حديث القمر...
بقلم/ هائل سعيد الصرمي
نشر منذ: 12 سنة و 8 أشهر
الإثنين 02 إبريل-نيسان 2012 06:35 م

  كان السكون يملأ المكان , والسماء صافية كصفاء السرائر الطيبة التي لا تعرف الالتواء ولا الختل.

 انسكب الأنس و الجمال.. فتلقفته المشاعر النقية واستقبلته الحنايا الظامئة بحفاوةٍ وترحاب ,أصبنا منه حظا وفرا.

 يوم كنت وشريكة عمري على كوة في ذروة منزلنا الصغير الذي نرى من خلاله المدينة الحالمة, التي يعشقها الأدباء ويتغنى بها الشعراء, ويهرع إليها السياح من كل مكان إنها مدينة (تعز) الجميلة , جميلة بجمال أهلها , طيبة بطيبتهم , حالمة بحلمهم الكبير, وسُميتْ حالمة لأنها (معلقة في الفضاء) فهي تفوق مدينة البندقية العائمة في الماء , سحراً وجمالا. وشتان بين الصعود في الفضاء والغوص في الماء.

بسطنا مخمل الحب على صهوة الفناء الممراح , في السطح المبتسم كابتسامة النجوم في الليلة الحالكة الظلام , ونسجنا خيوط المسرة بالمسامرة والبوح الشجي , الموشى بنغم الوجدان , الطائر في الفضاء كالفضاء نفسه , تحمله أجنحة الشوق والكلمات المعبرة عن صدق المشاعر والعواطف. ولكل عاشقين نغم خاص و لغة خاصة لا تروى ولا تقال. 

اتخذ كل منا متكئا يتكئ عليه بعد حديث الحب , ليبدأ حديث الجمال كان الجو يبعث على الراحة, والمكان معد للاسترواح , بدأنا نقلب البصر ونتملى السماء.. نراقب فيها ومضات الشهب الباهتة , وتلألأ النجوم الخافتة , التي حجبها الضوء المنساب من شفاه القمر, وقد كان قاب قوس من تمام اكتماله بدرا .. فكأنما كان يدعونا لمناجاته.

على رفرف هذا الجمال البديع كنا نتبادل أطراف الحديث مستمتعينَ بحديث القمر ونسيم الصيف ودفئه ؛ .فقد وضع خطواته الأولى على ربوعنا, منذ أيام قلائل , نعم جاء الصيف على فاقة , بعد شتاء قارس ذقنا حلاوته ومره!! كنا مسرورين بقدوم الصيف كأنما غائب عزيز علينا قادمٌ من بعيد بعد طول افتراق, محمل بالهدايا الثمينة التي تنشرح لها الصدور, وتهفو إليها القلوب, ويحثو السير خطاه نحوها, طلبا للمسرة ومظنة في امتلاك ناصية السعادة .

قالت أسماء : وهي تنفضُ عن كتفي بعض الغبار وترنو ببصرها نحو السماء , وقد تنهدت تنهيدة خفيفة أحسستُ أنها مَمزوجة بلوعة شدت إليها انتباهي .

 ألا ترى كيف يسحرنا الصيف بجماله, ويأسرنا بصفائه , وكم يطربنا السمر بين أحضان مسائه وعنفوان ظلامه وانهيال ظلاله.

قلتُ: بلى . 

قالت وهي تُسلمْ ظهرها على المتكئ: لو كان لنا سيارة لخرجنا في رحلة مع الأولاد نستمتع بنهاره , كما نستمتع بليله الجميل. وها هي العطلة تقرع الأبواب.. كيف نستغلها ونستثمر أوقاتها بما يعود بالفائدة والخير والبركة ..!!

سحبتُ الغطاء الناعم وأسدلته على أقدامي حتى لا تلثمها زخات الهواء المتقطعة بين الفينة والفينة .

_ هذا بُعد نظر عهدتُهُ فيكِ, لكني أشتم يا حبيبتي رائحة أمر آخر ترمين إليه لم تفصحي عنه بعد , وأجدني مشتاقا لسماعه.!!

وأخذتُ بأطراف ثوبها بلطف ووضعتُ يدي على يدها برفق وحنان أفصحي يا قرة العين ونور البصر فكلي آذان صاغية.

آه.. يا (كريم) : كم تحدثني جارتي عن رحلاتها المتكررة مع زوجها وأولادها وعن نفقاتها الفارهة ومقتنياتها من الملابس والهدايا مالا أستطيع أن أرويه ولا أصفه لك , من كثرته , حتى يداهمني الضيق مما تقول , فكأنها تُعرِّض بنا لضيق اليد , ولا أتمنى أن أكون مثلها فكل حسب سعته , لكني أتمنى الحياة الكريمة التي لا نحتاج معها لأحد , أقصد ما يفي بالغرض المأمول , دون اسراف ولا تقتير.

أطرقتُ هنيهة : أنت محقة كل الحق: هذا أمر أرقني كما أرقك وشغل بالي كما شغل بالك ولا حياء في تناوله ونقاشه لكني أطمئنك بأنه في البال وأني أبحث السبل التي يتوسع دخلنا مع سبرها , ويتحسن حالنا بعد خوضها , وقد أعيتني الحيلة , ولكن لا يأس ولا قنوط مع الإصرار, ولعلي عن قريب أصل.

انحنتْ وأخذت بعض الحلوى من طبق بجوارنا, ووضعتها في فمي ثم قالت :نحن ولله الحمد نتقلب بين نِعمٍ لا تحصى وفضائل لا تعد وهي كثيرة بفضل الله , لا نجحد فضله علينا لكن لا يمنع , أن نوسع من دائرة نشاطنا حتى نحصل ولو على الحد الأدنى من العيش الكريم , ونوفر لأولادنا القدر الممكن من الاحتياجات الضرورية , ثم لا مانع من أن نكد ونجهد حتى نصل إلى العيش الرغد لنمتلك زمام الكرامة من أوسعه .

وما معضلة النزهة إلا غيض من هذا الفيض, رغم أنها ليست من الأشياء الكمالية كما يظنها البعض .انها تُذهب الملل وتشحذ الهمة وتجدد الطاقة والحيوية والنشاط للأولاد, فيعودون بنفسية راضية مرحة , مستقبلين الحياة بقلب مُنفتح وصدر مُنشرح , فالنفوس تمل كما تمل الأبدان مع طول البقاء ولا بد لها من طرائق التغير والتجديد ليذهب كدها وكدرها.

ثم التفتتْ نحوي والبسمة في ثغرها كأنما خلخل الخجل استرسالها بالحديث حياء من قلة اليد و بعد الشقة بينها وبين ما ترنو إليه. لعلمها أنها لا تتم دون امتلاك سيارة يسهل معها التحرك والتنقل ومال يوفر جوها توقفتْ برهة فلما رأتني منبسطا , وسمعتني أقول لها أنا معك فيما ذكرتي

انشرحت وأردفت قائلة: ما أجمل أن نجوب القفار ونتسلق الجبال ونستروح بين مروج الحدائق والروابي والتلال. ألا ترها أغنية جميلة

بلى بلى ..إنها لوحة فنية فارهة الجمال مدهشة التصوير باهية الحسن وإني لأشعر بما تشعرين ثم ماذا أيتها الجميلة؟.

 بالأمس زينب تقول لي: نريد جائزة النجاح يا أمي رحلة على شط البحر الأحمر وفي خمائل عروسه حيث: النخيل ترمينا برطبها كل صباح وحيث الجمال الطبيعي الذي لم تتدخل يد الإنسان فيه لتخدشه أو تغير معالمه ألا يستحق هذا الطلب أن يلبى؟! ثم صمتت كأنها تنتظر ما أقول!

 ماذا أقول والغصة في حلقي وعبرة تخنقني كيف أبادر وأحقق أزهار آمالها الحاضرة , وأحلام صغيرتها الشاطرة ورغبات نفسي الشاعرة ؟! يا لقسوة الظروف حين تمنع وتجفو, فما تزال بها بشاشة من بقايا طموح كادت تطمره الأحداث بكلكلها, فأنهضته الآمال الملحة والمقاصد النبيلة والعزة التي ترفض الذل وتكره الاستكانة , كما ترفض الكفر وتكره النفاق , سواء بسواء , نسيت نفسي وخشيت أن تسألني فيمَ أفكر , لكني سرعان ما استجمعت مقالي وغيرت بسرعة البديهة وجوم حيرتي وفرط اعتلالي , فخرجت من مدار شرودي بعد أن لاحت لي فكرة وخطر في بالي حل, يمكن معه تحقيق ما نصبوا إليه ونأمل إذا تم.

ــ بالإمكان تحقيق كل طموحنا _يا جميلتي _. فكوني مطمئنة !! سنبدأ بالتفكير والعمل الجاد للوصول إلى تحسين وضعنا من الغد.

 تعلمين أني وأخي حامد وشقيقاتي وأمي ورثنا عن والدنا رحمه الله قطعة أرض, فيمكن بيعها واستثمار قيمتها في مشروع, خصوصا وقد عرضَ علي صديقي ماجد مشروعا رائعا يدر ربحا لا بأس به , يكون العمل فيه بيني وبينه, , لقد استحسنته وأبديت تحمسي له , لكني لم أعطِ نفسي فرصة وفسحة أفاتح إخواني ببيع القطعة من أجله.

أمَّا الآن فقد قويتْ الفكرة وشُحذتْ الهمة واستبان الطريق, وعزمتُ على المضي , وهذا بفضل الله ثم بفضل حديثك الرقراق العذب الذي يذيب الصخور ويحرك الشعور.

من الغد إن شاء الله سأتحدث معهم وأحاول إقناعهم بشأنها فإذا قبلوا بعناها وبنصيبي سأشتري سيارة ولو متواضعة , ومقابل عملي في المشروع سيتحسن دخلي ودخل إخواني فأعيينني بالدعاء فإني أخشى ألا يقبلوا فهم كما تعلمين يعدونها رأس مالهم الذي يعولون عليه تحقيق آمالهم وبوابة طموحاتهم.

ارتسمت أسارير الفرح على جبينها وانثالت بسمة الرضا من بين شفتيها كما ينثال الغيث عند ابتسام الأفق الذي خلخل البرق غيماته حال تلبُّده به.

ثم استدارت وأخذتْ قبلة من فمها بأطراف بنانها و ألقت بها إلي فتلقفتها مداعبا كأنما هي حبة لؤلؤ يجب التقاطها , ثم رددت بمثلها.

 وحان موعد الخلود إلى النوم فأوينا إلى المنزل والسعادة تغمرنا والحنين للغد يحث خطانا مستعجلا كما يستعجل خطى عقارب الساعة للوقت المتبقي كي يأتي الغد لننظر ما يصنع الله لنا فيه.

ما غبتَ عني أنتَ في أحداقي  وأراك في ليلي وفي إشراقي

ما غبت يا قمري ونورك ساطع   يمتد في روحي وفي آفاقي

ما أنت إلا الشمس مبسمُ ضوئها يفتر في قربي وعند فراقي

وبريق ألوان الجمال حلاوة  تسري بأوردتي كحلو مذاق

ما غبت يوما والفؤاد مولعٌ   بهواك دون معارفي ورفاقي

لو غبت كيف أراك بين خواطري  وعلى عيون الحبر والأوراق

إن كنت تذكرني وأنت بنشوةٍ   فأنا على ذكرٍ بغير رواقِ

أو كنت تأنس بي إذا لاقيتني   فأنا بأنسك دون أي تلاقي

ولأن ذكرت إذا نسيتَ فإنني   من غير نسيانٍ بذكرك باقي

أعرفت قدرك والقلوب عيونها   تتجاوز الأزمان بالأشواقِ

.....................................

[1] قالت كاملة بدرانة رئيسة لجنة النثر في ملتقى الواحة : لنّزهة حاجة آنيّة للنّفس والجسد كي يجدّدا حيويّتهما، وسرعان ما ينسى تأثيرها عند الدّخول في غمرة الحياة وتعبها... في المقابل الأرض هي النّزهة الأبديّة للإنسان بمفهومها المطلق ... الأرض هي استمرار البقاء قصّة رائعة بسردها ولغتها وبطرقها لموضوع من أخطر المواضيع ... التّهاون والتّفريط بالأرض للخروج من أيّ ضيق يمكن حلّه بطرق أخرى... وللأسف نسمع عن هذا الكثير

وقالت ربيحة الرفاعي : حبكة محكمة وسردية جميلة حكت مشهدا إنسانيا رائعا تسامت فيه المعاني وأتلقت المشاعر فبدا بواقعيته حالما وبمعقوليته محلقا و... بعيدا عن علاقتها بالنص وأثرها فيه فقد جاءت المقطوعة الشعرية في خاتمته عذبة بهية