماً: هذه مذاكرة يسيرة على هامش موضوع 'العلماء وقضايا الأمة' لا نطيل فيه أكثر مما يجب، وتكفي فيه هذه الإشارات، سائلاً من الله العلي القدير أن يلم الشعث ويجمع الكلمة، ويوحد الصف، وينير البصائر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،

المصدر: موقع لواء الشريعة