تحرير الإنسان قبل تحرير الأوطان
بقلم/ د.عائض القرني
نشر منذ: 13 سنة و شهرين و 20 يوماً
الجمعة 09 سبتمبر-أيلول 2011 05:46 م

لما بُعث الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان همه تحرير الإنسان من عبودية الطاغوت والسجود للصنم وإفراد الله تعالى بالألوهية والوحدانية. لقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة عشر سنوات يدعو إلى لا إله إلا الله، وهي تحرير للإنسان، ولم يسعَ لتحرير مكة البلد، بل تركها حتى عاد لها بعد عشر سنوات بجيش جرار فاتحا منتصرا.. كان عليه الصلاة والسلام، بالوحي المنزل عليه، يحرر الإنسان من عبوديته للإنسان أو أي كائن من كان ليكون عبدا فحسب للرحمن الذي خلقه ورزقه وتولى أمره فأنقذ بدعوته بلال بن رباح الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي من سياط التعذيب والاستبداد والاستعباد التي كان يمارسها عليهم الطغاة المتسلطون، وهو يعلن ألا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى وأن أكرم الخليقة عند الله أتقاهم وأن الناس سواسية كأسنان المشط، وطبقت هذه التعاليم في دولة النبوة والخلافة الراشدة، فيتولى زيد بن حارثة وابنه أسامة، وهما من الموالي قبل الإسلام، قيادة جيش الإسلام في عهده، صلى الله عليه وسلم، ويجلد عمر بن الخطاب، أمام الناس، محمد بن عمرو بن العاص، ابن والي مصر؛ لأنه ضرب قبطيا ويقول له عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

وأصل فكرة الإسلام تقوم على الحرية؛ فمن بنوده: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»، ولهذا يولد الإنسان حرا، ليس لأحد من البشر عليه عبودية، بل عبوديته لله وحده؛ لأن من تمام إنسانية الإنسان أن يكون حرا، الحرية المشروعة التي لا تعتدي على حريات الآخرين، حرا في نفسه ورزقه وعمله وقلمه، وحرا في فكره بضوابط الملة التي وافق عليها عقلاء العالم.

يقول أرسطو: ليست هناك حرية مطلقة إلا في الأذهان. وقصدي من هذا أن الإسلام حرر الإنسان قبل أن يحرر الأرض، فأعطاه قيمته وأشعره بإنسانيته وفتح له آفاق العطاء والإبداع والموهبة.. أما أتى حسان بن ثابت، وهو شاعر جاهلي كبير، فرحب به صلى الله عليه وسلم وقرب له منبره وحياه وحيا موهبته، ورحب بموهبة خالد بن الوليد في الشجاعة والإقدام وسلم له قيادة الجيش، ورحب بموهبة ثابت بن قيس في الخطابة وأقامه في الوفود منافحا عن الملة، وفتح باب الشورى، فكان صلى الله عليه وسلم يستشير الناس مع العلم أنه معصوم مؤيَّد بالوحي ولكن الله يقول له: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ»، بل استشار صلى الله عليه وسلم حتى الجارية في قضية عائشة في صحيح البخاري، واستشار أم سلمة، زوجته، في الحديبية وأخذ برأيها، وأخذ عمر الفاروق برأي امرأة في المهر وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر؟ وماذا كان ينفع تحرير مكة الوطن، والإنسان الذي يعيش عليها مستعبَد مضطهد؟ وقد تفتح الأراضي وتوسع الأوطان، لكن البشر الذين يمشون على وجهها أرقاء أذلاء لأصنام الحجر، أو أوثان البشر، فكان مشروع الإسلام العظيم أن يحرر الإنسان في معتقده وفكره وكلمته وقلمه وموهبته ورزقه وكرامته، ليس للإنسان عليه عبودية، وإنما قد تكون هناك ولاية لمصلحة الإنسان نفسه؛ لتقوم حياته على النظام.. وهذه الولاية أو السلطة متفق عليها عند سائر الأمم، وهي عقد شراكة.

وفي كتاب أفلاطون «الجمهورية» جعل هذه الولاية هيكلا لتنظيم الحياة، وكذلك الفارابي في «المدينة الفاضلة» وتوينبي، المؤرخ الإنجليزي، في تاريخه، لكنها ليست عبودية، إنما هي تعاون في صنع الحياة، كالمؤسسة التي بها مدير وكاتب وحارس ومحاسب، وليس معنى ذلك أن أحدهم خالق والآخر مخلوق، كلا، بل هم بشر تحت حكم الله، سواسية أمام العدالة والمغانم والمغارم والحقوق والواجبات، والذين سقطوا من طغاة العالم وداستهم الجماهير بأقدامها إنما حصل لهم هذا الهوان لأنهم خالفوا سنة الله في حرية الإنسان وحقه في العيش الكريم والاستقلال بشخصيته وتنمية موهبته ومواصلة إبداعه.. فهم اختصروا الأمة في ذواتهم، وألغوا الأصوات إلا أصواتهم فصادروا الآراء إلا آراءهم وشطبوا الصور إلا صورهم، ولهذا شنع الله على فرعون الطاغية اللعين المستبد وذكر قوله السخيف؛ حيث يقول لرعيته: «مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى»، ومعناه: فكروا جميعا بعقلي وتكلموا بلساني وعيشوا من أجلي وموتوا لبقائي، ولهذا يقول الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد»: إن الموهبة والنبوغ والقدرات العقلية تقتل في عهد الاستبداد، إن مكتشف القنبلة الذرية في الولايات المتحدة كافأه الرئيس الأميركي تورمان بأرفع الأوسمة وأثمن الجوائز وصار شخصية لامعة في تاريخ أميركا، لكن المخترع في دول العالم الثالث والمكتشف يتعرض للمحاسبة والمساءلة؛ لأنه استخدم عقله وأظهر نبوغه. وقد حوكم جاليليو لما قال في دوران الأرض في ظل الاستبداد من قبل الكنيسة، وفي عصر الحرية كوفئ الكاتب راسل ولامارتين وفولتير وغيرهم من الكتاب واللامعين بأسماء شوارع وجامعات في فرنسا.

وحيثما ترى الأمة تقدر العلماء وتحترم الموهوبين فاعلم أنها صاعدة في سلم الرقي والتمدن، وإذا رأيتها تحاصر العقول وتلغي المواهب وتعتقل النبوغ فاعلم أن ريح الزمن سوف تهوي بها في مكان سحيق؛ لأنها خالفت حكمة الله وسنة الوجود وقانون الحياة، والفرق بين الأمم المتحضرة والمتمدنة والأمم المتخلفة الجاهلة هو مستوى حرية الإنسان.