اليمن .. سيناريوهات ما بعد المبادرة
بقلم/ عادل عبد المغني
نشر منذ: 12 سنة و 11 شهراً و 15 يوماً
الخميس 01 ديسمبر-كانون الأول 2011 06:43 م

بخطوات حذرة يسير اليمن نحو انفراج الأزمة التي عصفت بالبلد منذ نحو عشرة أشهر، وبالتوقيع على المبادرة الخليجية واليتها التنفيذية من قبل صالح ومعارضيه يكون اليمنيون قد تجاوزوا إحدى العقبات التي كانت تحول دون المضي قدما نحو التسوية السياسية، وتجلت مساء الأربعاء الماضي نقطة ضوء في نفق اليمنيين المظلم الذي كاد ينتهي بحائط مسدود ظلت سماكته في ازدياد من يوم لآخر حتى ظن البعض أن اختراقه بات في حكم المستحيل ما لم يحدث الانفجار الكبير الذي قد يأتي على كل شيء.

وكي لا نسهب في حديث التفاؤل يكون من الأهمية القول أن تجاوز معضلة توقيع المبادرة الخليجية لا يعني على الإطلاق أن اليمن قد تجاوز أزمته الموغلة في التعقيد والتي من المؤكد أنها ستستمر أشهر أخرى قادمة. فالحقيقة أن صالح لم يوقع على المبادرة الخليجية اقتناعا منه بالتنحي وتسليم السلطة وإنما لاستنفاذه كافة الأوراق التي تمكنه من الاستمرار في التهرب والمراوغة في ظل الضغط الدولي المتنامي والذي وصل مداه بالتلويح بفرض عقوبات على صالح ورموز نظامه، خاصة بعد مضي شهر كامل على قرار مجلس الأمن رقم 2012 بخصوص اليمن ، الأمر الذي دفع صالح إلى طلب تأجيل جلسة مجلس الأمن التي كانت مقررة الاثنين قبل الماضي أسبوعا كاملا وعد خلالها بالتوقيع على المبادرة الخليجية واليتها التنفيذية. ما يعني أن توقيع صالح على المبادرة كان انحناء منه أمام رياح المجتمع الدولي ومحاولة لامتصاص الضغط المتزايد على الصعيدين الداخلي والخارجي، والانتقال إلى المرحلة الثانية من المراوغة التي ربما تستهلك من الوقت ما استهلكته في مرحلة ما قبل التوقيع.

والمتابع للكلمة التي ألقاها صالح عقب توقيع المبادرة الخليجية في العاصمة السعودية الرياض يدرك أن مشوار الرجل لم ينتهي بعد، حين بدت كلمته أشبه بخطاب حرب منه خطاب تهدئة وتسامح وسلام.

فصالح الذي وصف معارضيه بالأسوأ من الصهاينة ذكر الجميع بحادثة استهداف مسجد دار الرئاسة وبصورة توحي بان الرجل لن يتنازل عن ثأره من خصومه المفترضين الذين نفذوا الهجوم على مسجد الرئاسة مطلع يونيو الماضي والذي أدى إلى إصابة صالح وكار مساعديه بحروق بالغة توفي على أثرها رئيس مجلس الشورى عبدالعزيز عبدالغني.

ومع أن التحقيقات لم تكشف صراحة عن الجهة التي وقفت وراء الحادثة إلا أن صالح يحاول تكيف الواقعة بالطريقة التي يريد وتوظيفها للانتقام من ابرز معارضيه، حيث وجه النيابة العامة باستلام ملف الحادثة وطالب في آخر خطاب له قبل التوقيع قبيلة الأحمر والجنرال العسكري علي محسن الأحمر بتسليم الجناة المتورطين في تفجير مسجد الرئاسة، الأمر الذي قد يفجر أزمة جديدة في البلد تنسف ما قبلها من تسويات سياسية.

خطاب صالح الذي ألقاه بحضور الملك السعودي وكبار أمراء العائلة السعودية والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي والمبعوث الاممي جمال بن عمر ووزراء خارجية وسفراء من دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، وصف ما جرى في اليمن بالمؤامرة الخارجية التي حيكت ضد بلاده واعتبر الثورة الشبابية انقلاب ضد نظام حكمه من قبل المعارضة. وكما لو انه ينبئ بخلافات مستقبلية في تنفيذ المبادرة الخليجية قلل صالح من أهمية التوقيع على المبادرة وطالب الإقليم والعالم بمراقبة مدى التزام الأطراف المعنية بتنفيذ المبادرة التي قال أنها بحاجة إلى حسن النوايا.

إغراق المبادرة بالتفاصيل:

مفرط بالتفاؤل من يظن أن توقيع المبادرة الخليجية واليتها التنفيذية لن يستغرق أكثر من الجدول الزمني الذي حدد سلفا والمقدر بثلاثة أشهر منذ توقيع المبادرة الخليجية حتى إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة. فمن المؤكد أن صالح سيعمل جاهدا على إغراق المبادرة الخليجية بالتفاصيل التنفيذية والتي قد تصطدم باختلاف وجهات نظر الفرقاء حول أولوياتها والعودة بالمبادرة إلى نقطة البداية، وهو ربما ما يفسر إصرار صالح على بقائه كرئيس شرفي لليمن حتى إجراء الانتخابات الرئاسية، فهو يظن أن أي خلافات تحول دون تنفيذ المبادرة الخليجية يعني إبطال مفعولها وعودة الوضع إلى ما قبل التوقيع عليها. وهو ما دفع القائمين على المبادرة الخليجية إلى وضع آليات تفصيلية مزمنة لتنفيذيها.

ومن المؤكد أن لدى صالح الكثير من الأساليب التي تمكنه من الحيلولة دون تنفيذ بنود المبادرة الخليجية سواء عبر رجالات حزبه الذين سيمثلون نصف أعضاء الحكومة المقبلة أو فيما يتعلق ببعض البنود التنفيذية في المبادرة كالعودة مجددا للمطالبة بإخلاء الساحات من المعتصمين ضمن بند إنهاء عناصر التوتر امنيا وسياسيا وكذا ما يتلق بإعادة الوحدات العسكرية المنشقة إلى حظيرة وزارة الدفاع. كما أن تأجيل موضوع إعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية تعني أن صالح لا يزال المهيمن على القوة الضاربة في البلاد من خلال نجله الأكبر العميد أحمد علي عبدالله صالح الذي يقود قوات الحرس الجمهوري وأبناء أخيه وأقاربه ورجالاته الذين يقفون على رأس أهم الوحدات العسكرية في البلد كقوات الأمن المركزي والطيران والدفاع الجوي والمخابرات، ما يعني أن خيار القوة العسكرية لا يزال متاحا أمام صالح للذهاب باليمن بعيدا عن المبادرة الخليجية وما أسفرت عنه من تسوية سياسية.

أعداء الأمس أصدقاء اليوم:

ثمة أوراق أخرى يمكن لصالح الذي قد يستنفر كل جهوده للعب بها لإشغال معارضيه وإرهاق الحكومة الجديدة امنيا واقتصاديا وعلى مختلف الأصعدة. ومن اجل ذلك بالإمكان أن يتحول أعداء صالح بالأمس إلى حلفاء له اليوم، والحوثيون الشيعة الذين خاضوا ضد نظام صالح ستة حروب منذ العام 2004م قد يكونون إحدى أوراق صالح التي يمكنه من خلالها إرباك سلطة معارضيه الجديدة، و وصل الأمر حد خوض حرب مشتركة بين الحوثيين والنظام من جهة و مسلحين قبليين يتبعون حزب التجمع اليمني للإصلاح بمحافظة الجوف من جهة أخرى، ومواجهات ثانية بين الحوثيين وتيار السلفيين.

ومثلما يفكر صالح باستثمار الحوثيين الشيعة لمواجهة النفوذ السني يحاول الحوثيون استثمار إمكانيات نظام صالح للتوسع جغرافيا قدر الإمكان وتوجيه ضربات موجعة لمن يرون فيهم العدو العقائدي.

وبالتالي فان صالح قد يفجر حربا مذهبية في اليمن تمتد من أقصى الشمال إلى العاصمة صنعاء، وجنوبا قد يتجه نحو تغذية النعرات الانفصالية التي يطالب بها البعض هناك، مثلما سيعمل على تعزيز حضور تنظيم القاعدة، وهي أوراق يحاول من خلالها صالح إرباك الداخل وبعث رسائل غير مطمئنة للخارج.

التسوية السياسية.. إنجاح للثورة أم التفاف على الثوار؟:

من المؤكد أن تنحي صالح عن السلطة يمثل احد مطالب الثورة الشعبية الشبابية التي اندلعت في فبراير الماضي، لكن الحصانة من الملاحقة القضائية التي خلصت إليها المبادرة الخليجية تتعارض كليا مع مطالب الثوار في الساحات الذين قابلوها برفض مطلق مثلما رفضوا في السابق أي تسويات سياسية على اعتبار أن الثورات لا تفاوض ولا تحاور وإنما تفرض شروط وتضع مبادئ. وشهدت ساحات الاعتصام عقب توقيع المبادرة مساء الأربعاء الماضي سخطا عارما وانقسامات حادة بين الشباب ووصل الأمر حد اتهام أحزاب المعارضة بالالتفاف على ثورة الشباب والتفريط بدماء الشهداء ومساعدة صالح ومعاونيه على الإفلات من العقاب، ونفذوا لأجل ذلك مسيرات غضب نددت بالمبادرة الخليجية وتوعدت باستمرار الثورة حتى تحقيق كافة أهدافها بما في ذلك محاكمة صالح ورموز نظامه.

والواضح ان المعارضة تعرضت لضغوط دولية شديدة لتقديم تنازلات بإصدار قانون يمنح صالح ضمانات من أي ملاحقة مستقبلية ويجعله رئيسا شرفيا لليمن حتى إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن ذلك لا يعني أنها التفت على ثورة الشباب. فما كان واضحا أن الثورة في اليمن تسير في خطين متوازيين: الأول ثوري يقوده الشباب في ميادين وساحات الاعتصام، والآخر سياسي تقوده أحزاب اللقاء المشترك والتي كانت الحامل السياسي للثورة الشبابية وجعلت في أولويات أهدافها الانتصار لثورة الشباب بأقل كلفة ممكنة، ولعلها نجحت إلى حد ما في ذلك بعد أن استطاعت تشكيل مجلس وطني يضم كافة قوى الثورة من مختلف الأطياف لقيادة الثورة وتوحيد قرارها والوصول بها إلى المحافل الإقليمية والدولية . ولعل ما ميز الثورة في اليمن وجود معارضة قوية ومنظمة وهو ما لم يتوفر في ثورات الربيع العربي سواء في تونس أو مصر وكذلك ليبيا أو حتى سوريا. لكن يبقى على المعارضة اليمنية وهي تتهيأ للانتقال إلى مربع الحكم مهمة صعبة في التعامل مع الشباب الغاضب ، وهو في الحقيقة تحد صعب يفرض على قادة المعارضة الدخول في حوارات مباشرة مع شباب الثورة الذين سيظلون مرابطون في الساحات حتى تتحقق كافة أهداف الثورة، وبالتالي على الحكومة الجديدة تحويل الشباب من عدو محتمل إن لم تحسن التعامل معه إلى عامل قوة وأداة ضغط في الميدان للحيلولة دون محاولة صالح العبث بسيناريوهات ما بعد توقيع المبادرة الخليجية، خاصة وان الرجل قد يستغل الخلافات التي أحدثتها المبادرة الخليجية في أوساط الشباب ودفعهم للدخول في مواجهات سياسية مع الحكومة المرتقبة التي راهن صالح أيضا على ما ستحدثه تشكيل هذه الحكومة من خلافات بين فرقاءه حول توزيع الحقائب واختيار الشخصيات.

صالح .. غياب عن المشهد:

لم تصدق الأنباء التي تحدثت عن مغادرة صالح الرياض إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال علاجه ومن ثم العودة للعيش في إحدى الدول الخليجية، بعد أن عاد مساء السبت إلى العاصمة صنعاء . وفيما يرى بعض المحللين السياسيين إن غياب صالح عن المشهد اليمني في الداخل يمنح فرص أوفر لتطبيق سلس للمبادرة الخليجية واليتها التنفيذية يرى البعض الآخر في بقاء صالح خارج اليمن تأكيد على عزمه تحريك كافة أدواته لتعقيد المشهد في الداخل.

وإجمالا يمكن القول بان توقيع صالح على المبادرة الخليجية لا يعني نهاية للازمة في اليمن أن لم تكن تدشين لمرحلة جديدة من الصراع، فسجل الرجل في نقض العهود والمواثيق التي يقطعها على نفسه حافل بتجارب مشابهة.

ولمن خانته الذاكرة يمكن التذكير بان صالح وقع في العام 1994م على وثيقة العهد والاتفاق في العاصمة الأردنية عمان بينه وشريكه في الحكم آنذاك الحزب الاشتراكي اليمني، لكنه سرعان ما نقض الاتفاق وجر البلد نحو حرب بين شطري اليمن انتهت بانتصار قواته على خصومه في المعسكر الآخر وفرض واقع جديد اضطر المجتمع الدولي للتعامل معه. مؤكد أن ربيع الثورة اليمنية اليوم يختلف عن صيف عام 94م ولا يمكن لصالح على الإطلاق فرض واقع جديد في البلد عما اختاره الشعب إلا انه يستطيع إطالة أمد الأزمة في البلد الذي بلغ به الضر ولم يعد شعبه يحتمل المزيد.