آخر الاخبار

الدكتوراة للباحث إبراهيم اليمني من كلية الحقوق جامعة بني سويف مع مرتبة الشرف على غرار اقتحامات واتهامات نظام الأسد.. مليشيات الحوثيين تقتحم عمارة سكنية بمحافظة إب بقوة الحديد والنار وتروع سكانها اللواء سلطان العرادة يدعو الحكومة البريطانية الى تفعيل دورها الاستراتيجي في الملف اليمني وحشد المجتمع الدولي للتصدي للدور التخريبي لإيراني .. تفاصيل الاتحاد الدولي للصحفيين يناقش مع صحفيين يمنيين وسبُل محاسبة المتورطين في الانتهاكات التي تطالهم عاجل العميل الإيراني رقم إثنين .. الهدف القادم الذي ينوي الغرب والعرب استهدافه واقتلاعه.. ثلاث خيارات عسكرية ضاربة تنتظرهم ما يجهله اليمنيون والعرب ..لماذا لا يجب ترك شاحن الهاتف موصولاً بالمقبس الكهربائي بشكل دائم؟ من هو الأفضل في 2024 بحسب الأرقام؟ كريستيانو رونالدو أم ليونيل ميسي.. عاجل تحسن هائل في سعر الليرة السورية مقابل الدولار .. اسعار الصرف شاحن هاتف ينهي ويوجع حياة 7 أفراد من نفس العائلة في السعودية توافق دولي عربي على الوضع في سوريا

رؤية في المستجدات السياسية
بقلم/ دكتور/د: ياسين سعيد نعمان
نشر منذ: 16 سنة و 6 أشهر و 28 يوماً
الأحد 18 مايو 2008 05:22 ص

 كانت انتخابات 2006 الرئاسية على وجه الخصوص قد مثلت محطة هامة وضعت البلاد على مفترق طريقين: الطريق المفضي إلى تعزيز الخيار الديمقراطي، ويصبح الشعب فيه لاعباً رئيسياً في تقرير مستقبل البلاد باعتبار أن الديمقراطية ستنقل العبء الأكبر إليه فيها يخص شئون الحكم وما يرتبط بها من اختيارات ومسئولية، أو الطريق الذي يكرس الهامش الديمقراطي المسموح به والذي لا يجب أن يتجاوز حاجة "النظام" المغلق إلى الديكور الخارجي لتوليد فضاء ذهني يسمح له "أي لهذا النظام" بتوسيع عقوده مع كل من يرغب في الالتحاق بركبه أو الدوران في فلكه.

ولأن الانتخابات قد كشفت للنظام وسلطته عن أن الهامش المسموح به عن الديمقراطية والذي ظل يوظف لإعادة إنتاج هذه السلطة على نحو دوري لم يعد مقبولاً شعبياً بعد أن تدهورت الأوضا ع السياسية والاقتصادية لدرجة غير مسبوقة، وأنه من غير الممكن أن يواصل الناس رهن خياراتهم لمثل هذا الهامش الضيق، فقد أعطى ذلك مؤشراً جاداً عن أن الديمقراطية قد تجاوزت المسموح وبالتالي لابد من إعادتها إلى وضعها القديم وتقطيع الزوائد عبر عمليات استئصاليه سريعة، بل أن العمليات العشوائية والمذعورة تجاوزت الزوائد إلى الهامش القديم، وراحت تفتش عن وسائل قانونية وغير قانونية لوضع قيود جديدة على الديمقراطية والحريات بهدف ترويضها وفقاً لحاجة النظام.

هذا الذعر الذي عبرت عنه السلطة بالسير في الطريق المفضي إلى الاستبداد دفع قطاعات من التجمع إلى التعبير عن رفضها باستنهاض الفعل الديمقراطي الكامن والذي لم يجرب بعد إلا في حدود ضيقة، وفي المواقع التي تصبح فيها استنهاض هذا الفعل لأسباب وعوامل عديدة، بدأ حراك ديمقراطي من نوع آخر، وكان الحراك السياسي في الجنوب قد توفرت له عوامل وشروط الظهور والبدء على نحو مكنته من أن يتصدر الحراك السياسي والجماهيري على صعيد البلاد من حيث المبادرة وقوة الحشد وتماسك الروابط الداخلية وانتظامه في سياق متصل بظروف المعاناة الذاتية لمتسببه، وما شهده هذا الجزء من الوطن من ظروف حرب 1994 جعلت المشهد السياسي والاجتماعي فيه يبدو وكأنه غرفة عمليات طوارئ حتى استطاع الحراك أن يعيد بناء المشهد على النحو الذي جعله أكثر تعبيراً من الناحية السياسية والمعرفية عن حاجة الجنوب إلى احتشاد سياسي "وليس عصبوي" يمكنه من إعادة الاعتبار لمكانته في المعادلة الوطنية كطرف أساسي في الوحدة، وهي المكانة التي خربها إحلال القوة محل الديمقراطية والسلام.

جرى التعبير عن هذا الاحتشاد وأهدافه "بالقضية الجنوبية"، وهو مصطلح لا يحمل دلالات انفصالية، كما يحاول البعض أن يفسر ذلك، ولكنه يضع الجنوب في إطاره السياسي التاريخي كطرف في الوحدة اليمنية، طرف وليس ملحق، والسؤال: هل الحراك السياسي هو الذي خلق "القضية الجنوبية" أم أنها هي التي تسببت في الحراك ودفعت به إلى السطح.

الحقيقة أن هناك علاقة جدلية بين الفطرة كأساس موضوعي وتعبيراتها التي تجلت في صورة ذلك الحراك السياسي الذي دفع بالفكرة إلى الصدارة.

فالحراك السياسي لم يخلق القضية على نحو إرادي، وبدون أساس موضوعي، أي أنها لم تكن مجرد رغبة في اصطناع "عنوان" تعبوي مشاغب يضمر مشروعاً إنفصالياً – كما يقول البعض، فمسارات الحراك وما صاحبه من حوارات فكرية وأسئلة ذات بعد سياسي وطني عميق قد كشفت الغطاء عن حقيقة الوضع السياسي القائم ووضعته تحت المجهر في صورة الأزمة البنيوية التي تمر بها البلاد، وهو ما يجعلنا نتبع الأساس الموضوعي لهذا الحراك في سياقاته التاريخية، أي أن هناك قضية وراء هذا الحراك ملازمة له اتجه بها نحو بلورة صيغة وطنية في غمار تفاعل جماهيري استلهم المكون الموضوعي لها في مضمونها السياسي والثقافي عبر المراحل الثلاث التي مرت بها، وهي:

المرحلة الأولى: وهي التي تمتد من الخمسينات والستينات من القرن الماضي حيث كان الجنوب مقسماً إلى 23 سلطنة ومشيخة وإمارة ومستعمرة، قبل أن تنجح ثورة 14 أكتوبر بقيادة الجبهة القومية في تحرير الجنوب وتوحيده في دولة واحدة.

ويرى البعض أن "القضية الجنوبية" تبدأ من هنا من التشكيك في شرعية هذه الخطوة التي تعسفت الوضع السياسي – التاريخي للجنوب- كما يقول أنصار هذا الرأي، وأكسبته صفة مختلفة لحقيقته، وحولته من جنوب عربي إلى جنوب يمني مستندة إلى الفكرة القومية الأيديولوجية يومذاك.

والأساس في ذلك هو الشرعية الثورية حيث لم يستفت شعب الجنوب على ذلك كما يقولون، الأمر الذي يترتب عليه من وجهة نظرهم بطلان كل ما أحدثته الدولة بعد ذلك من تغييرات جوهرية في وضع الجنوب سواء في صورة الوحدة التي فرضت على إماراته ومشيخاته وسلطناته "مكوناته السياسية"، أو وحدته فيما بعد مع الشمال.

هذا التفسير "للقضية الجنوبية" الذي يعود بها إلى هذا التاريخ المبكر ليس مقطوع الصلة بمشروع سياسي كان حاضراً بقوة يومذاك، لكن ليس بالضرورة أن يكون أصحاب هذا الرأي اليوم هم أنفسهم أصحاب المشروع القديم، هؤلاء يحاولون اليوم الاستقواء بقراءات تاريخية إضافة إلى واقع التجزئة الطويل الذي كان قائماً في ظل السيطرة الاستعمارية، وجميعها هزمت في الصراع السياسي التاريخي للجنوب.

أثناء الصراع بين النظامين قبل الوحدة قام النظام في صنعاء بمختلة سياسية فيها الكثير من النزق بهدف حشد أصحاب "هذه القضية" ضد النظام في الجنوب، وجرى الاحتفاظ بجيوب منها ثم توظيفها بعد الوحدة لمواجهة الحزب الاشتراكي.

المرحلة الثانية: وتبدأ مع قيام الوحدة بين الدولتين: جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية في 22 مايو 1990، وهناك من يرى أن "القضية الجنوبية" تبدأ من هنا من هذا التاريخ بسبب أن الوحدة المعلنة جرى سلقها على عجل دون مراعاة الشروط الموضوعية لنجاحها واستمرارها، ويتحدث هؤلاء عن اهتمام قيادتي الدولتين فقط باقتسام السلطة والوظائف دون رؤية إستراتيجية لبناء دولة الشراكة الوطنية بقواعد دستورية وقانونية واضحة، ويقول هؤلاء أن قيادة دولة الجنوب لم تستفت شعب الجنوب في الوحدة، بل رتبتها من وراء ظهره، وهذا المنطق في الحقيقة لم يظهر سوى مؤخراً في محاولة لبلورة مزيد من معطيات "القضية" التي ينسبونها إلى مرحلة الوحدة.

والملفت للانتباه أنه مع كل مرة تبرز هذه القضية على نحو معاكس لطابعها الوطني تتحول إلى محور إئتلافي لكل القوى اليمنية التي كان لها حسابات خصومة مع نظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بما في ذلك قيادة الجمهورية العربية التي استمرت بعد الوحدة تقدم الذرائع من حيث ندري ولا تدري لبلورة هذه القضية بهذا المفهوم نكاية بالحزب الاشتراكي الدولة التي توحدت معها.

فبعد الوحدة مباشرة كرست القيادة في الشمال وأجهزتها حملة واسعة تصب في نفس المجرى الذي يذهب إلى القول أن الوحدة سلقت سلقاً وأن شعب الجنوب لم يستفت عليها.. إلخ، وذلك عندما ظلت تردد على نحو واسع أن قيادة الحزب الاشتراكي هربت إلى الوحدة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وكان الهدف هو كسر مكانة "الشريك" الآخر في الوحدة وإظهاره بأنه لم يأت إلى الوحدة إلا مجبراً، وهذا يضع فارقاً عمليا بين إرادة قيادة هاربة من مصيرها إلى "الملاذ الأمن" وإرادة شعب لا تمثله هذه القيادة ولم تأخذ رأيه "وفقاً لحملة قيادة الشمال التي لا زالت حتى اليوم" لإنشغالها بنفسها، وهو ما يسوغ الأراء التي يطرحها البعض اليوم والتي تقول أن الوحدة التي وقعتها هذه القيادة لا تعنينا في شيء، كانت الحملة ولا زالت سبباً في إرباح ركن أساسي من أركان الوحدة وهو ركن الإرادة أي إرادة التوقيع الممولة بالحق الدستوري والقانوني وغيرها من الشروط في تمثيل مصالح شعب الجنوب في دولة الوحدة الجديدة. لقد عمدت هذه الحملة إلى إظهار القيادة التي وقعت الوحدة مع قيادة الجمهورية العربية اليمنية وكأنها تعسفت شعب الجنوب باقحامه في وحدة غير مدروسة مجهولة النهايات، مع العلم أنها لا يوجد أي برهان سياسي أو اقتصادي أو معنوي من أي نوع كان على أن الشمال يومذاك كان بمثابة ملاذ أمن لأي قيادة أو دولة هاربة أو أن الهروب إليه مغرياً لأن الأوضاع الاقتصادية هناك كانت أسوأ بما لا يقاس مع الأوضاع في الجنوب لدرجة أن ضمانات البنوك التجارية كانت تعاد من الخارج بسبب الوضع المالي الحرج، ناهيك عن الأوضاع السياسية المضطربة التي دفعت بالنظام إلى الهرب إلى اتحاد التعاون العربي الذي ضم مصر والعراق والأردن.

هذا الأسلوب الذي تعاملت به قيادة صنعاء مع ا لقادمين من عدن فتح ثغرة هامة في جدار الوحدة منذ اليوم الأول الذي انطلقت فيه تلك الحملة، تدفقت منها أسئلة كثيرة حول شرعية هذه الوحدة، فإذا كانت صنعاء لا ترى في الطرف الآخر "الشريك" إلا هارباً يجب التعامل معها كلاجئ، فكيف سيتم ترتيب أوضاع دولة الوحدة وشراكتها في وضع كهذا!! أي أن هذا "اللاجئ" عليه أن يقبل ما يعرض عليه فقط، ولا يجوز له أن يفكر أبعد من ذلك.

وبسبب هذه القاعدة التي تمسكت بها قيادة صنعاء كإطار عام بعلاقتها بالشريك القادم من الجنوب تعثر برنامج بناء دولة الشراكة الوطنية واصطدمت بعقبات حقيقية جعلت الفترة الانتقالية تمر دون القيام بأي خطوات جادة لتنفيذ اتفاق الوحدة الخاصة باستكمال أسس بناء الدولة الوطنية الوحدوية، وعوضاً عن ذلك تم العمل باتجاهين لتصفية دولة الجنوب وأجهزتها ومؤسساتها، وتكريس مؤسسات وأجهزة دولة الشمال كأساس للدولة الجديدة.

كانت هذه العملية هي أبرز تجليات الصيغة الالحاقية التي انقلبت على الوحدة ودولة الشراكة الوطنية، والتي مهدت لها كما قلنا، تلك الحملة التي أطلقتها قيادة صنعاء ضد شريك الوحدة، ناهيك عما أطلقته من إشاعات وحملات من أن تلك القيادة استلمت ثمن الوحدة،كل ذلك بهدف تمرير مخطط الضغط الرامي إلى التخلي عن بناء دولة الشراكة الوطنية لشطري البلاد والتي كان التمسك ببنائها يعني فيما يعنيه إعادة هيكلة النظام السياسي على أسس مختلفة، وهو ما لم تسمح به قيادة صنعاء التي مكنتها عوامل كثيرة من أن تغدو القوة المطلقة المسيطرة على مركز القرار.

كان هذا المحرك الحقيقي للأزمة السياسية، رافق ذلك البدء بعملية الاغتيالات والتفجيرات ضد قيادات وكوادر دولة الجنوب والحزب الاشتراكي والتي أودت بحياة الكثيرين وخلقت الهلع والخوف وسط حملات التكفير والتعبئة والتحريض بالقتل، في حين تولت الصحف الرسمية مهمة تغطية مثل هذه الأعمال وتبريرها والدفاع عنها أحياناً، لقد ولدت هذه الأعمال إحباطاً عاماً واتسعت معها بل وتعددت الثغرات على جدار الوحدة.

وفي هذه الأجواء طرحت وبقوة فكرة دمج الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي، وكان واضحاً أن فكرة الدمج هي المحاولة الأخيرة لقتل مشروع بناء دولة الشراكة الوطنية الديمقراطية التي تجسد المضمون الحقيقي للوحدة، غير أن هذه الفكرة رفضت من قبل الحزب الاشتراكي، وهو ما يؤكد أن الأزمة التي نشأت بين طرفي الوحدة كانت تدور حول فكرتين:

إما 1- شراكة سلطتين. أو 2- شراكة دولتين.
 

لقد كان رفض الحزب الاشتراكي لعملية الدمج منسجماً مع رأيه وموقفه من رفضه لفكرة شراكة السلطتين على حساب الشراكة الحقيقية التي كان يصر أن يكون الجنوب فيها ممثلاً وشريكاً كاملاً في دولة الوحدة، ورفض بالتالي الشراكة نيابة عن الجنوب، ولو أنه قبل ذلك النوع من الشراكة أي شراكة السلطتين لجاز اتهامه بالتخلي عن الجنوب كما يردد البعض اليوم، ولكنه تمسك بحق شراكة الجنوب في دولة الوحدة ولا زال حتى اليوم يتمسك بذلك.

إن هذا الموقف للحزب يرد على من يقيمون الوحدة بأنها مجرد اقتسام للمناصب أو أنه هروب إلى الوحدة، لقد كانت الوحدة بالنسبة للحزب مشروعاً وطنياً كما هي اليوم، سواء وهو في السلطة أو اليوم وهو في الشارع ولن تكون غير ذلك.

لقد ظل الحزب الاشتراكي في وضعه المحاصر بعد الوحدة يصر على قيام دولة الشراكة الوطنية الديمقراطية، غير أن مقومات هذا المشروع كان يجري تقويضها وإضعافها بتوظيف العوامل التالية:

1- إن الإرادة السياسية لقيادة صنعاء اتجهت نحو إضعاف وكسر إرادة الشركة باستخدام كل الوسائل بما في ذلك ضغوط التفجيرات والاغتيالات وحملات التكفير وغير ذلك من حملات التشويه والوسائل التي أتاحتها ظروف ما بعد الوحدة، ساعدها في ذلك احتفاظها بموقعها وأجهزتها ومؤسساتها كاملة في السلطة والتي شكلت مصدر قوتها ورجحان كفتها في التعامل الشريك.

2- تراجع الإحساس بالوحدة كمشروع استراتيجي للوطن وإعادة "صياغتها" في الوعي من خلال وقائع الحياة على أنه مجرد مشروع للإلحاق وهو ما عبرت عنه قيادة صنعاء في تلك الفترة في أكثر من مناسبة.

3- لم يشرع للشراكة الوطنية على النحو الذي يجعل التمثيل في هيئات ومؤسسات الدولة المختلفة معبراً عنه بمعايير أخرى غير معيار السكان الذي أخذ به قانون الانتخابات والذي كان يجب أن يكون موقع إتفاق إرادتين سياسيتين.

لقد نشأ عن هذا الوضع أنه بينما مثل الجنوب في السلطة التأسيسية لدولة الوحدة بشكل عبر عن دولة مقابل دولة، فإنه بسبب هذا الوضع المستجد أخذ تمثيل الجنوب يتقلص في هيئات ومؤسسات السلطة على نحو بدا وكأنه يختزل بصورة أصغر من مكانته كشريك أو كطرفٍ ثانٍ في الوحدة.

أدى هذا التراجع المفاجئ في التمثيل في مؤسسات "دولة الوحدة" إلى طرح سؤال حول مستقبل الشراكة التي تمسك بها سكان الجنوب لتأمين حقوقهم السياسية والاقتصادية والحقوقية المطلبية.

المشكلات التي أسفرت عنها تطبيقات السنوات الانتقالية (1990-1993) يراها البعض سبباً في بلورة "القضية" على هذا النحو والحقيقة أن الجانب الأكبر من هذه المشكلات لم تكن موضوعية بقدر ما كانت إرادوية، أي أنها صنعت صنعاً بصورة معاكسة لمضامين الوحدة واتجهت بالبلاد نحو أزمة حادة تداعت فيها القوى السياسية إلى بحث الأزمة والتوصل إلى ما عرف بوثيقة العهد والاتفاق.

ما حدث بعد ذلك معروف، ولا مجال لبحثه هنا، فقط نريد أن نستخلص من هذه المرحلة نتيجة هامة وهي أن فرقاء الحياة السياسية الذين تصدوا لبحث الأزمة واعترفوا بها وسلموا بأن حلها حماية للوحدة يكن في تطبيق وثيقة العهد والاتفاق، والسؤال هو لماذا تخلت عنها السلطة المنتصرة في الحرب "حرب 1994".

الواضح أنها لم تكن في الأساس تعترف بوجود أزمة حقيقية ناشئة عن المشكلات التي أفرزتها الفترة الانتقالية أو كشفت عنها كمشاكل موضوعية، ونظرت إلى المسألة من زاوية مختلفة وهي أنه بمجرد إخراج الحزب الاشتراكي من تحالف الحكم بالحرب فلن تبقى هناك مشكلة أو أزمة.
 

لم تستطع أن تفرق بين ما اعتبرته مشكلة الحزب الاشتراكي من ناحية ومن ناحية ثانية بين المشكلة الحقيقية المرتبطة بشراكة الطرف الآخر في الوحدة الذي هو الجنوب الشريك الفعلي الذي قاده الاشتراكي إلى الوحدة ورفض أن يكون شريكاً نيابة عنه.

ولهذا السبب رحلت المشكلة إلى ما بعد الحرب، ناهيك عما أنتجته الحرب من مشكلات أخرى أعمق وأشد تأثيراً أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأزمة ليست مفتعلة، وأن جذرها يكمن في عدم القدرة على استيعاب حاجة الوحدة إلى دولة وطنية ديمقراطية تحقق شراكة فعلية لدولتيها السابقتين سكاناً وأرضاً ليس فيها غبن أو إجحاف أو إستعلاء أو مناورة.

والحقيقة أن هذه المرحلة مهدت بقوة لظهور "القضية الجنوبية" حيث أدت الحرب ونتائجها والسياسات التي أعقبتها إلى تكريسها كقضية حقيقية ذات بعدين: حقوقي مطلبي، وحقوقي سياسي.

المرحلة الثالثة: وهي ما بعد حرب 1994، كشفت الحرب وما أعقبها من سياسات وممارسات لسلطة المؤتمر الشعبي عن أن المشاكل التي واجهتها الوحدة إلى ما قبل الحر أنها كانت بفعل ممنهج مدروس، رتب الوصول بالحياة السياسية إلى نقطة تصبح فيها إقصاء وشطب الطرف الآخر بالحرب تبدد وكأنه مخرجاً من الأزمة، بينما الحقيقة هي أن ذلك الطريق لم يكن مخرجاً من الأزمة بل طريق التكريس مضمون مختلف للوحدة وهو ما عمق الأزمة على نحو أشد وأخطر مما كانت عليه.

الحرب كان هدفها الانقلاب على الوحدة السلمية والديمقراطية واستحقاقاتها التي رأي شريك الوحدة في صنعاء أنها ستفرض معايير مختلفة للحكم تتعارض مع ما رتب لها من الاستئثار بالحكم لمواصلة السير بنفس المنهج الذي سار عليه قبل الوحدة.

ولذلك كان أول ما أقدمت عليه السلطة بعد الحرب هو شطب المواد الدستورية والقانونية التي عبرت في الأساس عن طبيعة نظام الحكم في دولة الوحدة واستبدلت بمواد أعادته إلى ما قبل الوحدة ويمكننا بهذا الصدد ملاحظة ما يلي:

1- قامت الوحدة سلمياً وعلى قاعدة الديمقراطية، والتراجع عن الديمقراطية هدم ركناً أساسياً من أركانها وتركها مكشوفة على ما سترتبه خيارات القوة من نتائج.

2- الجنوب الذي جرت الحرب على أرضه أفرعت منه شحنات الوحدة السلمية الديمقراطية وتم استزراع وحدة الدم والقوة وبث قيمها بدلاً عن ذلك ولم يرافق ذلك أي مشروع سياسي وطني لبناء دولة الشراكة والمواطنة المتساوية التي تطمئن الناس وتبرهن على أن الحرب كانت ضرورة لحماية الوحدة كما يقال، العكس هو الصحيح ما مورس بعد الحرب أكد أنها كانت ضرورية لأهداف مختلفة تماماً وفي مقدمتها التخلص من التزامات الوحدة الحقيقية الموقع عليها وفي مقدمتها بناء دولة الشراكة الوطنية الديمقراطية، وهذا يؤكده ما وصلنا إليه اليوم من طريق مسدود فيما يخص هذا الهدف الذي تعطل ولا زال يتعطل بفعل التراجع عن الديمقراطية والالتفاف عليها كما يعبر عنه حالنا اليوم.

3- تعاملت السلطة ما بعد الحرب وحتى اليوم مع الجنوب كجهة وليس كطرف في الوحدة، وأبقت الحالة الانقسامية في الوعي الوطني قائمة، فالأسلوب الذي أتبعته مع الجنوب اقتصر على إبقائه حاضراً من خلال تعيين جنوبيين في مواقع مختلفة بصورة كيفية كرست حضوره الشكلي ذو الطابع الانقسامي ولكنه غائب في الشراكة، وهذه الحالة ظلت تنتج فجوة خطيرة في الوعي إزاء وضع الجنوب في دولة الوحدة المنتظرة.
 

فالسلطة من ناحية عملت على الزج بالجنوب في أشلاء الصورة الممزقة للوحدة السلمية وذلك بتكريس جهوية الجنوب في الكيانية العامة لدولة غائبة من خلال التمثيل في السلطة بواسطة عناصر يتم اختيارها بعناية وعلى قاعدة سياسية منتقاة وذلك على النحو الذي يبقيه حاضراً في الصورة فقط دون شراكة حقيقية، وهوا ما زال يمارس حتى اليوم.

4- تم في سياق تمثيل الجنوب على هذا النحو الكيفي والشكلي وتشكيل توليفة من مخلفات الصراعات السياسية السابقة في الجنوب، هذا التمثيل الشكلي والكيفي مشتق في الأساس من جذر الولاء السياسي للجهة التي أصدرت قرار التعيين وبالتالي لا يمكن أن يكون معبراً إلا عن حاجة المركز الذي اختاره لهذه المهمة ولا يستطيع أن يكون غير ذلك، وهو التمثيل الذي يعيدنا إلى صيغة شراكة السلطة التي كان قد رفضها الحزب الاشتراكي برفضه فكرة الدمج والتي نتج عنها تلك الأزمة التي لم تنته بالحرب ولكنها أخذت تتبلور في صنع أكثر تعقيد، من مظاهرها أن تم استبدال شراكة الجنوب بشراكة نخب سياسية واجتماعية مختارة بعناية من قبل القيادة السابقة للجمهورية العربية اليمنية فقد قدم الدليل على أن الأزمة التي سبقت حرب 1994م هي رفض إقامة نظام شراكة حقيقي يكون فيه الجنوب كدولة سابقة حاضرا في بنية الدولة الوحدوية والعمل عوضاً عن ذلك على استبدالها بشراكة أفراد مختارين بعناية وبناءا على معايير خاصة أهمها الخصومة والعداء لنظام الحكم السابق في الجنوب والحزب الاشتراكي حالياً.

والحقيقة أن "الشمال" نفسه لم يكن شريكا أو يتمتع بالشراكة على النحو الذي يجري الحديث فيه عن شراكة الجنوب المخطوفة، فشراكته هي أيضا قد خطفتها نخب سياسية وعسكرية وقبلية والفرق هو أن نظام الجمهورية العربية اليمنية حافظ على كيانيته ورفض التنازل عن جزء فيها لدولة الوحدة وانتصر بها في حرب 1994م، وبدا كما لو أن هو دولة الوحدة التي اكتفت بالتوسع في الأرض وما عدا ذلك جرى التعامل معه على أنه حاجة زائدة يمكن أن يختار منها ما يضفي على السلطة طابعا وحدويا دون حاجة إلى العودة في البحث في جذر الأزمة.

لذلك جرى تسريح معظم الجهاز الإداري ـ المدني والعسكري ـ لدولة الجنوب والتعامل معهم كحاجة فائضة.

إن الإجراءات التعسفية التي اتخذت أدت إلى انتكاسة مفجعة في الوعي الوحدوي في مجتمع كانت الوحدة رأسماله الحقيقي ولم تميز السلطة بين المنتسبين للحزب الاشتراكي وبين سكان الجنوب الملتحقين بالوظيفة العامة في الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، فلو أن هدفها كان إنزال العقاب بأعضاء الإشتراكي المنضويين في دولة الجنوب لما كانت في حاجة إلى أن تعاقب كل منتسبي الدولة وهم أضعاف أضعاف أعضاء الحزب، فبينما كان عدد أعضاء الحزب هناك ليلة الوحدة وبعد ذلك لا يتجاوزوا 25 ألف (مدني وعسكري) كان عدد الذين سرحوا وحرموا من وظائفهم وخصخصت مصانعهم ومؤسساتهم في أسوأ عملية تصفية ما لا يقل عن 180 ألف ناهيك عمن استبيحت مزارعهم وممتلكاتهم، وجد هؤلاء أنفسهم مهددين في عيشهم بلا وظائف ولا مستقبل،

5 - انتظر سكان الجنوب دولة الوحدة حتى يبلعوا مأساة الحرب، لكن الدولة الجديدة المنتظرة لم تكن سوى عقوبات وتصفيات وتسريح من العمل، ونهب أراضي وممتلكات وفساد وخطاب دوري يذكرهم بالهزيمة وفي سياق متصل مع هذا الوضع جرى إنعاش الحروب القديمة بين اليمنيين ومرارتها وقضايا الصراع والثارات، ووظفت حروب الشمال ضد الجنوب في أمريكا وبريطانيا وغيرها أسوأ توظيف وبلغة متعالية وغبية من قبل بعض مثقفي السلطة بما أوحى أن حرب 1994م لم تكن سوى حرب الشمال على الجنوب.
 

6- تمت المتاجرة بأراضي المصانع والمؤسسات العامة التي خصصت في أسوأ عملية فساد وجرى تفكيك مصانع حديثة لم يمض على إنشائها أكثر من سنة قبل الوحدة ونهبت وكان ذلك بعد الحرب بسنوات مما يعكس مضمون السياسة العمياء التي لم تر الجنوب غير أرض وجغرافيا بلا سكان وبلا تاريخ، لقد كان ذلك من الأخطاء القاتلة والمقيتة والمتطرفة التي دفعت بالمشكلة إلى مسارات مختلفة وإحياء ذاكرة الناس بحقيقة أن الوحدة التي حلموا بها قد انقلبت عليهم وأقامت حاجزا بين أحلامهم والواقع الذي رمتهم فيه.

7- توجهت السلطة نحو المكاسب الاجتماعية التي غطت الآلاف من الناس في صورة مساكن وتعاونيات ومزارع دولة، وأخذت تتعامل معهم وكأنهم الوجه الأخر للشريك ـ الخصم: يجب أن تزال وبخفة متناهية بها من الحماقة ما جعلها تتجاهل أن المستفيدين منها هم الناس ومثلما تم تسريح الآلاف من أعمالهم ظلت السلطة تهددهم بالطرد من مساكنهم دون سياسة واضحة للكيفية التي ستعالج بها أوضاعها فيما بعد، كما تم تصفية العشرات من التعاونيات الناجحة، وأطلقت أيدي العابثين بتصفية خصوماتهم مع معظم هذه المكاسب الاجتماعية وكان أسوأ مظاهر هذه العملية هي العبث بمزارع الدولة التي تم استصلاحها وتعميرها وحفر الآبار فيها وتزويدها بوسائل الإنتاج الحديثة وزراعها بالأشجار المثمرة المعمرة... ويقدر حجم المساحات المستصلحة في هذه المزارع من قبل الدولة أضعاف أضعاف المساحات التي خصصت لقانون الإصلاح الزراعي ومع ذلك سلمت كلها للملاك السابقين الذين أعادوا اقتسامها مع المسئولين والمتنفذين في إجراء عملية فساد تمارس في نهب ملكية الشعب.

8 - جرى إحياء الثأرات بما في تلك التي أخمدت لآجال طويلة بما في ذلك ثارات الصراعات السياسية وشعر الناس أن الوحدة عادت إليهم بما كانوا قد عدوه من الماضي السحيق كما تم قمع الثقافة السياسية في الجنوب التي كانت قد أخذت تتشكل بمحتوى قيم الدولة الحديثة والمواطنة واحترام حقوق المرأة وبدا أن هناك توجه بتعميم ثقافة تمهد الطريق للقبول بالمضمون الإلحاقي للوحدة الذي لا نقصد به إلحاق الجنوب بالشمال، كما يصرح البعض بخفة وإنما إلحاق مشروع متقدم للوحدة بمشروع لا يرى الوحدة سوى ارض وثروة وهو في الأساس مشروع تفكيكي كما كان شأنه دائما في التاريخ اليمني.

9- في ظل هذه السياسة الخرقاء كانت الأمور تتعقد في الجنوب... ولم تكن هذه السياسة معزولة عن السياسة العامة لإدارة البلاد كانت مشتقة من سياسة تجزئ البلاد إلى مربعات بمعايير تتنافر موضوعيا مع مقومات الدولة الوطنية وتكرس هذه المربعات ومعاييرها لمقاومة الدعوة لبناء دولة الشراكة الوطنية، فبإدارتها أسهل والتعامل معها مريح. فالحرب التي تدور في صعدها سببها ان هناك من يدعو لعودة الملكية والتململ في الجنوب سببه القوى الانفصالية والشكوى من الظلم في تهامة وغيرها طائفي والأنين من غياب الدولة ومظاهر العنف والتطرف في بقية أنحاء البلاد عائد إلى التعبئة الخاطئة للقوى الظلامية وهكذا... هذه السلطة ليست مسئولة عن شيء مما يدور في البلاد تبني سياساتها بالاعتماد على اتهام الآخر، هي تنشئ المشكلة ثم تبحث عن خصوم توزعها عليهم.

في الجنوب أنتجت المشكلة بسياساتها الخاطئة، ولم يعد احد ينافسها هناك في إدارتها وعبثها وفسادها، لكنها مع ذلك لا ترى المشكلة إلا بأنها زعزعة للاستقرار وإضرار بالوحدة من قبل خصومها السياسيين، والحزب الاشتراكي الانفصالي على وجه الخصوص.

في تلك الفترة المبكرة نبه الحزب الاشتراكي إلى خطورة الوضع الناشئ عن السياسات الخاطئة للمؤتمر الشعبي العام وسلطته وفي ظروف التصفية التي كان يتعرض لها على الرغم من ذلك تقدم بمبادرة وطنية استندت في الأساس على أهمية إعادة بناء الوحدة في الوعي بقيمتها الأصلية وركز في هذه المبادرة التي بلغت تسع مبادرات على: تصفية آثار الحرب، إصلاح مسار الوحدة ـ المصالحة الوطنية، وقدم رؤاه التفصيلية لكل من هذه المكونات الثلاث، غير أن السلطة الحاكمة ظلت تتجاهل هذه المبادرات والدعوات بل وتتهم أصحابها بالخيانة وكأن الوطنية هي أن يسكت الناس عما يمارس من عبث وأخطاء عدا أن قمة الوطنية هي الإنخراط في هذا العبث. لقد أغراها على الاستمرار في هذه السياسة هو اعتقادها بأن الصمت الذي ظل مخيما على الشارع هناك إنما هو تعبير عن رضى بما يحدث غير أن هذا الصمت الذي تخللته احتجاجات شعبية في بعض المحافظات كالضالع وحضرموت ولكنها قمعت كان يخفي تململاً اجتماعيا واسعا لم تتوفر له شروط التحول إلى الفعل السياسي الاحتجاجي. كانت حقوق الناس المنهوبة مع ما رافق ذلك من فساد وعبث تحاول أن تعبر عن نفسها داخل مساحات التململ الاجتماعي الذي راح ينفتح على أسئلة تتعلق بمستقبلهم في ظل هذه "الوحدة" التي أخذت سلطتها تقصيهم وتهمشهم يوما عن يوم وتكتفي بتمثيل رمزي كيفي يكون أكثر بروزاً في الصورة التلفزيونية عنه في الواقع.

ولم يأخذ هذا التململ تجلياته التي برزت مؤخرا إلا بعد انتخابات 2006م وبعد أن ظهرت مؤشرات التراجع على الهامش الديمقراطي على نحو لم يترك أي أمل عند الناس من أن الديمقراطية التي راهنوا عليها قد تعرضت هي الأخرى للاختطاف وانه ما لم يجر بث الحياة في هذه الديمقراطية بحراك سياسي وجماهيري فإن الحياة السياسية مقبلة على الدخول في إحباط عام خاصة وقد قلب المؤتمر ظهر المجن للحوار مع المعارضة الذي كان قد بدأ منذ ربيع 2007م.

10- اخذ الحراك السياسي ينتج ميكانيزماته (آلياته) بالاستناد إلى الدوافع المختلفة (السياسية والاجتماعية والحقوقية المطلبية) والتي أخذت تنفتح على بعضها في صيغة النضال السلمي الديمقراطي على أن المحاولة في بلورة هوية خاصة بهذا النضال خارج المعاير السياسية الوطنية أدت إلى تجاذبات طرحت بطبيعتها أسئلة عديدة، شكلت الإجابة عليها إطاراً ثقافياً أتسع لكل الأفكار، وهذا ما أكسب الحراك طابعة الديناميكي.

وغاب عن الساحة المشروع السياسي للمؤتمر وظهر متخفيا وراء كرباج السلطة، وكان المشترك هو الحاضر الفاعل المساند للفعاليات السياسية والجماهيرية وخاصة جمعيات المتقاعدين العسكريين التي لعبت الدور الأبرز في الحراك السياسي وغيرها من الفعاليات الأخرى وذلك عبر منظماته الحزبية والسياسية في المحافظات الجنوبية وكان البعض يسأل: لماذا لا يقود المشترك هذا الحراك والبعض يرى أنه تخلف عنه.
 

والحقيقة أن النضال السلمي الديمقراطي للقاء المشترك شكل سياجا للحراك السياسي الجماهير حيث حرص أن يشارك فيه وان لا يكون وصياً عليه وأكد على أهمية الدفع بمثل هذه التفاعلات الاجتماعية والسياسية وتوسيع مساحتها أي مساحة تحالفاتها، ومن الممكن أن تنتج قياداتها الميدانية التي سترفد الحياة السياسية بدماء جديدة ويمكننا اليوم وبالوقائع إثبات وجاهه هذه النظرة.

11- جرى تفاعل سياسي جماهيري واسع على صعيد اليمن كلها مع الحراك في الجنوب وإن لم يمكن بالشكل المطلوب وأخذ هذا التفاعل يعمل باتجاه إنضاج موقف وطني عام بشأن بناء الدولة الوطنية الديمقراطية على أساس تلبي حاجة الشراكة الوطنية وتخرج الوحدة من المأزق الذي وضعتها فيه سلطة القوة والعنف.

وكان من الضروري لهذا التفاعل الوطني ان ينتج آلياته وأدواته وشروط تحقيق هذا الهدف ، لقد برزت ملامح هذا التقدم الذي ساد الحراك السياسي في صيغ سياسته أخذ بعدها الوطني شكل الإطار الأوسع للمنخرطين في الحراك السياسي لكن السلطة سارعت إلى تعطيله بإقتحام مساراته باستخدام القوة والاعتقالات والمواجهات المسلحة ويجيء تدخل السلطة في الوقت كان الحراك يُستكمل إعادة بناء خياراته الوطنية على الرغم مما كان يزدحم فيه من رؤى وتباينات.

وكانت "القضية الجنوبية" قد أخذت تتبلور في سياقها الوطني الذي تمسكت به معظم فعاليات وقوى الحراك السياسي، وأعتبرها "المشترك" البوابة نحو حل الأزمة الوطنية والإصلاح الشامل".

لقد نُظر إليها باعتبارها قضية سياسية تتصل اتصالا وثيقاً مباشراً ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية "دولة الشراكة" التي تأخذ بالاعتبار الخصوصيات التي انتجتها في السياق التاريخي تمايزات الحاكم والثقافة والسمات الاجتماعية والسيكولوجية والمساوئ الخطيرة للحكم المركزي، وهي تمايزت يصعب تجاوزها بقرارات مركزية تعسفية، ذلك أن الأساس الموضوعي لها سيفرض حضوره رغما عن الإرادوية في صورة اضطرابات وصعوبات حقيقية، هذا إضافة إلى ما ارتبط بها من حقوق ومطالب مشروعة تتعلق بتصفية آثار حرب 1994م وتحقيق مصالحة وطنية شاملة.

وبدلا من أن يفتح المؤتمر وسلطته أبواباً لحوارات وطنية أوسع وأشمل وأصدق وينفتحا معه على الهم الوطني في صورة الأزمة الوطنية التي انتهجتها وسياستها وممارستها في الواقع، عمد إلى إغلاق الأبواب بحسابات قوى المصالح الضيقة التي أفرزتها خارطة الفقر التي كشفها الحراك السياسي والتململ الاجتماعي على طول البلاد وعرضها.

وفي حين أغلقت أبواب الحوار فتحت أبواب الحروب والعنف، فقد تواصلت الحرب في صعدة في أشرس صورها منذ خمس سنوات واستمر العنف والقمع يدك الصيغة الوطنية لقضية الجنوب بالاعتقالات والمطاردات وقمع النضال السلمي والاعتصامات السلمية وتكوين مزاج مقاوم خارج شروط النضال السلمي، والذهاب إلى انتخابات اسمية وشكلية للمحافظين كإجراء يستهدف في الأساس فكرة الحكم المحلي كامل الصلاحيات في أساسها.

إن الهدف من إغلاق الأبواب بمثل هذه الصورة هو اختيار طريق المعالجة المفضي إلى تقليص فرص الحل بالاستناد إلى الخيار الديمقراطي والاستعانة بالأدوات القديمة الرابضة في مخابئها بدلا عن تلك الأدوات التي بدأت في بلورتها الحاجة الموضوعية لبناء وطن يتسع للجميع وتتعايش فيه كل الأطياف السياسية والاجتماعية والثقافية على قاعدة المساواة والمصالح المشتركة.
 

أن تقليص فرص الحل بالاستناد إلى الخيار الديمقراطي يضع البلاد على طريق مختلف تماما عما قدره وارتضاه أبناءه في لحظة من اللحظات الاختيار الواعية التي لا تتكرر إلا نادراً.

والوضع اليوم هو يتجه نحو أزمة وطنية عميقة ولا تعرف كيف تسمح هذه السلطة لنفسها أن تختزل المسألة في جزئية مثل اللجنة العليا وتعرضها على أنها هي المشكلة إن هذا التبسيط يخفي وراء عجزا خطيرا في قراءة الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتدهورة في البلاد وهو ما يجعل الأجندا التي تتحرك بواسطتها السلطة الحاكمة تشير إلى احتمالات كلها تغرق البلاد في مزيد من العنف والتطرف.

وانه لخطأ جسيم أن تفشل القوى السياسية الديمقراطية والنخب الاقتصادية والاجتماعية المتحفزة للتغيير في أن تشكل ضغطاً للخروج من هذا المأزق، وتحول دون تمكين القوى المعطلة للنهوض من مواصلة أنتاج آليات وشروط التراجع عن الخيار الديمقراطي وتعطيل الحل الوطني لقضية الجنوب وصعدة.

إن الصفقات التي بدت تاريخية بحسب المعطي الذي فرضها كثيرا ما أجهضت لأن اختلال موازين القوى أفرغها من قوتها وحولها إلى عمليات لا تاريخية تدور على هامش الحاجة الفعلية للمجتمع وبصورة معاكسة لمساراته ولم يستفد من هذه الصفقات سوى القوى التي جمعت بها خيوط اللعبة من موقعها في السلطة والذي مكنها من إفشال إنتاج الآليات والشروط المحفزة للتطور والنهوض العام ومن موقعها هذا وبصورة منسجمة من طبيعتها أخذت تنتج وتشجع الآليات المعاكسة التي استنزفت خيرات البلاد والجهد الوطني في تكريس نظام مصالح القلة المغلق على نفسه، والذي لم يعد قادرا على السير بالديمقراطية إلى المستوى الذي تصبح بعد الديمقراطية خطرا عليه.

هذا هو نموذج الديمقراطية المسموح بها وهو يشبه ويجسد في جوهرا كل العمليات الموضوعية التي يجب أن تكون في نطاق المسموح به مثل الوحدة المسموح بها، التنمية المسموح بها، الحريات المسموح بها... الخ.

نموذج الديمقراطية المسموح به هذا لم يعد قادرا على توفير شروط استمراره إلا بالقوة او على نحو انفرادي فالمعارضة ممثلة باللقاء المشترك لم تعد قادرة على أن تكون اللاعب المقابل في لعبة التسوية التي قبلتها من سابق لصالح رعاية الخيار الديمقراطي لذلك فإن جدول أعمال الحوار الذي خاضته مع المؤتمر الشعبي تضمن قضايا جوهرية تصب لصالح بناء دولة الشراكة الوطنية الديمقراطية القادرة على معالجة الاختلالات الجوهرية، ففي البنيان السياسي ومغادرة مأزق التخلف بآلياته التي تجذرت في بنى سياسية واجتماعية واقتصادية مغلقة على قوى تتجه نحو الهيمنة على كل شي.

لكن المؤتمر وسلطته ضاقا بالحوار وهو يبحث في هذه القضايا الجوهرية ويتجه نحو جذر المشكلة وما يتعلق بها من ممهدات أساسية لتحقيق هذا الهدف توقف الحوار، واتجه قطبا العملية السياسية الموضوعية في اتجاهين متنافرين، ففي حين اتجه الشارع ومعه القوى الاجتماعية والسياسية الدافعة نحو التغيير إلى النضال السلمي الديمقراطي والشكف عن أزمة بنيوية خطيرة تهدد البلاد بمظاهرها وتجلياتها التي تتأكد كل يوم والبحث من ثم عن مخرج من هذا الوضع، اتجهت السلطة نحو التعتيم على هذه الأزمة بإفتعال حروب ومواجهات وممارسة القمع ضد النضال السلمي.

وعندما عبر "المشترك" عن رأيه في طبيعة الأزمة الوطنية التي تمر بها البلاد ودعا إلى جعلها الموضوع الأول في حوار سياسي وطني شامل، لم يجد المؤتمر ما يدفع به هذا التوجه سوى إصراره على مواصلة السير في الطريق الخطأ رافضا الاعتراف بالأزمة التي تتصاعد مظاهرها في أوضاع الجنوب المحتقنة وحروب صعدة والاحتقانات الاجتماعية التي يولدها الفقر وتزيد رقعتها واتساع الفجوة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع وتزايد الفوارق الاجتماعية الناشئة عن الخلل العميق في توزيع الثورة، وتنامي تأثير القيم التي تعكس أنماط الاقتصاد السائد وتراجع العمل كقيمة اجتماعية لصالح غيره من الأنشطة الطفيلية المولدة للدخل، وكذا غياب التنمية المتوازنة وتراجع معدلات الاستثمار والبطالة وشحة المياه والفساد المستشري والمركزية الحادة وإدارة أجهزة الدولة والمؤسسات بعناصر الولاء السياسي والاجتماعي والمحسوبين مع غياب الكفاءة العلمية إلا فيما ندر إلى غير ذلك من ظواهر تدني معدلات التنمية الاجتماعية وضعف وتدني مستوى التعليم والصحة وتخلي الدولة عن وظيفتها الاجتماعية في ظل ظروف الفقر المتزايد وغلاء الأسعار وتدني الأجور وثباتها عند مستويات أقل من المعدلات القياسية للأسعار والأرقام المعيشية وارتفاع معدلات ما دون خط الفقر من السكان على نحو مخيف إضافة إلى ما ولدته هذه الظروف من قيم دخيلة ومن ظواهر العنف التي انتشرت على نحو يهدد السلم الاجتماعي.

*امين عام الحزب الاشتراكي اليمني

محاضرة بمركز الدراسات الإستراتيجية