أصنام تركيا
بقلم/ د. حسن شمسان
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 23 يوماً
الثلاثاء 20 إبريل-نيسان 2010 09:56 ص

اضطرتني بعض التعليقات على مقالي السابق، [ العثمانيون الجدد]، وبعض ما اطلعت عليه من قراءات لمواقف أردوغان المشرفة أن أعقب بمقال آخر، يوضح بعض ما التبس على البعض عن قصد أو عن غير قصد؛ فالإنسان بطبعتيه، يستعجل الأمور كما قاله عنه خالقه ومولاه: (وَكَانَ الْإنْسَانُ عَجُولاً) (الإسراء:11)؛ لأنه دائما يتغافل عن سنة المرحلية, مما يضطره ذلك إلى الحكم على الأشياء نتيجة تسرعه ونظرته المتعجلة بأحكام خاطئة، وبوجهات نظر ينقصها الكثير من التامل, وبالتالي يقرأ المواقف قراءات خاطئة أو مبنية على كثير من المغالطات.

فأقول لمثل هؤلاء المتعجلين: إن الله بقوته وقدرته خلق الكون في ستة أيام، وقد كان باستطاعته أن يفعل ذلك في ساعة من نهار، فأمره بين الكاف والنون. (وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ), لكنه جلّ وعلا تقدست أسماؤه وصفاته التي منها (الحليم، والصبور)، أراد أن يلقننا أو يعلمنا دروساً في المرحلية والتدرج، والحلم والصبر، وعدم استعجال الأمور, لهذا كله سن الله للبشرية دروسا في المرحلية عند خلقه للكون في ستة أيام؛ حتى لا يبنون مواقفهم على التسرع والاستعجال فيحصل لهم الزلل.

وقد رأينا كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالكعبة المشرفة، وأصنام حكومة قريش - إذا جاز لي التعبير - آنذاك تحيط بها من كل ناحية، فقد كانت قرابة ثلاثمائة صنم أو تزيد. وهذا درس آخر من دروس المرحلية التي يجب علينا أن نلم به يعلمه لنا رسول البشرية - صلى الله ليه وسلم – يحضنا فيه ويلفتنا إلى أهمية المرحلية والتدرج في التغيير، وعدم استعجال الأمور، فلم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم – وصحبه الكرام راضيين عن مثل ذلك الوضع, بيد أنه لا بد أن يقبل على علاته، وأن يمر بسلام فالمرحلة تحتمه, حتى تقوى شوكة الدولة المسلمة وحكومتها، وحتى يحين وقت ذلك، لا بد أن تصير الأمور كما يريد لها الله أن تكون, ومن مشيئة الله التزام سنة المرحلية في التغيير والتي بينها لنا في خلق الكون.

وقد رأينا كيف كان مصير تلك الأصنام بعد فتح مكة. فهل يصح القول عن سلوك الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم في العصر المكي, وهو عصر ضعف الدولة المسلمة, إن الصحابة كانوا منفتحين وكانوا يعبدون (آلهة) حكومة قريش؟ أو نتهمهم بمحاباة قريش؟ وحاشاهم ذلك ولكنكم قوم تستعجلون.

وبناء عليه فإنه يصبح من الظلم وعدم الإنصاف, بل ومن الإجحاف أن نجمع بين مواقف (أردوغان)، الذي ترأس الحكومة الوليدة، وأوثان الحكومات السابقة والمتعاقبة، المتعلقة في قضايا التطبيع والعلاقات الاقتصادية والسياسة التركية مع إسرائيل وأمريكا والغرب لنجعل مواقف أردوغان الأسطورية والتزامات سابقيه في بوتقة واحدة.

وهو ما يراه بعض المتابعين لمواقف أردوغان, وبعض ممن يحاول دس السم في العسل,وإني لأرى مثل هؤلاء الكتاب والمحللين والناقدين, مثل من يحاول أن يغطي ضوء الشمس بغربال,حيث قرؤوا مواقف أردوغان قراءة مبنية على كثير من المغالطات من ناحية، ومن ناحية ثانية تجد قراءات أو وجهات نظر أسقطت من حسابها المرحلية, وهو ما يفهم من مقال بندر الشويقي الذي كان بعنوان: (وجهة نظر مختلفة حول موقف أردغان) يقول في بعض منها: " فموقف أردوغان سوف يبقى علامةً فارقةً في لغة الخطاب مع الصهاينة. غير أني مع فرحي بمنظر (بيريز) الذليل أمام هيبة أردوغان، إلا أني أعجز عن تجاهل الموقف التركي المعلَن من دولة اليهود، فأرجع لأقول: إن نشوتنا بموقف أردوغان إن طغت على عقولنا، وتجاوزنا بها حجمها الحقيقي، فسوف تنسينا حقيقةَ أن تركيا لاعبٌ رئيسٌ في مسيرة التطبيع مع اليهود التي انخرطت فيها جميع دول المنطقة بلا استثناء" .

وإني لأرى في هذا الكلام كثيراً من التجني وعدم الإنصاف لأردوغان وحكومته الوليدة، وما يتحدث عنه الكاتب من موقف أردوغان تجاه إسرائيل والغرب عموما, كان التزامات حكومات علمانية سابقة ومتعاقبة كانت قد حكمت تركيا, فلِمَ نحمل أردوغان أوزار سابقيه؟ وهل من العقل والمنطق أن نطلب منه أن يغير كل تلك الاتفاقيات، أو يهدم كل تلك الأصنام في ساعة من نهار دون النظر في عواقب الأمور؟ وهل هذا من العدل والإنصاف في شيء؟ ولِمَ ننظر إلى الأمور ـ غالباً ـ بمنظار قاصر نغلب فيه لغة العواطف على لغة الدين والعقل والمنطق, لنقرأ بعين واحدة فقط ونغمض الأخرى؟ وما يقرأه كل عاقل بعين بصيرته في تصرفات أردغان تجاه معالجة الوضع القائم, إلا حكمة القائد المحنك المتصبر والمتبصر في استمرارية التعامل المرحلي الصحيح في معالجة التزامات الحكومات العلمانية السابقة عليه.

ثم أقول للمتابع هب أن (حكومة أسلامية) قفزت فجأة في أمريكا، وتسلمت مقاليد الحكم، هل من واجب هذه الحكومة (ما دامت إسلامية) أن تستأصل شأفة إسرائيل من الوجود في ساعة من نهار، وتضرب بكل الاتفاقات عرض الحائط؟ أو تقوم بتفصيل (أغطية الرأس والبنطلونات للكاشفات), على غرار ما فعلته طالبان/ أفغانستان!!! أم أنه من وجهة نظر العقلاء المتبصرين لابد وأن تخضع المعالجات لسنة المرحلية في التغيير.

وما حصل في تركيا هو نفس الأمر، فقد استطاع حزب الرفاه سابقا والعدالة لاحقا أن يسيطر على الأوضاع وأن يقفز إلى سدة الحكم في (تركيا العلمانية) التي كانت تربطها علاقات قوية ومديدة مع أمريكا وإسرائيل والغرب عموما، والذي حاربت الحجاب الإسلامي حرباً شعواء لا هوادة فيها, حربا لم تسلم منها حتى زوجة أردوغان نفسه، ولا يجهل ذلك أو يكابر فيه إلا ناقم, فهل يصح أن نطبق على الحكومة الآنية وليدة الساعة المثل: (أحلبي وإلا السكين)!!

أين العقل والمنطق عندما نطالب الحكومة الحالية بحل أو نقض جميع التزامات الحكومات العلمانية السابقة، من قطع العلاقات مع إسرائيل وأمريكا والغرب، وما لم يحصل ذلك فمواقف أردوغان ضرب من التمثيل ومحاولة وضع قدمه له في الشرق، كما هي الأخرى في الغرب بحسب ما يزعمون ويظنون. وقد جانبوا الصواب حكما وتحليلا، ولو كان ذلك كذلك لاختار أردغان الطريق المعبد والأسهل والأسرع؛ وهو أن يكون باراً ومطيعاً لإسرائيل الابن المدلل لأمريكا وحلفائها, حينها فقط سيرضى عنه الجميع (المغرب والمشرق)، ولن يحتاج إلى أن يضع قدماً في الغرب وأخرى في الشرق.

فلِمَ هذه الأحكام القاسية الفارغة من كل مضمون والتي لا تستند إلى دين أو حتى إلى منطق رصين؟ فالذي يحاول حجب ضوء الشمس بغربال ما أراه إلا واهماً, أما مواقف أردوغان الشجاعة والمسئولة ستظل أسطورة القرن الـ(21)، وما بعده من القرون وأنشودة الشعوب المفضلة، بجانب أنشودة الوطن حتى يأتي من ينافسه في ذلك ويقوم بمواقف مماثلة من الزعماء في العالمين العربي والإسلامي.

فيا من قرأتم مواقف أردوغان بشكل منقوص ومغلوط، عليكم ان تراجعوا قراءتكم؛ فليس له شأن باتفاقات سابقيه، وما ينبغي له أن يهدم الأصنام الجاثمة منذ زمن، في لمحة بصر أو ارتداد طرف، وليس مطلوب منه نقض الالتزامات بقرار متسرع غير مأمون العواقب, ولعله هو نفس الفخ الذي وقع فيه سلفه أربكان أو أوقعه فيه المتعجلون من قبل؛ فهل يريدون من أردغان أن يقع في نفس الفخ من بعد؟, فهناك أعداء متربصون في الداخل التركي، وفي خارجه كذلك.

لقد كان أردوغان أكثر وعياً وأرقى تعاملاً مع المرحلة؛ حيث استطاع بكل اقتدار أن يقيم نسكه وترانيمه مع وجود الأزلام والأوثان، فهي سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. فها هو أردوغان يقيم نسكه بخشوع وها هو بهدوء وتبصر يسحب البساط من تحت الأزلام ومن غير ضجة أو ردة فعل, فلا ينبغي علينا ألا نغمض عيوننا عما قامت به وتقوم حكومة أردوغان الحالية من تغيير مرحلي متدرج، فها هي قد رفضت استعمال أراضيها وأجوائها لضرب العراق، وها هي قد ألغت المناورات السنوية التي كانت تقيمها مع إسرائيل، وها هو أردغان يترك مؤتمر دافوس ويتوعد بعدم حضوره مرة ثانية، وها هو يصرح في قمة (سرت) بأن تركيا لن تسكت إذا ما أصرت إسرائيل على ضرب غزة مرة ثانية، وها هي الآن تحاول أن تعدل في الدستور العلماني.

مشكلتنا دائما هي أننا نستعجل الأمور أو ننظر إليها من زاوية واحدة، وبعين واحدة وقد تكون قاصرة جداً عن قراءة المواقف وتحليلها بحسب الظروف والسياقات والمقامات. وهذا هو ديدن الناقمين الذين يرون بنظرات سوداوية, فلا يرون إلا الجانب المظلم في حياة تركيا, الذي ليس لأردوغان وحكومته فيه ناقة ولا جمل، وهو منه براء براءة الذئب من دم يوسف.