استراتيجيات واجبة في المرحلة الإسلامية القادمة
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 17 سنة و 3 أشهر و 26 يوماً
الخميس 30 أغسطس-آب 2007 11:00 ص

مأرب برس - خاص

من المسلّم به أن الأمة الإسلامية في ظرف استثنائي، من تاريخها، وأنها أحوج ما تكون في هذه المرحلة العصيبة من تاريخها إلى وضوح الرؤية، وسلامة المنهج، وإخلاص العاملين، وتضحيات المجاهدين، وقيادة الحكماء والعارفين والأقوياء .

كما أن الأمة الإسلامية في هذه المرحلة أيضاً على أعتاب مراحل من البناء والتشييد والإعداد وجمع الصفوف وتوحيد الجهود، وصناعة الأحداث، وتفويت الفرص على الأعداء والمتآمرين، ولذا بات لزاماً في هذه الآونة والحقبة التاريخية الاستثنائية من عمر الأمة أن تخطط لمستقبلها المليء بالمفاجئات والأحداث، وأن تضع استراتيجيات البناء والإعداد، يأتي في مقدمة هذه الاستراتيجيات الضرورية لهذا البناء، ما يأتي:

1) الإستراتيجية الأولى: التعاون لا التصارع بين الحاكم والمحكوم، حيث يجب ردم هوة الشقاق والصراع مع الأنظمة الحاكمة، وأن يسعى الجميع لتوحيد الكلمة وجمع الصف، لأن الخطر الداهم لا يستثني أحداً، والحكومات في أمس الحاجة في هذه الآونة إلى شعوبها، وإلى الخبراء والعلماء والمصلحين، والقادة المستنيرين في الأمة، كما أن الأمة بحاجة إلى ركن شديد يحميها من أعدائها، ويذود عن حرماتها وحياضها ومقدساتها وخيراتها وكرامتها، وبالتالي فالتعاون على البر والتقوى والتعاضد بين الحاكم والمحكوم واجب شرعي لا سيما في المرحلة الراهنة، وعلى الجميع ألا يستجيب لنزغات الشيطان، وأمانيه الفاسدة، في التجزئة والتشتيت والتمزيق، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103 .

قد يكون الخلاف أو النزاع من قبل حول بعض تفاصيل الحياة، قد يُغض عنه الطرف، وقد يكون حسناً وجيداً، لكن العدو اليوم بات بين ظهرانينا في العراق وفلسطين والصومال، وغيرها من ديار المسلمين، مما يوجب شرعاً وحدة الكلمة والموقف والرأي بين الحاكم والمحكوم، على أساس ثوابت الأمة وقضاياها الوطنية والإسلامية، وإلا فالطوفان لن يستثني أحداً.

وهذا يتطلب من الطرفين ما يأتي:

أ- إلغاء حملات الاعتقال ومضايقة حريات الرأي والتعبير والكلمة، التي لا تخرج عن الإجماع الوطني، ولا بد في هذا الإطار من مجال أرحب وأوسع للكلمة والرأي، وفق الأصول والثوابت الوطنية .

ب‌- ترشيد الخطاب الدعوي والسياسي بلا مداهنة أو تزييف للوعي، أو غلو وشطط، أو حماس انفعالي غير منضبط .

ج‌- فتح أبواب الحوار العام والشامل مع قيادات المجتمع والأمة، حكاماً ومحكومين وتدارس الرؤى والخطط الواجب إتباعها في هذه الظروف .

د‌- وقف عمليات الإثارة والاتهامات والتحريض والتحريش والمعاداة بين طوائف الأمة وأحزابها المختلفة، كما تمارسه السلطة من جهة، مع خصومها السياسيين، وبين هذه الطوائف والسلطة من جهة أخرى .

هـ- الرحمة والرأفة والرفق من الحاكم بأمته وشعبه، ويجب على الحاكم أن يشارك شعبه كل مآسيه وآلامه، وألا يعيش في أبراج عاجية، وأن يسعى جاهدا لتخفيف المعاناة عن الأمة، حتى لا تنتفض عليه، فيزيد الخرق على الراقع، لأن كثرة الضغط تولد الانفجار .

2) الإستراتيجية الثانية: السعي لوحدة طوائف الأمة حول كليات الشريعة ومحكماتها، وقد تبنّى هذه الدعوة المباركة عدد غير قليل من علماء الأمة الإسلامية، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، في الكويت دعا الشيخ أحمد القطان إلى ضرورة تعاون أكبر جماعتين إسلاميتين في العالم وهي جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين، وكذلك الدكتور مهلهل جاسم الياسين، وفي اليمن الشيخ الزنداني وإخوانه، وفي السعودية الشيخ سلمان العودة، في بعض محاضراته ولقاءاته ومقالاته، بيد أن هذه الدعوة مع روعتها وأهميتها، يبقى العمل بها عسيراً وصعباً سواء بين السنة والشيعة أو السنة أنفسهم (إخوان وسلفيون) أو بين الشيعة والشيعة لتعدد طوائفهم ومذاهبهم وطرائقهم، فما كان مسلّما به أو واجبا عند هؤلاء هو حرام عند طائفة أخرى، ولنقف على الخلاف الإخواني السلفي، وحقيقته، كمثال نوضح به عمق المشكلة ونعرّج على الحل إن يسّر الله به .

 الإخوان والسلفيون:

 أصل الخلاف بين الطائفتين (الإخوان والسلفيون) لا يعود إلى طرائق التلقي والاستنباط ودلائل الأحكام، فالمسلّم به بين الطائفتين أنّ الكتاب والسنة هما المرجع عند كل خلاف، وأنهما أي الكتاب والسنة هما مصدر التلقي والتشريع، وهذا القدر بهذه الصورة لا يوجد بين السنة والشيعة، مما يجعل الخلاف بين الإخوان والسلفيين ليس كبيراً ولا مستفحلاً جداً، وإنما يعود بين الطائفتين إلى قضايا معاصرة وسياسات وتفاصيل الحياة، والاجتهادات في التقدير والممارسة والخطط والبرامج، فالإخوان مثلاً يرون أن التنظيم واجب شرعي، وأن العمل السياسي يعد ضرباً من ضروب الجهاد في سبيل الله، ويرون أن منهج التغيير هو التربية التنظيمية الرشيدة، على أصول ومحكمات الدين والملة، وأنّه لا بد من برامج تقدم للأمة في شتى ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية...فيما الإخوة السلفيون يعتبرون كل هذه المسائل منكرات وفساداً وبدعاً شرعية لا تجوز، ويجب نكرانها ومحاربتها، لما تشتمل عليه من تشويه للدين، كما يرون.

كما أن الإخوان ينظرون إلى التيارات السلفية أنها تيارات تعيش خارج عصرها، ولا تملك برنامجا ولا منهجاً ولا رؤية معاصرة للتغيير، والزمن كفيل بانقراضها ونهايتها، ويرون أن مثلها كمثل الحيتان لا تستطيع العيش إلا في محيطها البحري، فإذا خرجت منه ماتت، إضافة إلى التصدعات والتشققات التي يعانيها التيار السلفي لا سيما في اليمن و الجزيرة والخليج، مما يجعل النفس لا تطمئن إلى هذه الجماعة المتشرذمة، وأن عمرها في نهاية النهاية .

ومع هذا الطرح الذي نسمعه في الساحة، والذي قد يكون فيه ثمة ظلماً وعدواناً على هذا الطرف أو ذاك، لكن يبقى القول أن هذين التيارين رغم إشكالياتهما الداخلية، لكنهما يُعدان أكبر تيار إسلامي في الأمة، ودعوى التقارب بينهما، أحسب أنها هامة وضرورية في هذا الظرف الراهن والأحوال الاستثنائية، كما أنّ هناك شخصيات إسلامية تحظى باحترام هذين التيارين على السواء وتلقى قبولا واستحسانا من طرفي النزاع، يمكن الاجتماع عليها، لا سيما في القضايا الإسلامية الكبرى، والتي يجب أن يتفق عليها الجميع، سلفيون وإخوان، بل والأمة كلها.

كما أنني أنتهز هذه الفرصة لأقول أنّ الإخوان برعوا كثيرا في الجوانب السياسية والفكرية والاقتصادية المعاصرة، وينبغي للمخلصين من التيارات السلفية التسليم للإخوان في هذا الجانب، حيث تشهد لهم ساحات وقباب البرلمانات والبنوك والمشافي والمدارس والجامعات وحركات المقاومة بذلك، كما أن الإخوة السلفيون لديهم عناية يُشكرون عليها فيما يتعلق بالتراث وكتبه ومصادره، لكن تحتاج منهم إلى حسن توجيه، وألا تجرهم إلى خارج العصر، من حيث لا يشعرون، ينبغي الإفادة منهم في هذا الجانب، وهذا يعد خلاف تنوع لا تضاد يجب ألا يفسد للود قضية، وكل ميسّر لما خلق له .

كما أنه يجب أن يعذر الطرفان بعضهم بعضا، فلكلٍ بيئته وأجواؤه، وظروفه وأحواله، سواء فيما يتعلق بالنشأة أو فيما يتعلق بالحاضر والمستقبل، وهذا كالاختلاف الواقع بين مصر والشام واليمن، وبين الجزيرة العربية والخليج، ومن الخطأ بمكان أن ننقل التجربة في مصر إلى الخليج بكل تفاصيلها، والعكس، وهذا ما يجب أن يتفطن له الطرفان، على أنّ الذي ندعوا إليه في ظل هذه الظروف أن تجتمع كلمة هذين التيارين على القضايا الكلية والكبرى، وهو ما نفتقده وللأسف إلى هذه اللحظة، وهو ما يستدعي من الجميع أن يغيّر من إستراتيجياته في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة على الأقل، حيث الحاجة ماسة إلى التأليف والتجميع أكثر من التنفير والتقريع .

كما لا يفوتني أن أسجل هنا ملاحظة هامة أخرى وهي أنه في بعض المناطق كالجزيرة والخليج لا تكاد تجد فرقا بين الطائفتين أعني الإخوان والسلفيون حتى في المظهر والهيئة، فضلا عن الفكر والثقافة، فتجد بعض السلفيين يخوضون في السياسة ومشاريع الاقتصاد والفكر، أكثر من بعض الإخوان، في بعض الأحيان، والعكس أيضا تجد أن بعض الإخوان في الجزيرة والخليج سلفيون أكثر من السلفيين، في كتبهم وأطروحاتهم، مما يجعلنا هنا نتساءل فلمه إذن الخلاف والنزاع والشقاق؟!، الأمر الذي يؤكد لكل عاقل أن النزاع شكلي ومتوهم وليس بحقيقي ولا عميق، بدرجة مستعصية، مما يوجب على أهل الرأي والحكمة في هذه الأطراف المبادرة إلى جمع الكلمة ووحدة الصف، خروجا من الإثم العام والخطيئة الكبرى من الفرقة والشتات، والتي لا تغتفر إلا بالوحدة والاتحاد والالتحام .

3) إستراتيجية ثالثة وهي: أن المرحلة تتطلب جمع الأمة بكافة فئاتها وأحزابها ومنظماتها وجماهيرها وطوائفها حول المشروع الإسلامي الوطني الكبير الذي يسع الأمة كلها، بلا تحفظ على أحد، فينبغي أن تمتد أيدي الإسلاميين إلى بقايا الاشتراكيين والبعثيين والناصريين، وفلول الشيعة الإمامية، وحتى الحوزات الصوفية، إن تيسر، وإلى كل القوى الأخرى ذات التأثير الاجتماعي أو الإعلامي أو السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي، لأن الحالة الراهنة للأمة تستدعي حشد كل الأمة، ممن لا يزالون على أصل الملة والديانة، حول أهم المشكلات والقضايا .

 تبقى ثمة إشكاليات على هذا الرأي، من أهمها:

أن في هذا الأمر الذي أسميته"حشدا" لعلّ فيه إحياءً للموات من المذاهب والأفكار الهدامة، ممن يجب أن يتوارى أصحابها عن الساحة لما قدموه من جرم في حق الأمة ودينها، والأمة بحمد الله، قد لفظتهم وتخلصت منهم، إلى غير رجعة، وبالتالي فالاقتراب منهم أو إعادة صورهم إلى الساحة إنما هو إعادة للنكبة من جديد، وجوابه:

أ‌- أن هذا ليس إحياءً لأفكارهم المنقرضة، كالشيوعية والاشتراكية، بل هو محاولة لإحيائهم هم كبشر ومسلمون، وسعي لاستنقاذهم من النار والضلال، فمن للضالين، ومن للحيارى، ومن للتائهين، ومن للتائبين؟ .

ب‌- أن من هذه التيارات من أعلنت أنها عادت إلى حياض أمتها ودينها وقضايا الوطن والأمة، فمن أعلن ذلك هل يجوز أن نخرجه من محيط الأمة، وبأي حجة ودليل؟! .

ت‌- أن في عدم احتوائهم دعوى مبطنه لأن تأخذ بأيديهم سفارات الأمركة والصهينة .

ث‌- هدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في محاورة حتى المنافقين ومن في إيمانهم زيغ أو ضعف أو هوى، بل وحتى غير المسلمين من اليهود والنصارى، ودخوله عليه الصلاة السلام معهم في اتفاقيات وأحلاف، وأعمال تنسيق وتعاون.

 لكن المأخوذ على هذه التجربة أن تتحول إلى مواقف سياسية مجردة بعيدة كل البعد عن منهج الهداية والإصلاح الإيماني، فحين ذلك يصبح التذكير فقط بهذه النقطة أمرا واجباً ومهماً، لا أكثر.

4) الإستراتيجية الرابعة: الإفادة من الأنظمة العالمية، في التحاور والدعوة ومد جسور العلاقات الخارجية بين الإسلاميين وهذه الأنظمة العالمية ذات التأثير العالمي، كماليزيا والصين واليابان..، على الأقل للإفادة كعلاقات دبلوماسية ومصالح مشتركة، ذلك أن الإسلاميين أسهموا إلى حد ما في الحصار العالمي على أنفسهم، لأن الزمان يُفترض فيه ألا يخلوا من نجاشي يأوي إليه المظلومون والمضطهدون، في الأرض، بل تلك هي سنة من سنن الله الماضية والجارية في الخلق، كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحج40 .

أحسب والله تعالى أعلم أن هذه قضايا لا بد من العناية بها في حاضر الأمة ومستقبلها، ولها في ديننا أصل شرعي واضح المعالم والدلائل، والله تعالى نسأل منه العون والتوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،

والله تعالى من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.