النموذج الرابع
بقلم/ محمد المطري
نشر منذ: 13 سنة و 8 أشهر و 16 يوماً
السبت 26 مارس - آذار 2011 08:11 م

قدم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي كرسيه قربانا لمارد الثورة الشعبية الذي أخرجته شعلة روح البوعزيزي المحترقة من قمقمه المكبل فيه أكثر من عقدين من الزمن ظن فيها زين العابدين أن لا قوة على وجه الأرض تستطيع أن تتمرد عليه فلم يجد بدا أمام هذا الطوفان الكاسح إلا أن يتخلى عن كرسيه حفاظا على ماء وجهه و لا على ما استطاع جمعه من الثروة أو نهبها في ظل سيطرته على مقاليد السياسية والاقتصاد كحاكم دكتاتوري من أنماط الحكام العرب المعاصرين .

خرج زين العابدين مقدما النموذج الأول للخروج المشرف نوعا ما للحكام العرب قبل أن يظن أن هذه الثورة التي أخرجته يمكن أن تصدر إلى دول عربية أخرى ليلقى حكامها نفس مصيره وهو أيضا لم يكن يظن أن حاكما عربيا يستطيع أن يقاوم طوفان الثورة الهائج هذا مهما كانت قوته وسطوته .

طارت شظايا هذه الثورة التونسية إلى مصر وهناك بدأ أوارها يمتد على ربوع ارض الكنانة بعد أن أشعل أربعة مصريين النار في أنفسهم إعلانا ببدء اولمبياد الثورة الشبابية المصرية الأولى على الظلم و البغي والإستبداد .

انطلقت هذه الثورة انطلاقة حذر و توجس من الإتفاف عليها أما مسألة القمع والتنكيل فهذه مسألة مفروغ منها في ظل نظام قائم على هذا السلوك بأجهزته الأمنية القمعية المختلفة والتي يصل قوامها إلى مليوني عنصر ثقافته البطش و القمع و التنكيل كما أسلفنا خلاف عناصر الأجهزة الأمنية السرية التي أخذت وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى في حقارتها و دناءتها في تعاملها مع الأحرار والشرفاء .

ظلت أيدي كل العرب والمسلمين على قلوبهم وكادت أن تبلغ القلوب الحناجر خوفا وقلقا على مصير هذه الثورة المصرية بالذات طيلة أيامها التي لم تتجاوز 18 يوم مرت كأنها 18 سنة لحالة الخوف والقلق التي انتابت الجميع وخاصة بعد المشاهد الإجرامية البشعة التي تعرض لها شباب الثورة بطريقة لم يسبق لها أي نظام إجرامي دكتاتوري من قبل .

مع هذه المشاهد المتسارعة بدأت معالم النموذج الثاني في الظهور في صور عديدة منها ما سبق ذكره ومنها حزمة القرارات المتسارعة للرئيس مبارك محاولة منه تخفيف الإحتقان الذي يزداد يوما بعد يوم في كل المدن المصرية و خاصة مدينة القاهرة الباسلة ، وكلما زادت مراوغة الرئيس مبارك و مماطلته في التنحي زاد معها غضب الشارع و زاد من تسارع سقوطه في وحل الإهانة و الإزدارء و طمس صورته وصورة أسرته التي ظل طيلة 31 عاما يسعى لتجميلها وتلميعها أمام المصريين و العالم لتأصيل الحكم الأسري رسميا محليا ودوليا .

أصر مبارك على إكمال فترته الرئاسية بكل استهجان واستغفال لمشاعر ملايين المصريين و عشرات الملايين من العالم العربي الذين يرون في مصر الريادة و القيادة وأمل المستقبل المشرق بالعزة والكرامة والإباء ، إصرار مبارك هذا كأنما يزيد في إصراره على الإهانة و الذل و الازدراء العالمي يكتبه على نفسه وعلى أولاده و المقربين منه وهذا ما حدث بالفعل يوم الجمعة 11 فبراير 2011م عندما اختفى عن الأنظار ليظهر نائبه المتهالك معلنا تنحيه عن الرئاسة و تولي المجلس العسكري مقاليد الحكم بعده في مصر الصمود .

انتهت أسطورة مبارك وسطوته ونظامه بكل قواعده وحصونه وخنادقه في غضون ثمانية عشرة يوما عمر ثورة الثورة المباركة على اللامبارك وانتهى كل شيء في غمضة عين بصورة خالدة تحمل عنوان الشرف والعز لجهة و عنوان الذل والهوان لجهة أصرت على الظهور بها وبالنموذج الثاني لملحمة الخروج المهين كما أسلفنا.

أما النموذج الثالث الذي يزداد المشهد فيه حماقة و استكبارا ودماء و دمارا هو نموذج رجل المجد و الخلود نموذج ملك ملوك أفريقيا العقيد معمر ( أو مدمِّر كما يسمى ) القذافي الذي غره كما ذكرنا من قبل قول جمال عبد الناصر فيه " إني أرى فيك شبابي " اخذ القذافي هذه العبارة فبنى عليها مجده الدخاني و ظل يعيش بها وهم العظمة 42 سنة فصار كقول الشاعر " الهت بنو تغلب عن كل مكرمة :: قصيدة قالها عمرو بن كلثوم "

العقيد المدمر دينيا و سياسيا و اجتماعيا و أخلاقيا لم يكفه هذا كله ولم يتعظ ممن سبقه فكأنما أراد أن يجسد صورة نيرون العصرية ليخرج بلعنة التأريخ وقبلها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولم يشأ أن يصون ماء وجهه و دماء شعبه و عهد ربه الذي قضاه في قوله " تؤتي الملك من يشاء و تنزع الملك ممن تشاء " ، فأراد هذا المتعالي أن لا يخرج بصورة مشرفة تحفظ له بعضا من كرامته التي بقيت و العزة التي منى بها شبعه في خطاباته و شعاراته طيلة 42 سنة ليجد نفسه أمام اكبر عملية امتهان و انتقاص وإذلال يعيشه الشعب الليبي الحر شعب عمر المختار المجاهد البطل .

أبى هذا الدكتاتور الأحمق أن يترك السلطة سلميا ويجنب نفسه الإهانة و الذل و الخزي و يجنب بلاده الدمار و سفك الدماء فها هو اليوم فتح قد المجال لما كان يسميها بالإمبريالية و الصليبية الغربية لاستباحة التراب الليبي الطاهر الذي ارتضى تدنيسه بإصراره الأحمق على البقاء على العرش الرملي الموهوم .

هذا هو النموذج الثالث الذي يقدمه هذه السفاح الأرعن المعتوه قبل رحيله المحتوم قتلا أو نفيا عاجلا أم آجلا ، أما النموذج الرابع فهو الذي يحاول الرئيس علي عبد الله صالح تقديمه للعالم قبل تقديمه لشعبه وأمته ويحاول فيه تجاوز العقيد معمر في بطشه وتنكيله و استهتاره بالمشاعر و القيم و الدستور والقانون و الزج به كما صرح هو في حرب أهلية لا يُعلم لها رأس و لا ذيل و لا قلب و لا عقل ولا أرض و لا سماء .

التشبث بالسلطة التي سأم منها كما يقول واضح كل الوضوح في مسيرة البقاء والتمديد والتوريث الذي يحاول خداع نفسه في ظاهر خداعه للناس بنفيه السعي وراء ذلك .

السلطة التي قال أنها مغرم وليست مغنم أثبتت الأيام والأحداث أنها المغنم الكبير الذي لا يمكن التنازل أو التخلي عنه حتى لو سفكت دماء كل اليمنيين وأزهقت أرواح من تبقى منهم حتى وإن سويت الأرض وما عليها بمن عليها بأي شكل من الأشكال ، ولما لا والأزمات والحروب و الفتن هي الطابع السائد في برنامج الرئيس ومنهجه وسلوكه الخاص .

كلما حاولت أن اقنع نفسي و اقنع الآخرين بأن الأخ الرئيس حتما سيستجيب لمطلب الأمة الصادقة ولا أقول المنافقة و يعلن تنحيه عن الحكم بعد كل مستجد يظهر فيه على حقيقته التي لا يريد الاعتراف بها و يجهلها الكثير من السذج والمغرر بهم ، كلما حاولت ذلك يخرج علينا بتصريحات تعمق روح البغض والكره و الإلحاح على رحيله في نفوس الجميع .

فمن الاعتداءات المتكررة على المعتصمين السلميين التي وصلت إلى جريمة يوم الجمعة النكراء إلى محاولة إلصاقها بسكان الأحياء المجاورة لساحات الإعتصام إلى إعلان حالة الطوارئ إلى تسمية المؤيدين للشباب الثورة بالمنشقين الانقلابين المحاولين الخروج على الشريعة إلى التهديد أو التلويح بحرب أهلية إذا استمر هؤلاء في تأييدهم أو انضم إليهم آخرون .

لا يريد الأخ الريس أن يختم مسيرته القيادية ولا حياته الدنيوية بموقف يحمد عليه و يخفف عنه بعض الأحمال والأثقال التي وقّرَ بها مسيرته هذه التي بدأت منذ ما يقرب من خمسة عقود ، و أظنه أيضا لا يريد أن يخرج من سدة الحكم خروجا مشرفا له و لأبنائه و المقربين منه كما أتيح له وأصبح الأمر بالنسبة له مسألة حياة أو موت بقاء أو فناء أو إما أنا أو الطوفان .

وهناك ملحق أو قاسم مشترك بين كل هذه النماذج السابقة والقادمة وهم ليسوا من الحكام و لا الرؤساء ولكنهم تيار البطانة و المنافقين والمتآمرين ليس على الأمة فحسب وإنما على الحكام أنفسهم .

هؤلاء وما أكثرهم في كل نظام حكم لقوا نفس مصير هؤلاء الحكام الذين دفعوهم وأوقعوهم في هذا المصير المهين وهم :

-المستشارون ( مستشارو السوء ) الذين اختارهم الحاكم ربما ليبرر لنفسه سلامة ومشروعية وعقلانية كل قرار أو قانون خارج عن الدستور أو جريمة في حق الشعب والوطن .

-الوصوليون والإنتهازيون ( من الفاشلين و تجار الطفرة ) الذين يستغلون الفرص والأزمات و جعلوا من الحاكم جسرا لتحقيق أهدافهم الشخصية بأي وسيلة وطريقة كانت على حساب مصالح و مكتسبات الأمة .

-المتفيقهون ( المحسوبون على أهل العلم وطلبته ) هؤلاء هم اخطر الفئتين السابقتين فهم يضفون الشرعية الدينية على كل عمل وممارسة وقمع و قتل يقوم به النظام تحت مظلة طاعة ولي الأمر و فتاوى التبديع و بدعة الخوارج و غيرها لاستباحة الدماء و الأموال والأنفس والأعراض ونسي هؤلاء أنهم أول من انقلب عليهم الحاكم وسينقلب عليهم إذا قدر له البقاء و لن يخرجوا من لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

-السذج و المستأجرون الذين استطاع الحاكم تضليلهم وخداعهم بأساليبه الخطابية الجوفاء من أي مصداقية وموضوعية ومغرياته المالية التي تحمل طابع الإهانة والإذلال إذ لا يتجاوز ما يتم دفعه لمعظمهم ما يعادل الألف ريال مقابل أن يهتف بحياة الحاكم القائد لساعة أو ساعتين وفي الأخير لا يحصل معظمهم عليها .

قال لي الأخ محمد الأديمي ابن الشيخ عبد الله محمد الأديمي ( رحمه الله ورحم آباءنا وأمهاتنا أجمعين ) قال لي نقلا عن والده أنه عندما كان طفلا أن امرأة في قريتهم كانت تقول لأمه إن ابنك هذا سيحصل على كنز كبير قبل وفاته ...!!!

وكان الشيخ عبد الله الأديمي قد مرض و قبل وفاته ( توفي قبل 11 أيام تقريبا عن عمر ناهز ال 95 عام ) بشهرين تقريبا كان دائما ما يسأل ولده محمد وهو على فراش المرض عن الأخبار عندما بدأت ثورة شباب مصر و كان يوافيه بها أولا بأول فكان يقول عنها :

" هذه هي الثورة الحقيقية " .......

ثم كان يسأل متى يتحرك هؤلاء ( يقصد اليمنيين ) ولما بدأت ثورة الشباب في اليمن قال :

" هذا هو الكنز الذي كنت انتظره منذ طفولتي " .

هذه الثورة قد اشتعلت وحاشى على الله تعالى أن تخمد قبل أن تضيء الطريق لنا فيما تبقى من أعمارنا و للأجيال القادمة التي نحلم أن تحمل راية الحق و الحرية و العدل والتقدم والرقي و الإستقرار ، وإني لأتنسم مما أرى وأسمع عن روح الإخاء والألفة والتعاون و التضحية التي تجلت بين شباب الثورة المعتصمين في ساحات التغيير ما يثلج به الصدر وتقر به العين و تطمئن به النفس و يزداد به اليقين من رحمة الله و نصره وتأييده .

رحمه الشيخ عبد الله الأديمي ورحم والدي الذي تمنيت أن يكون بيننا لما كان يحمل في قلبه من حب لليمن و استقراره و ازدهاره ورحم الشهداء الأبرار الذين عمدوا هذه الثورة المباركة الصادقة بأرواحهم الغالية و كتب الله الشفاء للجرحى الذي عطروها بدمائهم الزكية الطاهرة و لكل من أمر أو شارك في الإعتداء عليهم أو غض الطرف أو أجاز أو برر ذلك اللعنة و الذل والهوان والخزي في الدنيا والآخرة ...

حفظه الله اليمن وجنبه الفتن ما ظهر منها وما بطن وسائر بلاد المسلمين

almatari@gmail.com