الدغشي : الحوار مع خصوم الأمس
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 16 سنة و 3 أشهر و 9 أيام
الأربعاء 10 سبتمبر-أيلول 2008 02:49 م

حاوره ماجد الجرافي

*ما هو توصيفكم للجماعات الإسلامية المتواجدة على الساحة في اليمن؟

** الساحة اليمنية تتوزعها جملة جماعات رئيسة، أهمها الجماعة الإسلامية الفاعلة والمسيطرة على الساحة إلى حد كبير وهي الإصلاح، ويمكن وصفها بأنها الجماعة الحركية التن ظيمية السياسية الأكبر، وهناك جماعات سلفية ذات فصائل عدة تحوي جماعات علمية بعضها تقليدي وبعضها جديد أو تجديدي وجماعات مسلحة، وهناك جماعات تربوية تقليدية كجماعة الدعوة والتبليغ، وثمة حزب ناشئ في الساحة اليمنية ظهر مؤخراً يسمى حزب التحرير.

وأتصور أن هذه الجماعات هي الأساس، وإذا أردنا أن نوسع الدائرة فيمكن أن نتحدث عن الجماعات الصوفية، وعن جماعات متفرعة عن كل هذه الجماعات.

ولا شك بأن جماعة الحوثي دخلت إلى الساحة مؤخرا، لا أقول أنها جديدة،غير أنها لم تبرز تنظيماً معلناً متماسكاً إلا في الآونة الأخيرة تحت لافتة(الشباب المؤمن)، و يمكن وصفها بالجماعة المذهبية(صراحة)، وجذور فكرها يمكن أن تتوزعه جماعات مذهبية اتخذت مسار الحزب السياسي كحزب الحق واتحاد القوى الشعبية،وما عرف فترة محدودة ثم تلاشى من الساحة والمسمى بـ( حزب التوحيد والعمل الإسلامي)، والحوثيون محسوبون على هذه الأطراف، أو أن هذه الأطراف تتهم بأنها الأقرب إليهم.

السلفيون و(القاعدة)

*ذكرت بأن الجماعات المسلحة ضمن الجماعات السلفية، هل ترى بأن المراكز السلفية في اليمن ما زالت محاضن لتفريخ "الإرهابيين"؟

** لا أعتقد ذلك، الجماعات المسلحة لها محاضنها الخاصة، ومراكزها وأطرها المميزة، ولكن لا شك أن للتعبئة الخاطئة غير المقصودة غالباً دوراً لا يستهان به في صناعة أفراد من هؤلاء، بل بوسعنا القول إن جماعة القاعدة (الأم) صنعتها التعبئة الخاطئة في بعض البلدان الإسلامية، حيث يكثر الحديث عن الشرك وعن التكفير وتكفير من لم يكفّر الكافر،كما وردت في نواقض الإيمان للشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- وعن المفهوم غير المحرّر للولاء والبراء ، بل إصدار أحكاهما اعتباطاً غالباً..

وهذه الأمور من شأنها أن تصنع " عنفاً، أو ما يسمونه "الإرهاب" -وأسميه "عنفاً" لعدم تحرير مصطلح"الإرهاب" دولياً حتى يومنا هذا-، والفكر في الأساس،يتحوّل –بعد ذلك- إلى سلوك مدمّر كما في فكر القاعدة المتمثلة في قتل الأبرياء وغير المحاربين، أو إيجابي بناء كما في سلوك كل حركات التحرير والتجديد والإصلاح أياً شابها القصور، أو اكتنفها الخلل، لكن أعتقد أن هناك مراكز (علمية) تحتضن هؤلاء، وإن كنت لا أعني الجماعات السلفية أو غيرها، وإنما قصدت الإشارة إلى أن أية عتبئة تتم عبر مثل هذه المراكز أو الأطر الخاصة بمثل المفردات السابقة من شأنها أن تصنع فكر العنف وأيدلوجيته حتى وإن لم يقصد أصحابها بلوغ ذلك، وما حدث في بعض دول الجوار لهو أكبر شاهد على ما أقول.

*تعني بأن الفكر السلفي ما زال متهماً بإنتاج "الإرهابيين"؟

 ** قلت إن الجماعات السلفية (التقليدية) أو (التجديدية) أو (الجديدة) التي نتعامل معها في مجتمعاتنا لا تعلن عن تبنيها للعنف في اليمن تحديداً، بل تنفي ذلك، ولكن العنف ليس دعوة رسمية ولا علنية، وإنما هو تنشئة تربوية، وهو أحياناً يصنع في الأسرة، وأحياناً رُبّ معلم في مدرسة أو معهد أو مركز يؤمن بالعنف ويصنع جماعات للعنف، عبر ما يسميه التربوين بـ(المنهج الخفي) أي غير المكتوب أو الرسمي المعلن، والعنف أطره كثيرة، وقد لا يكون مقصوداً بالضرورة بالبندقية ومآلاته لا تستطيع السيطرة عليها.

وكما قلت لك جماعة القاعدة صنعتها في الأساس تعبئة خاطئة من بعض المؤسسات الدينية في بعض البلدان الإسلامية، واليمن ليس إلا امتداداً لما يجري في السعودية أو في مصر.

*العمليات "الإرهابية" الأخيرة لـ"القاعدة" حملت طابعاً انتقامياً، هل الأيديولوجيا ما زالت هي العامل الأساسي في منهجية هذه الجماعات؟

** أولاً أنا لا أستطيع أن أجزم بأن هناك تنظيما اسمه القاعدة أو قاعدة الجهاد في اليمن، وهذه أمور استخباراتية أمنية بحتة، لكن ما أستطيع أن أقوله – بوصفي متابعاً للمشهد الفكري والتربوي للجماعات الإسلامية- إن هناك عملاً مسلحاً وإن هناك عنفاً، هذا العنف ليس بالضرورة أن يكون صادراً عن تنظيم القاعدة أو عن غيره .وأؤكد بأن تنظيم القاعدة لم يعد له وجود في أكثر من بلد كتنظيم، لكن كإيمان بالفكرة وبفعل القاعدة، وأظن أنه موجود في نفوس الكثيرين ممن يشعرون بالقهر والظلم من جراء سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، ليس في نفوس بعض المتدينين فحسب، بل حتى في نفوس آخرين ذوي توجهات يسارية وقومية ووطنية بل حتى في نفوس فنانين وفنانات ومطربين ومطربات،بل وأفراد يساريين غير مسلمين كاعتزاز كارلوس- مثلاً- بابن لادن، حسب بعض تصريحاته من سجنه، بمعنى أن هناك كراهية متزايدة لسياسات الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم فالانتقام والتدمير والرغبة في كسر كبرياء أميركا ومن يدور في فلكها قاسم مشترك بين كثير من فرقاء الفكر والسياسة .

*ماذا عن الجماعات التي تعلن عن نفسها؟

** الآن في عالم المعلوماتية لا تستطيع أن تضبط شيئاً، أؤكد لك أن القاعدة في بعض الأحيان تعلن مسؤوليتها عن أحداث لم تفعلها، فقط لكي تثبت أنها ما تزال حية وفاعلة وموجودة وقادرة على أن تتحرك في أي اتجاه، رغم كل مايقال عن القضاء عليها.

وأذكر ذات مرة أن خلافاً شخصياً حدث في باب اليمن، وأعلن أبو حمزة المصري من لندن أنه المسؤول عن الحادث على خلفية جماعة أبين، واتضح بعد التحقيقات أنه شجار شخصي لا علاقة له بأبي حمزة ولا بالقاعدة، فالقاعدة كتنظيم لا شك أنها موجودة بشكل من الأشكال في بلد ما في عالم ما في مكان ما، لكن أن كل ما يجري هو صحيح، أنا لا أظن ذلك دقيقاً في كل حال، لأن أميركا تزعم بأنها قضت على القاعدة أحياناً وأحياناً تقول العكس لكي تستمر في سياستها في نهب العراق والسيطرة على القوقاز ، وكي تظل مهيمنة على قرارات كثير من الدول المسماة بالنامية، فالقاعدة تستغل أي حدث لتعلن عن نفسها بأنها موجودة بصرف النظر عن صلة حقيقية لها بالحدث.

*ولكن انتقام التنظيم لأعضائه ودفاعه عن المسجونين منهم دليل على وجود التنظيم؟

** صراحة لاثقة كبيرة بالبيانات التي تصدر على المواقع الإلكترونية تحديداً، لأن بإمكان أية جهة أن تسربها.. وبتعبير دقيق، لست قادراً على أن أجزم بأن هذه البيانات التي تظهر بين الحين والآخر صحيحة النسب إلى هذه التنظيمات، لأنها تثبت فقط أن القاعدة لازالت قادرة على التحرك ، أما من حيث مردودها السلبي عليها ففي غاية السوء والسلبية، ولا تنظر إلى الموضوع من زاوية واحدة .

*بما أنك ترى بأن تنظيم القاعدة موجود كفكر فقط، ما هو الأسلوب الأفضل في التعامل معه؟

** أعتقد بأن الحوار هو الحل، وإن كنت أتحفظ على صيغة الحوار الذي يجري، وقد قلت للقاضي الفاضل حمود الهتار ذات مرة - بوصفه رئيس لجنة الحوار هذه- في حوار متلفز بأني أعتقد أن الحوار تنقصه بعض المواصفات لكي ينجح، سواء من حيث المكان الذي يتم فيه الحوار، أو من حيث الأشخاص الذين يحاورون، فبعض هؤلاء الذين يحاورون لا ثقة لهؤلاء الشباب بهم لأنهم يحسبون على السلطة.

أما فكرة الحوار فهي فكرة حضارية وممتازة من حيث المبدأ، وأنا ضد بعض المثقفين المتطرفين في بعض بلدان الجوار أو في سواها حين يدعون إلى الحل الأمني ، فالحل الأمني قد يضاعف من المشكلة وقد أثبت فشله في مصر وهي (أم البلايا)-على هذا الصعيد- بقدر ماهي (أم المحاسن)على أصعدة أخرى كثيرة-، وأثبت الحوار فاعليته عندما قاد الشيخ الغزالي -رحمه الله- والشيخ القرضاوي- حفظه الله- الحوار في أواخر الثمانينات مع شباب الجماعة الإسلامية أو شباب الجهاد..

القاعدة والحوار

*يبدو بأن الحوار نجح مع الجيل الأول من القاعدة، ولكن يقال إن هناك الآن جيلاً جديداً متهوراً، هل السلطة ملزمة بالحوار مع كل جيل جديد يظهر؟

** سؤالك يذكرني بدراسة نشرتها ضمن كتاب صدر مؤخراً وعنوان الدراسة "قراءة في ظاهرة العنف.. الدوافع وتصورات الحلول"، أشرت فيها إلى دوافع العنف وأنها كثيرة، وأعتقد بأنه لا بد من النظر في تلك الدوافع لظهور العنف، قد يكون بعضها اقتصادياً وقد يكون بعضها اجتماعياً وقد يكون بعضها تربوياً.

*إذن الحوار ليس إلا جزءاً من الحل؟

** أعتقد بأن الحل يكمن بدرجة أساسية في الحوار، ولكن ليس كل الحل حواراً، ثمة فقر وأزمات اقتصادية واجتماعية وتربوية وأخلاقية، وثمة استفزاز أحياناً في مسلك السلطة وبعض الأعمال التي يقوم بها متنفّذون، فتستفز مشاعر هؤلاء الشباب بوصفهم متدينين.. ولا بد أن ينظر إلى الموضوع من كل جوانبه.

ثم إن هناك دافعاً خارجياً ، كالسياسات الأميركية التي تجري في المنطقة وتدفع للعنف، فسياسات أميركا سواء في العراق أو حتى في اليمن هي سياسات تدفع إلى الانتقام والحقد ولا تدفع إلى التآخي وإلى نسيان الجراح.

الولايات المتحدة إن أرادت أن تقضي على العنف فباستطاعتها، لكن سياساتها الحالية تؤكد بأنها حريصة على أن تبقى جماعات العنف كي تجد لها مبرراً لاستمرار السيطرة.

*لكن حالياً يبدو الحل الأمني هو الأسهل؟

** الحل الأمني قد يكون آخر الدواء، كما يقال آخر الدواء الكي، ولكن بضوابط وبقيود وليس مطلقاً.. والحل الأمني باعتقادي هو أحد الأسباب التي تفاقم المشكلة ولا تحلها، لأن العنف قد يكون انتقاماً جراء ما يحدث لبعض الأشخاص في هذا السجن أو ذاك، وبالتالي الحل الأمني هو حل العاجزين، وأؤكد لك بأن بعض الدول التي اتخذت هذا المنحى ندمت كثيراً. وأتذكر ذات مرة أني تابعت حوارا على قناة العربية، كان أحد المتحدثين فيه صحفياً سعودياً معروفاً يشدّد بأن الحل الأمني هو الأنسب وإلا سنضطر غداً لنفاوض تجار المخدرات، فيما كان المتحدث الآخر اللواء فؤاد علام الخببر الأمني ونائب رئيس مباحث أمن الدولة سابقاً في مصر الذي قال له ، لقد ثبت لنا في مصر بأن الحل الأمني فاشل وأنه لم ينفع إلا الحوار.

*كيف تفسر تحول القاعدة في اليمن من استهداف المصالح الأجنبية إلى استهداف المصالح الوطنية؟

** أعتقد أن ما صرّحت به كوندليزا رايس عن (الفوضى الخلَّاقة) هي التي تصنع مثل هذه المسالك التي لا تستطيع أن تجد لها تفسيراً منطقياً، إذا افترضنا أن كل هؤلاء الشباب ينتمون فعلاً إلى القاعدة، في ظل وجود قيادات لهم صارت على وفاق مع النظام السياسي بسبب انتهاج اليمن لسياسة الحوار، وبعض المحفزات الأخرى لهؤلاء الشباب كي يتكيفوا ويقلعوا -ولو مؤقتاً- عن سياسة العنف.

الحوثيون والإيدلوجيا المعتقة

*ماذا عن جماعة الحوثي؟

** هذا الأمر بحاجة إلى بحث، كيف ظهرت هذه الجماعة، ثمة إيديولوجيا لا شك بأنها نمت منذ سنين، وأظهرت هذا الصنف من الشباب الذي تعجب لأمره عندما يستميت في سبيل عقيدة (صماء) (رعناء)، أو أيديولوجيا (عمياء)، وهناك أسباب ربما تبدو مفهومة ولكنها في ظني عززت التوجه الأصلي، وهي سياسة السلطة، عندما شجعت هؤلاء ودعمتهم يوماً ما، واعتبرتهم أحسن مرشّح لمنازلة السلفية و الإصلاح.

*هل ترى بأن سياسة الدولة تؤدي إلى ظهور جماعات عنف جديدة؟

** أعتقد أن سياسة السلطة بحاجة إلى مراجعة، لأن فيها من الحماقات -بدعوى الذكاء والفطنة وسياسة(الاحتواء المزدوج)- ما يستدعي فعلاً أن تعيد النظر في سياستها في تفريخ الجماعات وضرب هذا بذاك.. والسلطة لابد أن تشعر الجميع بأنها دولة الجميع وأنها مسؤولة عن أمن الجميع وليست معنية باحتواء هذا الطرف بذاك، فإذا اختلفت معه عادت إلى الطرف الآخر.

عندما تستقوي الدولة بطرف ضد آخر فإنها عندما تنتهي سيقوم الطرف الآخر بالانتقام وهكذا دواليك. الدولة يجب أن تحتوي الجميع بمفهوم المواطنة والمؤسسة والدولة، وليس بمفهوم (جيب) هنا لضرب (جيب) أو جماعة أو طرف هناك.

*ما زال حضور التيار السلفي في اليمن منحصراً في المستوى الدعوي، وغائباً في المستوى السياسي، بعكس دول أخرى أصبح فيها التيار السلفي حاضراً في السياسة واقتحم ميادين الحزبية والمشاركة الديمقراطية، كيف تفسرون تأخر الجماعات السلفية في اليمن في هذا الجانب؟

** أعتقد أن الجماعة السلفية في اليمن هي جزء من الحراك الذي يجري في المنطقة، ومن ثم فالمسألة مسألة وقت ليس إلا، ولا تستغرب حين تسمع في الانتخابات النيابية القادمة بأن ثمة مرشحين سلفيين وبالتحديد من فصيل جمعية الحكمة، نظراً لعلاقاتهم أو لتأثرهم بما يجري في الكويت، في إطار التعاون الذي يجري بينهم وبين بعض الجمعيات والجماعات التي دخلت المعترك الانتخابي علانية وباسمها(السلفي).

أقول لك ما يمسي هناك قد يصبح هنا، وسيكون لبعض فصائلهم حضور في الانتخابات القادمة، ومعلوماتي في هذا الجانب من المصادر الأصلية.

*المشاركة الديمقراطية لفصيل جمعية الحكمة ربما يؤدي إلى تكفيره من الفصائل الأخرى، ومعنى هذا أن هذه المشاركة لن تكون تطوراً في الفكر السلفي بقدر ما هي انقسام جديد لهذا الفكر؟

** أتحفظ فقط على مفردة التكفير، فليس بالضرورة يصل الأمر إلى هذا الحد ، ولكن صحيح من الوارد جدّا أن تتهم – إذا ما تم ذلك – بشتى أنواع التهم، وهذا يؤكّد – مرة أخرى – عاقبة التنشئة الخاطئة!

*إلى ماذا تعزون إخفاق الحركة الإسلامية في تحقيق أية مكاسب سياسية بعكس الدول الأخرى؟

** الحركة الإسلامية في اليمن حققت مكاسب مقدرة قبل أن تشترك في الحكومة، وما قبل الوحدة كان لها منجزات، وتعتبر المعاهد العلمية منجزاً من منجزاتها، ولها دور عظيم في إشاعة التدين المعتدل، وأعدّ أكبر منجز لها هو الحفاظ على هوية الجيل عبر الحفاظ على أصالة مناهج التربية والتعليم التي ما تزال محصنة إلى الآن بجهود الإسلاميين.. هذا قبل الائتلاف، أما بعد الائتلاف فمنجزاتها هامشية وفردية وغير ذات بُعد استراتيجي – من وجهة نظري-.

*إلى ماذا تعزو هذا الإخفاق؟

** أعزوه إلى ضعف الاهتمام بالتنشئة التربوية المتكاملة وضعف التوازن، يعني نجد سياسة الحركة صدى لكثير مما يجري داخلياً وخارجياً، أي أنها غالباً منفعلة لا فاعلة .

الإصلاح.. رؤية من الداخل

*هل ترى بأن الإصلاح ما زال سائراً على نهج المؤسس لحركة الإخوان المسلمين؟

** الإمام حسن البنا- رحمه الله- مصلح فذّ نادر، لكنه ليس نبياً مرسلاً، فثمة اجتهادات قد تخالف بيئة حسن البنا زماناً ومكاناً وشخصاً، إنما هذه الاجتهادات بظني لم تقم على دراسة أو وعي كامل وإدراك حصيف بمسارها ومآلاتها ونتائجها.

ولا شك في أن انتساب الإصلاح لجماعة الإخوان حقيقة موضوعية لا يستطيع أن يشكك فيها أحد ، لكن لا أعتقد أن الإصلاح لايزال يسير في الخط المنهجي بالمعنى الواعي المدرك الذي يقوم على دراسة وعلى وعي، أقصد أن الإصلاح ينتسب كما تنتسب أية جماعة أو حزب إلى تاريخه ، لكن هل استطاعت جماعة الإخوان المسلمين أن توجد لنفسها كياناً بيئياً يمنياً قائماً على دراسة وعلى إدراك كامل، أظن أن في الأمر إشكالاً كبيرا.

*ما هي المآخذ التي تأخذها على التجمع اليمني للإصلاح في هذا الجانب؟

** أؤكد أن الإصلاح هو أعقل وأفضل إطار موجود، لأنه يتفاعل مع القضايا بشكل أفضل، ولكن المأخذ الجوهري عليه أنه أغرق في السياسية كثيراً، وغدا أكثر تجاهلاً للفكر الأصيل والثقافة الجادة والتربية المتوازنة إلى حد غير قليل، بل أصبح بيئة طاردة لعقول بعض أبنائه (المستنيرين) ممن لايشايعون الإغراق في العمل السياسي كما هو الاتجاه العام، أو تميّزوا بحس فكري نقدي لانسجم مع سياسة التزكية والتبرير السائدة، إلى جانب أن المنزع الحزبي لا يزال مؤثراً إلى حد كبير في التعامل مع الآخر الداخلي- إن صح الوصف- أو وربما تكون هناك مراكز قوى بداخله تدفع إلى وجود شلليات- فضلاً عن الآخر السلفي أو الصوفي أو المذهبي ، لكنه بالمقابل انفتح انفتاحاً لافتاً مقدّراً على بعض فرقاء العمل السياسي(غير الإسلامي) - وهو أمر جيّد من حيث المبدأ- ولكن غير معقول أن يكون بديلاً عن الانفتاح مع من يحملون الخطاب الإسلامي من خارج إطاره على المستوى الفردي أو الجماعي .

*تعني بأنه تحول من جماعة دينية إلى حزب سياسي؟

** مع علمي بأن هناك قيادات في الإصلاح تعلن ذلك وتفاخر به ، ولكن شخصياً لا أستطيع أن أصدر هذا الحكم الشديد القاسي، سوى أنه أغرق في السياسة كثيراً، ولكن ليس من المستبعد أن يتحول يوماً ما -إذا ظلت الجماعة تسير بهذا الاتجاه وبهذه الوتيرة- لا يستبعد أن يتحول إلى حزب سياسي لا يختلف عن غيره إلا بإعلان المرجعية الإسلامية على نمط حزب العدالة والتنمية التركي ، وأنا- بالمناسبة- من أشد أنصار حزب العدالة ولكن في بيئته التركية فحسب.

*كيف تفسر انفتاح الإصلاح على الاشتراكيين والقوميين وانغلاقه على التيار السلفي رغم أن التيار السلفي أقرب إليه من حلفائه الحاليين؟

** أولاً دعني أكرر مباركة هذا التوجّه من حيث المبدأ للقاء في إطار أحزاب "اللقاء المشترك"، لكن سبق أن قلت غير مقبول على الإطلاق أن تلتفت إلى هذه الأطراف -بكل تقدير لها-، وأن تنسى ذاتك، فبعض فصائل السلفية -بكل مآخذنا عليها- هي جزء من الذات أقرب من هؤلاء، صحيح أن بعضهم لا يرغب أصلاً بأن يتواصل مع الإصلاح، بل وبعضهم له تحفظات كثيرة تجعله ينفر من الإصلاح، لكن ليست أطياف السلفية كلها سواء، وبالحوار يمكن أن تزل بعض الأوهام.

حضرت مجلساً فيه بعض قيادات السلفية -وسجلت هذا في دراسة منشورة عن السلفية-، ولم أجد أي اعتراض في الدعوة إلى الوفاق مع الإصلاح، بل إن أحد قيادات السلفية(الحكمة) وهو الشيخ محمد المهدي تحديداً قال أنا قد مددت يدي، وشهد بذلك الصديق الدكتور فؤاد البعداني من قيادة الإصلاح في مدينة (إب)، حيث كان حاضراً الجلسة، وأعلم أن هناك الكثير من الملابسات حدثت وقد تحدث لكن لا أظن الأمر- إذا صدقت نوايا الجميع- أعقد من الحوار مع بعض خصوم الأمس الذي وصلت العلاقة مع بعضهم إلى مستوى حوار البندقية !

ومن هنا أنا أقول بأن الإصلاح بوصفه الأب الكبير يفترض أن يحتضن أطياف العمل الإسلامي قبل غيرها، ليس على حساب غيرها ولكن لا يعقل أن يفرط بهؤلاء وأن يقطع الوصل معهم على هذا النحو .

*ألا ترى بأن بعض قيادات الإصلاح المختلفة مع التيار السلفي في حزبها تحول دون التقارب مع الجماعات السلفية؟

** يتفهم الباحث المتابع مدى الضغط الذي يعاني منه الإصلاح في إطار بعض وجهات النظر المتنافرة بداخله، وأحسب أن رغبة كل محبّ واعٍ لو أن هذه الوجهات أصبحت بمثابة مدارس فكرية داخلية لا ُتستغرب على جماعة (عالمية) بحجم الإخوان، يفترض أن تجيد مهارة التعامل مع بعضها،- ووصف المدارس هذا أطلقه أحد أبرز القادة التاريخيين للإخوان في العالم وهو المفكر الداعية(فتحي يكن) في كتابه( منهجية الإمام حسن البنا ومدارس الإخوان المسلمين)- وفق آداب الخلاف وأخلاق الإسلام في إطار (الأخوة الخاصة)، ولكن ما يشغب على هذا الوصف -بالنسبة إلى اليمن- هو أن هناك وجهة نظر شديدة المحافظة، شديدة الاعتداد برأيها- للأسف الشديد- تستنتج أنها إذا تقدِم رأيها فإنها تصوِّره وحده حكم الإسلام، وأن غيرها لا يفقه الإسلام، في مقابل وجهة أخرى تمثِّل الإطار التنفيذي للإصلاح لا تأبه بوجهة النظر تلك، - ولا تلتفت إلى رأيها بل تعدّ ذلك جزءاً من الوصاية المرفوضة – لكن في جفاء واعتداد ربما أكثر قسوة من الطرف الآخر، ومن هنا تزداد الفجوة اتساعاً من يوم إلى آخر، وجهة النظر المحافظة هي بمثابة الاتجاه السلفي داخل الإصلاح، من حيث ذهنية السلفية التقليدية التي تفرض رأيها أحياناً على الجميع ومن خالفها فقد خالف الكتاب والسنة والحق المبين ، ووجهة النظر الأخرى تشعرك بأن المرجعية الإسلامية إطار فضفاض، لاضابط له ولا قيد، وأن بوسع كل أحد أن يفقه الدين وفق فهم ما، لعالم ما، بصرف النظر عن البحث والتحقيق في الحكم الشرعي، هذا مع التأكيد بأن ثمة علماء بعضهم محقق يقولون بوجهتهم ، ولكن أسلوبهم في التعامل هو المستغرب، سواء مع (سلفية الإصلاح) أم مع السلفية خارجه.

تيارات التجديد

*في الآونة الأخيرة بدأ تيار التجديد في الإصلاح يعلن عن نفسه بقوة، في بعض القضايا إلى درجة حدوث خلافات شديدة بين الإصلاحيين خرجت من الغرف التنظيمية إلى المنابر وصفحات الجرائد.. هل ترون بأن في هذا مؤشر صحي في التجمع اليمني للإصلاح؟

** أعتقد أن هذا دليل على أن ثمة كبتاً ينفس عنه بهذه الأساليب التي يندهش لها من يتابع مجرياتها من خارج التنظيم.

وأظن بأنه لو كانت هناك جلسات حوارية مباشرة وتشاور في الأمر ونقاش موسع خاصة في بعض القرارات الكبيرة التي يفاجأ بها أحياناً بعض القيادات، أعتقد أنه لو كانت هناك شورى حقيقية ملزمة ولو كان هناك حوار داخلي فعال وعمل مؤسسي جاد لما حصل مثل هذا التنفيس عبر الصحافة أو عبر المنابر أو عبر بعض الأطر المتاحة.

*بغض النظر عن التنفيس، وجود التيارات بحد ذاته هل هو مؤشر صحي؟

** أنا لا أستطيع أن أسميها تيارات أولاً، دعنا نسمها وجهات نظر لم تتبلور حتى الآن، يعني ثمة شباب قرأ هنا أو هناك، ويؤسفني أن أقول إن قراءات بعضهم ليست معمقة وإنما هي ردود أفعال، أكثر منها دراسة جادة واعية، فتأثرت ببعض تلك الآراء وغدت وجهة نظر يجدر أن تناقش لو كان الوضع صحيّاً وطبيعياً في الإطار الداخلي - وهو ليس كذلك الآن- قبل أن تخرج إلى العلن، ولكن خروجها إلى العلن في إطار الفكر الحرّ – وليس الجيوب الجديدة- لا إشكال فيه.

*ولكن هؤلاء الشباب قوبلوا بنوع من العزلة التنظيمية؟!

** هذا يؤكد بأن المؤسسية جد ضعيفة في العمل، ولذلك لما لمس هؤلاء الشباب تهميشاً أو ضيقاً نتيجة أفكارهم الجديدة فإنه قد يتطرف أكثر، وقد يؤسس لـ(جيب) داخلي ، ولا تعدّ ظاهرة صحية إلا عندما يكون هناك شفافية ومؤسسية، لكن عندما تجد وصاية أحياناً وفرضاً وقدرة على النفوذ غير مفهومة، أحياناً أخرى، ومن ثم يحصل احتقان وتختلق جيوب وتتضخم هذه الجيوب فتحدث مشكلات لا حصر لها. أعتقد أن المؤسسية التي كثيراً ما نرفع شعارها تحتاج إلى مراجعة وإلى تقويم قبل فوات الأوان.

*ألا تعتبر هؤلاء الشباب مؤشراً على تحول جديد في فكر الحركة الإسلامية إلى طور أكثر انفتاحاً وتعاطياً مع العصر واستيعاباً للآخر؟

** كانت تلك أمنيتي لو كانت الأماني تجدي، ولكن لعل أكثر ما يعبّر عن هذا التحدّي الجديد ما عبّر عنه أحد الأصدقاء الصحفيين من الإصلاح مرة ، حين قال "نحن في الإصلاح نعاني من وجهتي نظر، إحداهما تتبنى طالبان وأخرى تتبنى فالتان" ولعل هذا يلخص المشكلة.

*التيار المنفتح تعتبره تيار فالتان؟

** تضطرني لأن أقول : لن يزايد عليّ أحد في الانفتاح، ولا أنتظر شهادة من أحد بذلك، بل أزعم أن مشكلتي مع بعض هذه الجماعات والأحزاب هي منزع الانفتاح والحس النقدي الذي تبلور لدي منذ زمن في إطار تربيتي الخاصة، ولكن لا أحسب بأن التطرف في الانفتاح حل، بل هو رد فعل- كأي ردّ فعل لايخلو أحياناً من تطرّف ومجازفة- بسبب فكر مغلق أو ممارسات خاطئة تدفعه إلى ذلك. وبالنسبة لي- أستغفر الله- أدعي أن انفتاحي قائم على دراسة، وهؤلاء الشباب أقرب إلى نفسي من عدّة زوايا، ولكن " صديقك من صَدَقَك لا من صَدَّقك". 

*ألن يكون هؤلاء الشباب بذرة لانشقاق فكري أو تنظيمي في الإصلاح؟

** آمل وأرجو ألا يكون ذلك، ولكن إذا ظل التجاهل لهم، وإذا عُوملوا بقسوة وعنف، وإذا عدُّوا متمردين، وإذا لم ، يُستوعبوا ولم تتفهم مطالبهم؛ خاصة أن بعض هؤلاء الشباب ذوو نزعات فكرية جامحة، لا يجدون من يشبع نهمهم فيلجأون إلى القراءات الخاطفة من هنا وهناك، إذا ظل ذلك مستمرّاً؛ ، فما الذي يحول دون وقوع ذلك، وسنن الله لاتحابي أحداً. ولو أن الإصلاح عمل على منهج تربوي قائم على التكامل والتوازن والاعتدال، حقيقة على الأرض لاشعاراً يطلق في الهواء، في المناسبات المختلفة، وعمل على إعادة الاعتبار للفكر الأصيل وللثقافة الجادة، وأولى أهمية خاصة لهذا الجانب لما صار هذا الهاجس بهذه الحدّة .

*اعتبارك بأنهم ذووا ثقافة سطحية أليس فيه نوعٌ من الغبن لهم؟!

** أنا لا أتهمهم جميعاً، بعضهم مثقف ومدرك وواع، وأجد نفسي مع بعضهم أكثر من غيرهم، لكن أنا أتهم الظاهرة، أما بعض هؤلاء وبالذات بعض الأساتذة والزملاء الكرام فأعدّ بعضهم مفكّرين لايستهان بهم، ولو أن الإصلاح – مرة أخرى- مكّن لهؤلاء في مبدان الفكر والتربية والثقافة، لكان للإصلاح شأن آخر، ولصار قبلة كثيرين ممن يؤيدون كثيراً من أدبياته النظرياته، ولكنهم يتحفظون على كثير من ممارساته العملية بالقدر نفسه، إذاً أنا أتحدث عن الظاهرة ليس أكثر.

التقريب بين السنة والشيعة

*لكم آراء في التقريب بين السنة والشيعة، هل ترون بأن هذا التقريب له ضرورات في بلادنا؟

** لدي دراسة في هذا وقد صارت رسالة مطبوعة، وخلاصة ما فيها حتمية الحوار بين السنة والشيعة على المستوى العام، وفق منهجية محدّدة، إنما جواباً على سؤالك الآن صارت الشيعة أمراً واقعاً ولا أحد ينازع في هذا.

قد نقول بأن الشيعة في بلادنا زيدية، والزيدية كما يصفها بعضهم (شيعة السنة، وسنة الشيع.) لكن بعد ظاهرة الحوثية والاحتراب العسكري الذي تم والمساجلات التي تحصل على مستويات مختلفة لا أظن أن من الحكمة أن نظل نقول لا توجد عندنا شيعة.. ولا أن نضخّم أمرها على نحو استعدائي مقيت. الشيعة موجودة، وغاية ما في الأمر أن نحاور هؤلاء الشباب الفكر بالفكر، لنعيدهم إلى المذهب المعتدل، وهو المذهب الزيدي، أو لانتقاء الحرّ.

أنا من دعاة الوحدة الإسلامية وليس بيني وبين الإثنى عشرية كفكر مشكلة،بل أتعامل معه وفق تعامل أئمتنا وعلمائنا أئمة الحديث: البخاري ومسلم وأحمد وسواهم، أولئك الذين رووا عنهم ، واكتفوا منهم بالعدالة والضبط، بوصفهم مسلمين موحِّدين، رغم الخلاف الفكري المعروف معهم، لكن أعدّ تسلّل فكر الإثني عشرية في اليمن فتنة وليست مصلحة دينية أو وطنية على الإطلاق.. ولكن لابد من التنويه على أن الحوثية – حسبما يبدو من أدبياتها- ليست اثنا عشرية بالمطلق، ولكن لا شك أن هناك تأثراً واضحاً بالفكر الإثنى عشري الجعفري.

*والجارودي؟

** ربما وقد يكون هذا الأقرب، والجارودية هي أقرب فكر إلى الإثنى عشرية تاريخياً، هذا إذا صح التوصيف بأنها قامت على أساس الجارودية تنشئة مقصودة موجّهة، وليس على أساس التأثّر السياسي كما يتهمهم خصومهم. وفي كل الأحوال أنا أعتقد أن الفكر الإثنى عشري في بلد كاليمن فتنة وينبغي أن يواجه- بةصفه كذل- بكل الطرق المشروعة، لكن الفكر لا يقاوم إلا بالفكر..

وكنت قد شاركت في مؤتمر الدوحة لحوار المذاهب الإسلامية قبل أكثر من عام ونصف، وكان من توصيات المؤتمر أنه لا يجوز للسنة أن تسعى لتسنين الشيعة في البلدان ذات الأغلبية الشيعية، وكذلك لا يجوز للشيعة أن تسعى لتشييع السنة في البلدان ذات الأغلبية السنية.

*من هذا المنطلق، هل ترى بأن دخول التيار السلفي إلى صعدة التي كانت محافظة مغلقة على الزيدية يعتبر سبباً للتطرف الشيعي الذي يتبناه الحوثيون؟

** أكيد ورحم الله الشيخ الفاضل مقبل الوادعي، فقد كانت دعوته من العنف والشدة والإثارة بما دفع من كانوا قد نسوا تاريخهم المذهبي الخاص لأن ينتقموا أو يثوروا وتأخذهم ردة الفعل بأن يتذكروا بأن ثمة تهديداً حقيقياً لتاريخهم الفقهي والمذهبي لصالح (الوهابية) الغازية من وراء الحدود.

ولا شك أن السلفية التي أنشأها فضيلة العلامة الوادعي رحمه الله كانت سبباً مباشراً لإحياء النزعة المذهبية في صعدة على وجه الخصوص، وأعتقد أن السلفية هناك تتحمل الوزر الأكبر في إحياء النزعة المذهبية الضيقة بعد أن كانت متآخية مع الفكر السائد وهو فكر جيل الثورة الذي ينظر للإسلام نظرة عامة دون أن يحصره في إطار مذهبي.

*هل ترى بأن الحل يجب أن يبدأ من مركز دماج؟

** الآن يبدو لي بأن الخرق قد اتسع على الراقع، ومن الصعب أن ننظر للمسألة من زاوية المنشأ فقط، لكن أقول لك: مركز دماج مشكلة إذا ظل يفعل ما يشاء، كما هو مركز بدر، ومركز معبر، ومراكز صوفية وغيرها ، أرجو أن تعامل مع الجميع من زاوية مؤسسية واحدة، لاشللية أو سياسية، وكأننا نتجاهل نتائج هذا السياسات اليوم . هذه المراكز من حقها أن تستمر إذا ما خضعت للسلطات ذات العلاقة بوزارة التربية والتعليم في إطار قانون التعليم الأهلي والخاص، أما أن تظل تفعل ما تفعل، فلا نصحوا حتى يقع الفأس على الرأس، فأنا أعدّ هذه بؤر فتن، لا مراكز تعليم وتنوير، إذا ظلت بوضعها الراهن.

*هل ترى بأن من حق كل مذهب أن يكون له مدرسة لتدريس مذهبه؟

** أنت تسأل سؤلاً معقداً، وعندي دراسة نشرتها وأعمل على توسيعها عنوانها "إشكال التعليم المذهبي تشخيص ومقترح" والتعليم المذهبي له تشخيص وتوصيف وآليات ينوء المقام بذكر تفاصيلها. وأنا أقول ليس من حق كل مذهب بالمطلق أن تكون له مدارسه الخاصة، ولا يجوز أيضاً أن تلغى الخصوصيات المذهبية. وفي الدراسة المشار إليها توصيف: يكون التعليم العام؟ وكيف تكون علاقته بالتعليم المذهبي؟ وكيف يكون التعليم العالي؟ وعلاقته بالتعليم المذهبي وما هي القواسم المشتركة؟ وما هي الخصوصيات؟ و يقال إن هذه الدراسة أخذت مأخذ الجد من قبل الجهات المعنية، وإن لم نر على الأرض مصداق ذلك.

أقول لا بد أن تعود روح التسامح المذهبي عبر آليات غير اعتباطية، فالتعليم المذهبي هو حجر الزاوية، وهو الأساس في المشكلة، كيف يمكن التعامل مع هذه الفسيفساء التي صارت الآن موجودة من شافعية وزيدية وصوفية وسلفية ذات فصائل متعددة وتيار واسع وعام انتقائي، لا بد أن نقف أمام التعليم المذهبي وقفة جادة غير إقصائية تستبعد فئة اجتماعية ذات فكر خاص، وغير تجزيئية تعمق روح التجزئة في المجتمع.

وهذا يحتاج إلى فريق عمل من الخبراء المشهورين باهتمامهم بالتربية الإسلامية وخبراء المناهج وبعض الأطراف ذات العلاقة بما يجري، وأن تجلس على طاولة حوار واحدة وأن يوكل أمر المناهج إليها.

* تعني بأن المسألة مرهونة بيد وزارة التربية والتعليم؟

** دعني أقل بصريح العبارة هو قرار سياسي بالدرجة الأساس ، إذا كان هناك إدراك من القيادة السياسية لخطورة الأمر، فإنها ستسعى لمعالجة الموضوع بطريقة عادلة تضمن حقوق الجميع دون أن تتحول بلادنا إلى مجمع أحزاب أو مذهبيات أو طوائف على غرار ما يجري في بعض البلدان التي ابتليت بهذا الداء، واستغلته السياسة ووظفته لأجندتها الخاصة.

منظمات نسوية وأجندة أجنبية

*كانت بعض المنظمات النسوية قد استعانت بك لتأصيل بعض مطالبها تأصيلاً شرعياً، ثم فجأة تحولت إلى مهاجمة هذه المنظمات، ما هي خلفيات هذا التحول؟

** أنا أتعامل مع كل من يمد يده إليّ بصدق وربما هذا جنى عليّ، لكني أدركت من خلال مشاركاتي في بعض هذه الفعاليات بأننا نستغل نحن المحسوبين على الاتجاه الإسلامي، في أن نضفي على بعض هذه الفعاليات الطابع الشرعي، ومن ثم أدركت أننا نوظف توظيفاً براجماتياً ذرائعياً رخيصاً، بدليل أنني طرحت بعض الأفكار التفصيلية التي لم تعجب بعض هذه الجهات، فأخذت في نفسها، وبدت علامة ذلك من خلال التجاهل في الدعوة مرة أخرى، في حين أنها دعت وتدعو آخرين من الذين يباركون خطاها بشكل غير مقصود غالباً.

*ما هي المآخذ التي أخذتها على هذه المنظمات؟

** بعضها يعمل لأجندة أجنبية، وهذا اتضح لي بالقطع من خلال رفض مشاركة كل من يتهم بعض الجهات الداعمة والممولة لبعض هذه المراكز وما في حكمها بأن لها أجندة أجنبية، من وراء ذلك الدعم، وأنها لاتموّل نلك المراكز للنهوض بوضع المرأة وتنويرها وحلّ مشكلاتها الفعلية، ولكن تسعى لتفرض أجندتها الخاصة، وبعض من يعمل معها أدرك ذلك. وهذا ليس اتهاماً عشوائياً بل الأرقام والحقائق على الأرض تدل على ذلك، بيد أن المفارقة الصارخة أن هناك اعترافاً علنياً يظهر أحياناً على الملأ، كما ظهر على قناة السعيدة –على سبيل المثال- .ففي 9\6\2008م استضافت هذه القناة الأخت سعاد القدسي مديرة ملتقى المرأة للدراسات والتدريب والزميل الدكتور فؤاد الصلاحي، عبر برنامج (في كل اتجاه) فاتهم الدكتور الصلاحي -وهو من الناشطين في قضايا المرأة ومنظمات المجتمع المدني- بعض هذه المراكز بأنها تتسلم مبالغ خيالية وفلكية أحياناً من الخارج،تنفيذاً لأجندة أجنبية، بل صرّح بأننا لا نعرف أين تذهب مثل هذه المبالغ، وذكر مبلغ نصف مليون دولار،- على سبيل المثال- تسلمته بعضها دون معرفة مصيره ، فأقرت الأخت سعاد بأنها وهذه المراكز تتسلّم أموالاً من الخارج، نسبة 60 أو 70%منها قد يأتي تنفيذاً لأجندة خارجية وقد يكون منها نسبة قليلة تخص الشأن المحلي، لكنها برّرت ذلك بأن الدولة نفسها تشحت(هكذا) ونحن( نشحت)، فلماذا التركيز على شحت هذه المراكز وحدها؟!! وهذا اعتراف صريح وليست مجازفة، ولا حظ المبرّر ماهو؟ . إن الخارج عبر العولمة ومحاولة تنفيذ خطة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير التي يحتل التعليم والأسرة فيها بنوداً واضحة تقضي بضرورة إعادة النظر في مؤسسات التنشئة التعليمية والأسرية بوجه خاص، وفق أهدافها الخاصة، وتركّز على وجه التحديد على مؤسسة الأسرة، ورفض مفهوم الأسرة النمطية، والدعوة إلى الحرية في التمتع بالمراهقة ، ونحو ذلك، ولا سيما عبر تزييف الوعي الجديد الذي يسمونه (الجندر).ويؤسفني أن أقول بأن ما كنا نسمعه ونستهجنه من بعض الوعاظ عندما يقولون بأن دعوة الجندريين تستهدف أن يتحول الرجل إلى امرأة والمرأة رجلاً بالمعنى البيولوجي في إطار المثلية الجنسية، كنا نستهجن ذلك، مما دفع العبد الفقير- مثلا- للبحث الموضوعي المتأني في هذا الأمر ، فوجد أن دعوى النوع الاجتماعي ماهي إلا مرحلة لكثير من دعاة الجندر للانتقال إلى النوع البيولوجي الذي يزعم بعضهم أنه ثابت لايأتي عليه التغيير، ولكن ثبت أن بعضهم كذلك يدعو صراحة إلى حرية المثلية والتحرر من الأسرة النمطية، أي القائمة على أساس الزواج التقليدي المعروف رجل بامرأة وامرأة برجل، والمطلوب هو أن يتاح المجال لمن أراد أن يتزوج من نظيره الجنسي، وقد ظهر ذلك بوضوح لالبس فيه عبر بعض المؤتمرات(الدولية) الخاصة بالمرأة. وفي دراسة جديدة للعبد الفقير آمل أن ترى النور عما قريب تبين من المصادر الأصلية للقوم بأن هذه الاتهامات لم تأت من فراغ، وأن ثمة متطرفين من دعاة الجندر يريدون في النهاية أن يبيحوا هذا الزواج ليصبح شرعياً، وبعض المؤتمرات الدولية تؤكد بأن الأسرة النمطية والتقليدية التي تقوم على زواج رجل من امرأة ينبغي أن لا تكون الصيغة الوحيدة المشروعة!.

*من خلال مشاركتك مع بعض هذه المنظمات، هل ثبت لك بأنها تنادي إلى الجندر بالمفهوم البيولوجي الذي تتحدث عنه أم أنها تنادي بالجندر الاجتماعي فقط؟

** أتحدث عن الفكرة بصرف النظر عن مؤسسة يمنية أو غير يمنية، بل بعض هذه المؤسسات تستميت وتستعمل الإرهاب الفكري لقمع كل مخالف لها بأنه مع الثقافة التقليدية والظلامية والرجعية، في منزع إقصائي مخيف، وكأن المطلوب أن نقدس أفكارهم وإلا فنحن كذلك.

وهؤلاء مستلبون حضارياً ويعانون من الانهزامية الصريحة أمام أجندة الغرب وبعضهم مستفيد مادياً، يترزّق على مائدة هذه الجهة أو تلك. وفي سبتمبر من عام99 م حصل مؤتمر نسوي في صنعاء وقدمت أوراق فيها دعوة إلى المثلية ، وسيظهر بعض ذلك في كتابي المشار إليه- بإذن الله-.

*طبعاً أنت معروف بانتقادك للجميع، انتقدت الإصلاح والسلفية والحركات النسوية.. هل سببت لك آراؤك بعض الإشكالات في الأوساط الإسلامية؟

** أولاً أنا لست عدمياً، وأنا أنتمي إلى التيار الإسلامي الحر والعام من كل المدارس والأطياف المعتدلة الوسطية، وليس بيني خصومة وبين أحد من العقلاء، وإنما أنتقد السلبيات، والسلبيات تظل في النهاية جزئيات ولا تمثل القاعدة العامة.

وفي موضوع المرأة أنا من دعاة تحرير المرأة ولكن ليس على الطريقة التغريبية، وإنما على الطريقة الإسلامية، وأعترف بأن ثمة مظالم حقيقية لحقت ولا تزال بالمرأة وينبغي أن تتحرر منها، ولي كتاب في هذا -دون أنتظر شهادة من أحد- "مقدمات أربع أولية في فقه المرأة المعاصرة"، وأدعو إلى إعادة النظر في كثير من الموروث الذي يتلبس بالدين، وأقول لا بد من فض الاشتباك بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع.

وهذا الكلام لن يزايد عليّ فيه أحد، لكن ليس من مستلزمات كل ذلك أن أسلم فكري وذهني وثقافتي إلى الأجندة الأجنبية التي تأتي عبر بعض مؤسسات المرأة.

أما بالنسبة للمتاعب فهذا أكيد، ولو سألتني هل لك خصوم لقلت لك خصومي غلاة الحزبية الإسلامية وغلاة العلمانية التغريبية، والمتطرفون بشكل عام سواء كانوا منظمين أو غير منظمين.

وعلاقاتي ممتدة مع كل الناس الإسلاميين وغير الإسلاميين من العقلاء والمعتدلين، وأنا لا أصنف الناس ولست معنياً بتصنيفهم، وعلاقاتي بحمد الله تتجاوز اليمن إلى خارجه والخارج.

* نقلا عن صحيفة الغد