آخر الاخبار
صناعة الطغاة
بقلم/ د.رياض الغيلي
نشر منذ: 18 سنة و 4 أشهر و 29 يوماً
السبت 01 يوليو-تموز 2006 10:19 ص

" خاص - مأرب برس "

كلما تأملتُ في حالِ أمتنا وما صارت إليه من ذلٍّّ وهوانٍ وانكسار وهزيمةٍ وتفرق .. وكلما تأملتً في حالِ أمتنا كيف أصبحت قصعةً مستباحة لأمم الأرض ، وكيف أضحت أمتنا أمةً غثائيةً لا وزن لها ولا قيمة لها بين أمم الأرض !! كلما تأملت !!

رجعت إلى نفسي وأيقنت - بل ويوقن معى القارئ الكريم – أن الأمة هي التي جنت على نفسها .. الأمة هي إغتالت نفسها ... الأمة هي التي أهانت نفسها وأذلتها .. هي التي جلبت العار لنفسها ..

هي التي رضيت بالهزيمة والانكسار ... قد تعجبَ عزيزي القارئ .. ولكنها الحقيقة المرة !!

أليست الأمة هي التي جعلت من الخونَةِ أمناء ؟ !

أليست الأمة هي التي جعلت من السوقةَ أمراء ؟ !

أليست الأمة هي التي جعلت من الأقزامَ عمالقة ؟ !

أليست الأمة هي التي جعلت من الأوغاد قادة ؟ !

أليست الأمة هي التي جعلت من السفلةَ علية ؟ !

أليست الأمة هي التي جعلت من الجهلةَ حكاماً ومشرعين ؟ !

أليست الأمة هي التي رفعت اللصوص على كراسي الحكم ؟ !

أليست الأمة هي التي جعلت الرويبضة زعيماً ؟ !

أليست الأمة هي التي تصنع الطغاة ؟ !

أوليس الطغاة هم سبب نكستنا .. وشقائنا .. وذلنا .. وقهرنا .. وجوعنا .. وفقرنا ..وتفرقنا ؟ ! إن أمتنا تُجيدُ صناعة الطغاة منذ القدم ! ! فالبابليون في العراق صنعوا من النمرود ( حمورابي ) طاغيةً ، بلغ به طغيانه إلى أن يقول " أنا أحي وأميت " !! وهو لم يكن طاغية بفطرته ولا بسجيته .. إنما قومه " البابليون " هم الذين صنعوا منه طاغية !! والفراعنة في مصر صنعوا من ( فرعون ) طاغية ، بلغ به طغيانه حداً لا يمكن مواجهتهحتى قال :" أنا ربكم الأعلى " .

وفرعون لم يكن طاغيةً بفطرته ولا بسجيته .. إنما شعبُ مصر هم الذين صنعوا منه طاغية ! !

صنعوا منه طاغية إلى درجة الصنمية .. يقول : " ما علمت لكم من إلهٍ غيري " .

بل وصل به طغيانه إلى التطاول على رب العزة والجلال فقال لوزيره " هامان " الذي كان ينفخ فيه : "

يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى "

ولما وصلَ فرعون إلى قمة الطغيان ، بدأ الاستخفافَ بقومه الذين صنعوا منه طاغية "

فاستخف قومه فأطاعوه " ، وصادر حريتهم ، وعقولهم ، وأفكارهم بقراره الطاغوتي " ما

أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " .

واليمنيون القدامى في مملكة سبأ حاولوا أن يصنعوا من الملكة ( بلقيس ) طاغية رغم أنها امرأة، حينما أوكلوا إليها حرية التصرف المطلق .. حينما عطلوا عقولهم وقالوا : " نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد ، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " !! 

هكذا أجادت أمتُنا صناعة الطغاة منذ القدم ... حتى جاء الإسلام ليحيل هذه الأمة من صناعة الطغيان والطغاةِ إلى صناعة المجدِ والسؤدد والسمو والعلو .

جاء الإسلام ليعلم الأمة أنه لا مجال لتقديس الأشخاص .. وتعظيم الأجساد .. ولا مجال لتمكين الأنساب .. أو مصادرةِ الحريات .. لا مجال لنفاق الحكام .. أو مجاملة الملوك .. أو مسايرةِ الأمراء ..جاء الإسلام ليعلم الأمة أنه لو كان هناك شخصٌ يستحق التقديس ، والتمجيد ، والتعظيم ، لكان رسول الله ( ص ) .

ولكن جاء الوحي من القدوس المجيد العظيم العزيز ليُلقن الأمة درساً تنسى به عادتها في صناعة الطغاة ، وتقديس الأشخاص : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " .

نعم : محمد !! الرحمة المهداة والسراج المنير ، الذي غير وجه العالم .. يقول عنه مولاه جل جلاله : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " . نعم : محمد ( ص ) !! الذي يهون من شأن نفسه فيقول : " ما أنا إلا إبن امرأة كانت تأكل القديد " .

وفهم هذا الدرسَ صاحبهُ ( الصديق ) أبو بكر رضي الله عنه ، حين أعلن على رؤوس الأشهاد قوله الشهير : " من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن يعبد الله فإن الله حي لا يموت "

إذن فلا مجال في الإسلام لعبادةِ الأشخاص .. ولا مجال لصناعة الأصنام .. وحين تولى الصديق ( رض ) الخلافة قام خطيباً في الناس ليذكرهم بحقيقةِ نفسه : " وُليتُ عليكم ولست بخيركم " أغلق الإسلام كل المصانع التي تنتج الطغاة بالشمع الأحمر ، وشارك في إغلاق هذه المصانع كل فرد من أفراد هذه الأمة ..

حين قال الفاروق عمر ( رض ) ذات مرة : " أيها الناس إذا رأيتم في اعوجاجاً فقوموه"!!

قام رجل من عامة الأمة وقال : " والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا " !!

وسارت الأمة في ظل هذه المفاهيم قروناً ، عزيزةً ، منيعةً ، قويةً ، مهابة .. وحين انسلخت الأمة عم عقيدتها .. وتخلت عن منهج خالقها ، عادت من جديد لعادتها القديمة في صناعة الطغاة .

وأسهم المفكرون والمثقفون والشعراء والأدباء في هذه الصناعة وسار الغوغاء على دربهم في صنع الطغاة ..

روى بن كثير في كتابه " البداية والنهاية " هذه القصة التي تدل على اسهام الشعراء والأدباء قبل غيرهم في صناعة الطغاة !! يقول بن كثير: " اتفق في بعض الأحيان أن الخليفة العباسي ( المهدي ) استدعى الشعراء إلى مجلسه ، وكان فيهم أبو العتاهية ، وبشار بن بُرد الأعمى ، فسمع بشار صوت أبي العتاهية ، فقال بشار لجليسه : أثَم هاهنا أبو العتاهية ؟! فقال : نعم ـ

فأنطلق أبو العتاهية يذكر قصيدته التي أولها :

  ألا ما لسيدتي مالها أدلت فأجمل إدلالها

فقال بشار لجليسه : ما رأيت أجسر من هذا ..

حتى انتهى أبو العتاهية إلى قوله :

 أتته الخلافة منقادة إليه تجرجر أذيالها

 فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها

 ولو رامها أحدٌ غيره لزلزلت الأرض زلزالها

  ولو لم تطعه بنات القلوب لما قبل الله أعمالها

فقال بشار لجليسه : أنظروا هل طار الخليفة عن فراشه أم لا .. !!

بل إن الشاعر الأندلسي ( ابن هاني ) قد جاوز في مدح المعز الفاطمي حتى مدحه بقوله :

ما شئت لا ماشاءت الأقدارُ  فاحكم فأنت الواحدُ القهارُ

ومدحه أخرى فقال :

ولك الجوارِ المنشئات مواخراً تجري بأمرك والرياح رخاءُ

وفي هذا دليل كافٍ لكل من يعتقد أن ظاهرة صناعة الطغاة ، وعبادة الحكام ، وتقديسهم والتسبيح بحمدهم ، إنما هي ظاهرة حديثة أخذها العرب والمسلمون من أنظمة الشيوعية البائدة التي صنعت طغاة كـ ( لينين وستالين وموسوليني وهيلاسلاسي .. وغيرهم ) .

ومن الواضح في التأريخ الحديث للأمة أنها أجادت أكثر من غيرها صناعة الطغاة ، فهي الصناعة الوحيدة ذات الجودة العالمية التي تجيدها أمتنا ، وشاركت الأمة بمجموعها في هذه الصناعة ، فالشعوب تصفق ، وتهتف .. والإعلام يقدس ويمجد ويكذب .. والصحف تدبج الكتابات والتهاني وتكيل الألقاب .. والشعراء يمدحون .. والمنافقون وأصحاب المصالح يتزلفون ويتملقون ويشعلون الحرائق بين الطاغية وشعبه ..وعلماء السلطان يدبجون الفتاوى ويقبضون ثمنها بخساً .. وتبدأ صناعة الطاغية في المرحلة الأولى من الإنتاج ، بفرض صوره .. لتوضع في كافة الدوائر الحكومية ، والقطاع العام ، والخاص والمختلط .. والويل كل الويل لأي دائرةِ حكومية أو خاصة لا تضع صورة الطاغية في كل الغرف والأجنحة المكونة لهذه الدائرة ..ثم تصبح أخباره هي المادة الرئيسة لنشرات الأخبار .. وتصبح صورته هي أول ما تشاهده وأنت تطالع جرائد الصباح .. وهي آخر ما تشاهده في التلفاز قبل أن تنام .. ثم تأتي مرحلة أخرى من مراحل الإنتاج حينما تصبح كل تصريحاته هامة ، وكل خطاباته ذات صدى عالمي .. وكل أفكاره توجيهات استراتيجية تغير مصير الأمة ... وكل مبادراته هي المخرج الوحيد من الأزمات التي تعيشها الأمة ( رغم أن الطغاة هم السبب في كل الأزمات الخانقة التي تعيشها الأمة ) .

وبالتالي تصبح المادة الرئيسة في الأعلام هي : استقبل وودع ، واتصل وأصدر ، وأشاد ووجه ... الخ .

ثم تأتي مرحلة تسمية المنتج فيتغير اسمه من مجرد الرئيس إلى فخامة الرئيس أو صاحب الجلالة ، ثم تنهال الألقاب على الطاغية كالسيل الجرار فهو : الزعيم الملهم ، والقائد الفذ ، والفارس الذي لا يشق له غبار ، والصقر الذي يرى بحدة بصره ما عميت عن رؤيته ملايين العيون .. وهو صانع الأمجاد التي لولاه ما كانت لتكون ، وهو ربان سفينة النجاة التي لولاه لغرقت وغرق كل من عليها .. وهو رائد المرحلة التي لا يتوفر

في ظرفها غيره ، وهو الضرورة التي لا يوجد منه نسخة أخرى لقيادة الأمة ... الخ

ثم تأتي مرحلة التلميع لتشمل تأريخه الغامض في النضال ودوره البارز في دحر الإحتلال أو تقويض النظام الاستبدادي ، وأنه هو الذي أطلق أول رصاصة في حرب النضال ، وأنه هو الذي أشعل أول فتيل للثورة ، وأنه هو الذي أوقد الشرارة الأولى للتحرير ، وتتوسع دائرة التلميع لتشمل أفراد الأسرة الكريمة من الأبناء والأحفاد والأصهار والأنساب . ويكفي أن تكون طباخاً في قصر الطاغية لتُفتح أمامك كل الأبواب الموصدة

ثم تأتي مرحلة التأمين بصنع الأجهزة الأمنية التي تحيط بالطاغية في حله وترحاله ، وتصنع بينه وبين الشعب المصفق آلاف الحواجز والموانع من حرس خاص ، إلى حرس جمهوري أو ملكي إلى أمن مركزي إلى أمن دولة إلى أمن قومي إلى مكافحة الشغب إلى ... إلى ........ .

ثم إذا ما إنتهت مدة صلاحية الطاغية وأمسك بزمام الأمور من بعده أحد أبنائه .. خرجت الآلاف المؤلفة راغبةً وراهبةً لتوديع الجثمان الطاهر ، وهي تحمل صوره ونياشينه ، والموسيقى تعزف لحن الوداع ، ويُبنى له ضريحٌ يتحول إلى مزارٍ إسبوعي لآلآف المطحونين . إنها مأساة أمة .. أمة ضحكت من جهلها الأمم .