الدولة العميقة تستهلك نفسها
بقلم/ وضاح خنفر
نشر منذ: 5 سنوات و 10 أشهر و 6 أيام
الأربعاء 20 فبراير-شباط 2019 07:15 م
 

في مثل هذا الشهر قبل ثمانية أعوام، أطاح الشعب المصري بحسني مبارك، الكهل المستبد الذي ظل يحكم مصر لسنوات عديدة.

كان الناس في ميدان التحرير في حالة من الابتهاج، يحدوهم الأمل بمستقبل واعد. كانت تلك لحظة نادرة، فمنذ نشأة منظومة الدولة الحديثة، لم تزل معظم نقاط التحول في تاريخ الشرق الأوسط السياسي لحظات يأس بائسة.

أما لحظات الأمل والرجاء فكانت قليلة إن لم تكن استثنائية. وكان سقوط مبارك، وثورات الربيع العربي بشكل عام، حدثاً من تلك الأحداث النادرة – حيث مثل انتصاراً للناس من كل أطياف الحياة.

ولكن لسوء الحظ، ما لبثت لحظة الرجاء تلك أن تبددت تحت وطأة الثورة المضادة التي جاءت من بعد، فصار العالم العربي نتيجة لذلك أخطر وأشق من أي وقت مضى في تاريخه المعاصر.

لم يعد يخفى على أحد الآن تاريخ وتتابع أحداث الانتفاضات العربية، ومع ذلك ما يزال معنى وطبيعة الربيع العربي محل جدل وخلاف، وما يزال الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام إعادة تركيب ما جرى بأثر رجعي.

وليس من السهل الإجابة على سؤال مازال يفرض نفسه، وهو: "ما الذي مثلته تلك الانتفاضات؟" بل اكتسب الجواب على هذا السؤال وظيفة الاختبار، بحيث بات جواب المرء على السؤال يكشف عن موقعه من التنافس المحموم بين الناس على السلطة وموقفه من الأنظمة والمجتمعات في المنطقة.

حمل الربيع العربي في طياته عناصر تشكل وعناصر هدم في نفس الوقت. لقد كشفت هذه الانتفاضات عن فشل وفساد وانعدام شرعية الدول العربية.

بمعنى آخر، مثلت تلك الانتفاضات موت ودمار الدول العربية، على الأقل بأشكالها التي كانت معروفة لدينا.

فمن حيث التشكل والتحول، أحيت هذه الانتفاضات تصوراً جديداً ونفسية سياسية جديدة، فقد مكنت الناس وأطلقت العنان لمرحلة جديدة من المثالية.

وكانت الفرضية التي تأسست عليها هذه المثالية على النحو التالي: بات بإمكان الشباب وقد تسلحوا بتصور جديد أن يعيدوا تشكيل الدولة العربية، مانحين إياها جرعة كبيرة من الشرعية الديمقراطية ومزودين إياها بما يكفي من أدوات الحكم الراشد.

لكن سرعان ما وجدت هذه المثالية نفسها في مواجهة سخط الدولة العربية العميقة وقوى الثورة المضادة.

كان يوجد لدى الدول العميقة في العالم العربي، وما يزال، مكونان اثنان مكناها من الحفاظ على وجودها في مواجهة مثالية الشباب: السيطرة المتوفرة لدى أجهزة الأمن الشمولية والدعم الدولي العريض.

   باتت الحروب الأهلية وهجرة رؤوس الأموال والبشر، وانعدام الثقة في المستقبل والفقر المدقع من أهم سمات هذا الفصل الجديد من تاريخ منطقة الشرق الأوسط

ولكن على الرغم من انتصاره في بداية الأمر، لم يكن زخم الثورة المضادة برداً وسلاماً على الدولة العربية العميقة.

فإلى جانب توجيه ضربة قاصمة للتصور الشبابي الجديد وللمثالية الشبابية، مثل نفس ذلك الزخم دماراً مهلكاً للدولة العربية ذاتها أتى على ادعاء الشرعية لديها فقضى عليه

فحتى يحولوا دون حدوث أي تغيير، لجأ القائمون على هذه الدول إلى استخدام أشد وسائل البطش والتدمير.

 

ولقد شهد العالم كيف لجأ نظام السيسي إلى تنفيذ مذبحة كانت الأكثر دموية في التاريخ المعاصر حين أزهق أرواح 817 (بحسب ما أوردته صحيفة الغارديان البريطانية) من متظاهري ميدان رابعة في عام 2013.

وما بين أغسطس/ آب 2017 وأغسطس/ أب 2018 وثقت منظمة هيومان رايتس واتش 230 حالة من الاختفاء القسري في مصر.

كما وثقت نفس المنظمة قيام المملكة العربية السعودية، وقد جرأها على ذلك هذا الربيع الجديد من السلطوية والاستبداد، بقمع كل أشكال النشاط المدافع عن حقوق الإنسان، وبشكل خاص قمع النساء الناشطات في هذا المجال.

   مهما كانت تلك الأنظمة السلطوية تدميرية وقمعية ووحشية، ليس بإمكان أي منها إعادة الجني إلى القارورة ووقف عملية التغيير

إلا أن الاستبداد المتطرف للدولة العربية سارع في تفكيكها وتآكلها وانهيارها. حيث نجم عن تلك الإجراءات التي اتخذتها الدولة العميقة الدخول في حقبة من الرعب والإرهاب لم تنج من تداعياتها الدولة نفسها.

 

فقد باتت الحروب الأهلية وهجرة رؤوس الأموال والبشر، وانعدام الثقة في المستقبل والفقر المدقع من أهم سمات هذا الفصل الجديد من تاريخ منطقة الشرق الأوسط.

من شأن هذا التدمير الذاتي للدولة العربية العميقة أن يتيح الفرصة لرؤية سياسية جديدة ولتصور سياسي جديد، يمكن تطويرهما من خلال النضج السياسي لقوى الربيع العربي ومن خلال الدعم الدولي.

محلياً، يتمثل أحد العناصر الأساسية للنضج السياسي في بناء التحالفات بين مختلف الانتماءات العقائدية والعرقية.

ينبغي على قوى الربيع العربي أن تدرك أن تلك الثورات لم تتشكل من لون واحد ولم تكن حكراً على جماعة واحدة.

بل كان الربيع العربي جهداً جماعياً انطلق لتحقيق الصالح العام للشعب العربي، وكان يستمد قوته وحيويته من ذلك التنوع ومن ذلك الشمول.

ثمة حاجة للتعبير عن الروح التعددية والشمولية لتلك الثورات في الشوارع من خلال الإجماع وبناء التحالفات على المستوى السياسي.

وأما خارجياً، فينبغي على المجتمع الدولي إدراك أن الربيع العربي لم يكن مجرد لقطة خاطفة لا تتكرر.

بل لقد نجم عن الربيع العربي، بفضل التصور والشعور الجديد الذي ولدته تلك الانتفاضات، تحول في المشهد السياسي والمجتمعي في العالم العربي.

ونتيجة لذلك باتت الأنظمة الاستبدادية أكثر هشاشة وأكثر رعباً من أي وقت مضى. ولا أدل على ذلك من أن حظر النظام المصري للسترات الصفراء (كما ورد في صحيفة الغارديان البريطانية)، وذلك على إثر الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا، يكشف عن مدى ما تعيشه تلك الأنظمة من حالات ارتياب وشعور بانعدام الأمن، وهو الأمر الفارق بين ما كانت عليه الأنظمة السلطوية في المنطقة ما قبل الربيع العربي وما بعده.

على كل حال، مهما كانت تلك الأنظمة السلطوية تدميرية وقمعية ووحشية، ليس بإمكان أي منها إعادة الجني إلى القارورة ووقف عملية التغيير.

وما من شك في أن قيم وأعراف ومصالح اللاعبين الدوليين إنما تتحقق على أكمل وجه من خلال دعم عملية التغيير في الشرق الأوسط.