دردشة مع عصفورة مصرية
بقلم/ سلوى الإرياني
نشر منذ: 9 سنوات و 6 أشهر
الأحد 31 مايو 2015 10:11 ص
( الجزء الثاني) *
شقتي في الدور السابع. جلست في شرفتي اتأمل منظر القاهرة أمامي. كنت قد زرت القاهرة في 2011 ايضا. كانت شقتي حينئذ تطل على النيل و النخيل اما هذه المرة فأنها تطل على عمارات زجاجية شاهقة، و ُكبري و صفوف نخيل. في كل الأوقات أنا أحب القاهرة و اجدها جميلة. ماذا بين الـ 2011 و الـ 2015، لا شيء يسر نهائياً ، فلا كان شتاء، و لا صيف ، و لا خريف و الربيع العربي لم يكن ربيع بل ليل أسود طويل.
وقفت عند قضبان شرفتي عصفورة ، بينما في المرة الماضية كانتا عصفورتان ذكر و انثى. اما اليوم في 2015 فهي عصفورة واحدة و لكنها فعلا ساحرة الجمال بلونين فريدين. حيث كان رأسها اصفر الريش و كذلك طرفي جناحيها اما جسمها فبني اللون. عيناها شديدتي الاستدارة و السواد حتى خلت البؤبؤ بنفسجي. جمالها اوقفني عن الكتابة فتركت القلم على السطور و رفعت رأسي اتأمل جمالها الرباني. وقفت العصفورة امامي وجها لوجه. كانت قريبة مني نوعا ما لدرجة انني استغربت كيف لم تخشى أن امسكها بقبضتي لكن لعلها محقة في اطمئنانها مني فأنا يمنية الجنسية و بالتالي أنا " أخاف" و " لا أخيف" احد. كان في محياها حزن ،او لعلي انا الحزينة. نظرت إلى بانكسار او لعل كل ما فيني قد ُكسر مني انا. هذه المرة لم تكن ثورة ضد رئيس حكمنا فأفسد لمدة ثلاثة و ثلاثين عاما و لا هو تفجير مصليين داخل جامع بل هو قصف على بلد فقير و جائع من عشر دول عربية شقيقة. هي جريمة لن نسامح فيها ، انا نيابة عن كل اليمنيين لن اسامح فيها العرب و لكن مصرو هي للأسف احدى الدول المشاركة في القصف تظل ام الدنيا. شئنا ام ابينا هي كبيرتنا ، سندنا ، عزانا و أم الدنيا. و إن تكن اهانت اليمنيين على أراضيها ، و رشت نساء اليمن بالماء في حديقتها ، لكن تبقى هي المعلم ، هي العتاد هي السرايا و الجند و العلم و الوحدة و الدم....الله سيلطف بها ممن يتوقعون ان يكون دورها في الحرب هو الدور القادم ،خيب الله ظنهم إذ لو حدث ذلك لتيتمت الأمة الاسلامية و انقرض العرب. كادت مصر نفسها تسقط في الـ 2011 لكن تم انقاذها ، ضد الشرعية صحيح لكن لا بأس فالشرعية لدينا قادتنا للتهلكة.... فالتحيا الانقلابات اذا كانت لمصلحة البلد و عاش البلطجية الواعيين و ليسقط البلاطجة الجهلة الأميين. اما بلادنا فمنذ الـ 2011 وهي تعرج و في الـ 2015 تم بتر سيقانها.
تفكرت بتمعن في "الهدوء" الذي تنعم به هذه العصفورة المصرية فوق قضبان شرفتي. انها تروح و تجي يمينا و شمالا فوق القضبان مستمتعة بنسيم شهر مايو العليل و عطر السلام الفواح. تروح و تجي يمينا و شمالا فوق القضبان. ترفع عنقها فتأخذها أحضان السماء ثم تنظر إلى فترى في احداقي الاعجاب بجمالها وتسمعني اسبح الله في جمال خلقه. بلعت غصتي حين تذكرت العصافير و الحمام في بلادي. سألت ضيفتي الواقفة في شرفتي امامي و في الواقع انا ضيفتها اسكن في بلادها :- " هل سمعتي صوت القصف من قبل؟ هل تعرفين كيف يكون؟ هل تتخيلين ماذا يفعل القصف بالعصافير؟" لم تجبني لكن رأيت عيناها ترقب الإجابة من فمي. اضفت قائلة :-" القصف اولا صوت مدوي مخيف. يخيف الرجل و المراءة و الطفل بنفس الدرجة. يخيف حتى الحيوان و الكلاب و القطط في الشوارع و يخيف العصافير مثلك. هل تعرفين لماذا يخاف الصغير و الكبير ؟ هل تدرين لماذا يخاف الجميع؟ لان في القصف يصبح العمر مهدد بالرحيل و يقف الانسان وجها لوجه مع الموت. في تلك اللحظة التي تسقط فيها الصواريخ و يدوي انفجار مريع و يتصاعد نار و دخان و غبار و دماء و اصوات اطفال.... عندئذ هل تدرين كيف تتصرف العصافير؟ انها تهرب و تطير في اسراب. اذا اتت من اليمين ادركت ان في اليمين انفجار و اذا طارت من شمال فهمت ان في الشمال حريق. هذا ما يعمله القصف في العصافير. اما ان سألتي ماذا يعمل القصف في البشر ، فإن ردة الفعل تختلف من انسان لأخر لكن مثلا بالنسبة لي وقت القصف اشيخ. هذا ليس تهويلا ولا مبالغة بل انا عجزت فعلا في اوقات القصف. شاب شعري و تجعد جبيني و ارتعشت يدي و بت امشي بعصا لان ركبتاي ما عادتا تحملانني." اطرقت العصفورة رأسها الصغير و تنهدت. رأيت صدرها الصغير يعلو و ينخفض فأدركت انها تتنهد. ثم غطت وجهها الجميل بجناحيها كما تستحي البنت و تغطي وجهها بيديها و سألتني من خلف جناحيها :-" ما هذا الذي فعلتموه يا أهل اليمن؟ لماذا اهملتم السرطان حتى انتشر و استفحل؟ وعندما كاد يفتك بكم صرختم مستنجدين؟ ماذا فعلتم ببلادكم الجميلة يا أهل اليمن؟" ابعدت بيدي جناحيها عن وجهها لكي تراني و انا اجاوبها :- " ماذا فعلنا؟ فعلنا مثلما فعلتم! ثرنا مثلما ثرتم ، اردنا لليمن صباح جديد مثلما اردتم. غنينا للحرية و التقدم و التحضر اناشيد الولاء مثلما غنيتم." قاطعتني العصفورة سريعا :- " و ما دمتم هكذا تقتفوا اثرنا في كل خطوة ، لما حين لاحظنا خطأنا و صححناه لم تصححوا انتم خطأكم؟ ربما تكونوا لاحظتموه و تذمرتم منه لكنكم تركتموه يتوسع و يتمدد دون ان توقفوه عند حده. انتم للأسف ظللتم – و عدم المؤاخذة بقة – تخزنوا و ترغوا بعدين تناموا و بس. بصوا صحيتوا على إية؟ على حاء راء باء! عاجبكو الكلام ده؟"
صمت ...... هي محقة الى أبعد الحدود. نحن فعلا رأينا تجمعات العملاء و تغامز اللئام.. فلم نفعل سوى ان ذهبنا لننام. نصحو برهة و ندرك الجاري على الأرض ثم نحسبن و ننام لأعوام. شاهدنا سقوط مدينة بعد اخرى ، عمران ، دماج ، الجوف ، ثم صنعاء في ساعات قليلة كأنه حلم أو كابوس او وهم من الأوهام. وقفت العصفورة بغضب و رفعت رجلها و عدت برجلها الثانية و هي تحسب :- " عمران و كمان دماج و كمان الجوف و كمان صنعاء و حاولوا زي ما سمعنا في تعز .... طيب انتوا فين في كل ده، دانتوا احوالكم غريبة؟" شعرت بالغضب من تأنيبها المستمر هذا... و اردت أن اهاجمها هي ايضاً ، فقلت لها بصوت عالي منفعل :-" بل ماذا فعلتم انتم؟ تتحدون عشر دول عربية و بدلا من قصف اسرائيل تطيرون الينا نحن و تقصفونا و نحن دولة لا يخفى على احد انها لا تجد القوت؟ لماذا؟ السنا اخوة و اشقاء في اللغة و الدين و القومية بل و الدم؟ اما كان الاسلم و الاجدر هو ان تطيروا الى فلسطين لضرب اسرائيل بدلا منا؟" اجابتني العصفورة باقتناع شديد :-" الجيش المصري ام و اب الجيوش العربية كلها ، و هو فداء للبلاد العربية كلها ، و انتم استغثتم و نحن لبينا النداء لأن المستغيث شقيقنا." اغتظت لأن العذر قدمناه لهم و اخذوه من فوق الشماعة و هو لا يمت للواقع بصلة فقط يمت للمؤامرة بألف علاقة. اردت ان احرجها مثلما هي احرجتني :- " حسناَ ، نحن استنجدنا بكم و انتم قصتمونا لإنقاذنا ، حسنا ،حسنا فلنفترض اننا دعوناكم لنجدتنا من هذه الجماعة المسلحة التي تسفك الدماء و تختطف الناس و تفجر البيوت و لا لغة لديها سوى " تعال حاربني"... طيب انتم عشر دول غنية و قوية و كبيرة بكل جيوشكم و عتادكم العسكري لماذا طالت المدة الزمنية و لم تحققوا هدفكم؟ توقعنا ان تستغرق الحرب عشرة ايام كحد أقصى و ها هو الشهر الثاني ينقضي، بلا أي بشائر انتصار. عشر دول و لم تفلحوا في القضاء على "جماعة" مسلحة؟" لوحت بيدي للاستخفاف هاتفة بلهجة مصرية اتقنتها :- " هيا جتكم ستين نيلة كلكم." استحت العصفورة المصرية و تمتمت :-" كانت النية هي اغاثة شقيقتنا اليمن و اعادة السلام الى اراضيها." صمت قليلا و ترددت فيما كنت اريد قوله باعتبار انني ضيفة على اراضيها ثم تجرأت و قلت:-" بل كان في نيتكم الاسترزاق عن طريق قصف اليمن ، تشتيت اهل اليمن و تدمير بنيته التحتية و مبانيه و مصانعه و جسوره. ان هربتم من محاسبتنا لاننا ضعفاء فلن تهربوا من سجل التاريخ ، كل شيء مسجل." ضحكت العصفورة ضحكة جميلة ارغمتني على الابتسام و قالت :-" اما التاريخ ده انتوا تعبتوه معاكم ، دوختوه و لففتوه السبع لفات. من 2011 لغاية دلوقتي. في حد في الدينا دي كلها يقوم بثورة ضد اشخاص بعدين يقبلهم معاه في الثورة دي؟ طب ازاي؟!" واصلت ضحكها ، و ضحكت انا ايضا و علقت :- " فعلا ، دي كانت مسخرة." تفكرت بواقع الحال بعمق ، يتهموننا باننا مصابين بعقدة المؤامرة و انا اجد ان المؤامرة هي المصابة بعقدة العرب. فاذا كانت حربنا قامت في اليمن بسبب" الحوثيين" فأين هم في العراق؟ و اين هم في سورية؟ و اين هم في ليبيا؟ هل كانت الثورات بين سنة و شيعة؟ لا والله لم تكن ، حيث عشنا و تعايشنا في سلام منذ الأزل بل كانت الثورات للقضاء على فساد الحكام و لبناء غد افضل. فما حدث هو ان ندمنا على حكامنا الفاسدين و بكينا حسرة على فساد حكوماتنا السابقة.
 فتحت كفي اسفل ارجل العصفورة فقفزت و حطت عليها. سألتها بمرارة:-" اخبريني الأن ، متى تتوقفون عن قصفنا ؟ اتعبتمونا." طارت قليلا و حطت هابطة على كفي. لم تجب او لعل الاجابة ليست لديها. ثم اكدت ذلك برفع كتفيها للتعبير عن عدم المعرفة. رأيت في الأفق سرب كبير من نفس فصيلة هذه العصفورة وسمعت زقزقتها كأنها تنادي العصفورة للالتحاق بها. ابتعدت العصفورة من فوق كفي عائدة إلى قضبان شرفتي. قالت لي :-" لابد ان اعود الأن الى السماء. لكن قبل أن اتركك دعيني اذكرك ان الوطن حين يضيع فلابد من تجهيز ثمان رصاصات واحدة للعدو و سبعة رصاصات لأبناء الوطن الخونة الذين باعوه." كلام العصفورة صحيح مائة بالمائة و نحن نعرف ذلك تمام المعرفة. صحت لألحقها قبل ان تطير و تلحق بسربها :-" هيا أجيبيني قبل الرحيل. متى تتوقفون عن القصف؟ نحن اليمنيين اقوياء و معتادين ان ننحت في الصخر، سوف ننهض من كبوتنا و سنعمر فوق الدمار بيوت و ستشرق فوق القبور شمس الحياة...و سنبقى و نستمر، انظري ها هي ميدالية مفتاح بيتي ، أريد ان أعود." اجابتني بحزم :-" نتوقف عن القصف حين تتوقف جماعتكم عن قصفكم في عدن و تعز و إب... و إلا كيف نتوقف نحن فتقصفكم هي؟" نظرت إلى العصفورة و هي تهم بالرحيل و هتفت :-" حاسبي على مفتاح بيتك ، اوعي يقع منك. باذن الله ترجعي قريب." قالت ذلك و طارت ملتحقة بسربها و طار السرب بعيد.
تركتني العصفورة المصرية في مصر و معي المفتاح......يا خوفي ان تدفنني انا و مفتاحي اكوام الجراح.
سلوى الارياني
2015- مايو
*الجزء الأول ُنشر في 2011 في التغيير نت