اليمن والوساطة وعقدة سيف بن ذي يزن
بقلم/ نجيب غلاب
نشر منذ: 15 سنة و 3 أشهر و 12 يوماً
الإثنين 17 أغسطس-آب 2009 08:50 م

من يتابع تحولات الصراع اليمني في الراهن لا بد أن يستنتج أن اليمن يتجه إلى وضع الفوضى، وأن الحرب الأهلية احتمال وارد.

وبتفحص طبيعة الحركة وصراع المصالح وتناقض الإرادات سوف نجد أن الحوار هو الطريق الأكثر جدوى، لأنه الخيار القادر على اختراع توافق لمواجهة الواقع ومشاكله، ولأن الثقة هي الاكسير المعدوم بين جميع الأطراف، فإن وجود طرف ثالث أصبح ضرورة، والسعودية هي الدولة المؤهلة للعب دور الوسيط. ولفهم مسألة الوساطة بين القوى المتنازعة لا بد أن نتناول إشكالية الحوار بين القوى الفاعلة في الساحة والعقدة «اليزنية» التي يعاني منها أبناء اليمن.

بادئ ذي بدء، اليمنيون خلال تاريخ الدولة الحديثة قبل الوحدة وبعدها، إذا عجزت القوة المسلحة عن حسم التناقضات فإنهم يتجهون إلى الحوار، إلا أن الإشكالية أن الحوار عادة ما ينتج الحرب، وهذه المعضلة ناتجة عن إدارة الحوار بالعاطفة والحلم وإنتاج حلول مثالية لا تنسجم مع طبيعة القوى الفاعلة في الواقع، والمتابع للتجارب السابقة سيجد أن كل طرف في الحوار لا يفصح بوضوح عن مصالحه، بل يطرحها من خلال نموذج متعال، وعند الحوار يتجاهل كل طرف واقع القوى المنافسة، بل ويتم تجاهل حاجات الواقع ومتطلباته الفعلية.

مع ملاحظة أن وجود طرف مهيمن في ظل وضع لا يسمح بالحسم، لذلك فإن الأطراف اليمنية المتنازعة في الحوار تبني توافقا مؤسسا على حلول مثالية، ويكون الطرف الأضعف على قناعة بأن المثال قوة ضاغطة على الأقوى مستقبلا، وفي الوقت ذاته لا يمانع في قبول المصالح من تحت الطاولة، أما الطرف الأقوى فيترك النموذج الذي أنتجه الحوار على الطاولة ويمارس السياسات الواقعية التي يتطلبها واقع الحال ومصالح القوى المؤثرة، وفي هذه الحالة تتطور الأزمة بطريقة تجعل من الحرب خيارا لا مفر منه.

القوى المختلفة في الراهن تنادي بالحوار، وهي واقعة في إشكالية المثال والنموذج والواقعية غائبة، فالحراك الجنوبي مثلا بجميع صوره يعوق الحوار، فهو يطالب بدولة مثالية مرتكزة على الفيدرالية، دولة تتطابق مع المثال الفكري لدولة العدل والمساواة والحرية، دولة الرفاه التي تستجيب لكل مطالب الإنسان في هذا العصر، وبدون هذا النموذج فإن الانفصال حسب بعض الأطروحات هو الخيار القادر على تحقيق هذا الحلم، وهذا الطرح يتجاهل واقع الجنوب وتناقض المصالح بين الأطراف التي تمثله، فالمسألة الجنوبية في إحدى صورها ليست إلا صراعا جنوبيا جنوبيا، كما أنه يتجاهل واقع اليمن والقوى الفاعلة فيه ومصالحها، لذا فإن أي حوار متعلق بالمسألة الجنوبية في ظل هذه الوضعية لن يقود إلى حلول، وفي حالة التوافق على النموذج فإن الاتفاقات لن تحل المشكلة بل تؤسس للحرب.

أما الحركة الحوثية فإنها تعمل وفق نسق فكري ماضوي غامض، ومطالبها المعلنة مخادعة ولا تتوافق مع واقع الحروب التي تجري في محافظة صعدة، ولا مع واقع تحالفاتها الداخلية والإقليمية والتي تم كشف خيوطها، وهي تدير صراعها مع الدولة والمجتمع من دون أن تحدد مصالحها بوضوح، كما أن طموحاتها متناقضة مع مصالح معظم أهل اليمن ومع الجوار الإقليمي، والحوار معها يمثل إشكالية كبرى ولا يمكن أن ينتج السلام، بل إن الحرب هي المحصلة الطبيعية. فالحوثية تفكر بمنطق الفكر التائه بين الزيدية والخمينية، والنموذج الذي يحكم سلوكها ثوري ومشتت ومرتهن للتاريخ، وهي تحاور بالأوهام لا بمنطق العقل والسياسة، والمشكلة التي تزيد من تعقيد الحوار مع الحوثية أنها أصبحت جزءا من الصراع الداخلي في بنية النظام الحاكم وتشكل بعبعا مخيفا للمعارضة الإخوانية.

الحوثية في تطوراتها الراهنة والتوسع الذي أصبح استراتيجية متبعة تبدو كجناح عسكري لقوى زيدية هاشمية وقبلية يدير معاركه ويعمل على نشر الضباب على الهدف الحقيقي وعن القوى الفعلية التي يعبر عنها، وفي المقابل فإن القوى التي تعبر عنها الحوثية تعتقد أن استمرار الصراع هو الخيار الأكثر جدوى لتحقيق المصالح، وأن الحوار غير مجدٍ لأنه لن يحقق طموحاتهم.

أما الأحزاب المعارضة (المشترك) فهي بدورها لم تعد قادرة على التعبير عن مصالح أحزابها والقوى التي تعبر عنها، لأنها تتحرك من خلال رؤية توافقية مثالية بنتها تلك الأحزاب، وتحاول من خلالها تجاوز تناقض الفكر والمصالح لمواجهة الحاكم، وأصبحت غير قادرة على الخروج من نماذجها المتعالية، لذا فإنها واقعة في ورطة غير قابلة للحل إلا بتفكيك التحالف حتى تتمكن من التعامل بواقعية مع مصالحها ومع مصالح الأطراف الأخرى ومتطلبات الواقع وفق الإمكانات المتاحة لا وفق الحلم المصاغ بالأفكار المتعالية.

أما الحزب الحاكم وتحالفاته المتشعبة فإنه يرى أنه يمتلك القوة الكافية والرادعة لحماية اليمن من الفوضى، ويرى أن مشاكل الواقع المختلفة قابلة للحل والتفكيك، ولكنها تحتاج إلى وقت طويل، وليست إعادة بناء النظام السياسي وإصلاح المنظومة الانتخابية إلا جزءا من الحلول العاجلة المفترض أن يركز عليها الحوار، ويطرح الحزب الحاكم أن جماعة «اللقاء المشترك» برفضها للحوار وإصرارها على حل المشاكل المعقدة قبل أي مناقشة لإصلاح المنظومة السياسية دليل واضح على رفض الحوار، كما أن موقفهم المؤيد لحركات التمرد يعد دليلا أن أحزاب المعارضة تراهن على هذه الحركات في إضعاف الدولة لأن لديها مخططا انقلابيا.

بدورها ترى أحزاب المعارضة أن الحزب الحاكم غير جاد في الحوار، وأنه يعمل على تأزيم الواقع السياسي لفرض رؤيته من خلال الحوار بهدف إعادة إنتاج مصالح المنظومة الحاكمة وتجاوز مصالح المعارضة، بل وتتهمه بأنه يوسع المشاكل ويعقدها لعرقلة أي إصلاحات قادمة، وما يجعل المعارضة متخوفة من الحاكم حسب بعض المراقبين هو ثقة الحاكم القوية بحل المشاكل في الجنوب وصعدة ومواجهة القاعدة، وإصراره على الحوار مع «المشترك» بلا شروط وتنفيذ الاتفاقيات الموقعة لإصلاح المنظومة السياسية والانتخابية كمقدمة ضرورية لمعالجة مشاكل الواقع، ولا مانع لدى الحزب الحاكم من اشتراك قيادات حوثية وقيادات من الحراك الجنوبي بشرط وحيد هو أن يكون الحوار تحت سقف الوحدة والجمهورية والديمقراطية.

تطورات الواقع وطبيعة المشاكل الراهنة والسياسات المتبعة حتى اللحظة من قبل الدولة والحزب الحاكم تؤكد أن الواقع يتجه نحو الفوضى، وأن قوة الحزب الحاكم والقدرات التي تمتلكها الدولة غير كافية لمواجهة المشاكل، وأن الحوار مع جميع الأطراف هو الخيار الأكثر جدوى، ولأن أبناء اليمن في كل صراعاتهم بحاجة إلى وسيط خارجي لتجاوز صراعاتهم، فإن الحوار لن ينجح إلا بوساطة ضامنة.

واللجوء للخارج يطلق عليها بعض اليمنيين العقدة اليزنية، باعتبار سيف بن ذي يزن أول من لجأ للخارج، حيث استعان بالفرس لمواجهة الأحباش قبل الإسلام، وتطورت العقدة في المرحلة الوسيطة لتاريخ اليمن الإسلامي حيث أصبح اليمن مرتهنا للخارج كأداة قوية بل وقائدة لتجاوز صراعات أبنائه، ومع تشكل الدولة الحديثة كان صراع الشطرين وداخل كل شطر بين قواه المختلفة مرتبطا بتحالفات مع الخارج، كما أن الصراعات داخل دولة الوحدة والحوارات التي نتجت عنها تمت بوساطة خارجية، وما زال الاستقواء بالخارج في المواجهة الحالية تعبيرا واضحا عن العقدة اليزنية.

إن وجود طرف ثالث مسألة في غاية الأهمية، بصرف النظر عن العقدة اليزنية للحفاظ على اليمن ومصالحه، والوساطة السعودية هي الأكثر جدوى لأنها حاجة يمنية للخروج من المأزق حتى يتمكن أبناؤه من تحقيق الأمن والاستقرار، وهي من ناحية أخرى ضرورة استراتيجية للأمن القومي السعودي والعربي، ورغم أن المسألة اليمنية هم دولي وإقليمي، فإن السعودية هي المعني الأول، وهي وحدها القادرة على أن تكون وسيطا قويا ومحايدا، وأغلب الأطراف يثقون كثيرا بالسعودية.

وأخيرا أرى كمراقب أن السعودية لا غيرها هي التي تمتلك مؤهلات الوسيط بين الأطراف المتنازعة، قد تبدو المسألة اليمنية معقدة وغير قابلة للحل وهذا ربما يخيف بعض إخواننا في المملكة، إلا أن الواقع يؤكد أن القيادة السعودية تمتلك الشجاعة الكافية والعبقرية اللازمة لإنقاذ اليمن، فالسعودية وحدها حكومة وشعبا هي الأكثر كرما واستعدادا للتضحية لمواجهة أزمة اليمن الخطيرة التي قد يؤدي تطورها إلى دماره. ولأن كلفة الدمار ستؤثر كثيرا على المملكة وعلى الأمن القومي العربي وعلى الأمن والسلم الدوليين فإن السعودية ستكون مسنودة من الجميع لنجاح وساطتها.