الدولة المدنية والدينية .. سيان
بقلم/ د. حسن شمسان
نشر منذ: 13 سنة و 6 أشهر و 8 أيام
السبت 07 مايو 2011 07:02 م

لا يمكن لأي دولة تدعي المدنية أو هي قائمة على أسسها بالفعل إلا أن تولد من رحم إسلامية؛ بغض النظر عن ديانة أهلها سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية أو حتى كانت بدون ديانة، لهذا أنا لا استغرب قول من قال: "رأينا في الغرب إسلاما بدون مسلمين، وفي الشرق مسلمين بلا إسلام؛ فهذا القول مغزاه يهدف إلى ما قدمت إليه؛ من أنه لا يمكن أن تكون هناك مدنية وحضارة وعدالة ومساواة وأمن وأمان إلا في ظل الإسلام، وفي قوانين أو شرائع تسن من روح الإسلام؛ فأينما ذكرت العدالة ذكر الإسلام، وأينما ذكرت المساواة ذكر الإسلام، وأينما ذكرت الحرية ذكر الإسلام، وأينما ذكر الأمن والأمان ذكر الإسلام، وأينما ذكر العيش الهنيء والرغد ذكر الإسلام، بمعنى أدق أينما ذكرت الدولة المدنية بكل مقوماتها وأسسها لا يمكننا إلا أن نذكر الإسلام؛ لهذا لخص ذلك القائل هذه الحقائق كلها وغيرها في عبارته، "وجدت في الغرب إسلاما بلا مسلمين"، لأن هذا القائل يدرك تماما أو يفهم الإسلام، كما فهم ما رآه من أسس قائمة في تلك الدول المدينة أنها من أصل الإسلام ومن شرعه الذي فهمه المسلمون أقوالا لا أفعالا وشعائر لا شرائع.

وإذا ما تأملنا في أسس الدولة المدنية، فإن هذه الأسس لا تبعد قيد أنملة عن أسس الدولة الدينية الإسلامية، وإذا كان الغربيين سواسية في ميزان العدالة والمساواة؛ بمعنى أنه يمكن لأي فرد مهما كانت طبقته الاجتماعية أو ميزانه الاجتماعي صغيرا أن يقاضي أعلى سلطة في الدولة، وهو رئيسها أو رئيس وزرائها وما دون ذلك، وإذا كان في الدولة المدنية الغربية ومن خلال قوانينها وتشريعاتها العادلة يمكن لأي فرد مهما قل شأنه - اجتماعيا - أن يقاضي أكبر رأس في الدولة؛ فإنه في أسس الدولة الدينية (الإسلامية) يمكن لهذا الفرد نفسه وبحجمه الاجتماعي أن يقاضي خليفة المسلمين نفسه؛ حتى لو كان يدين بغير دين الإسلام، نعم الخليفة نفسه؛ لا واليا من ولاته؛ والوالي في خلافة الإسلام؛ يعادل رئيس الدولة حاليا؛ لهذا عندما أقر الشيخ القرضاوي قائلا: إن المصريين سيقيمون دولة مدنية لا دينية؛ لم يبعد عن هذا السياق البتة، فالدولة المدنية هي ما تنشدها الديانات السماوية - الإسلام تحديدا -

وإذا كان من أهم أسس قيام الدولة المدنية العدل والحرية والمساواة، فإننا لن نجد هذا إلا في الدين الإسلامي، الذي من عدله ومساواته أن يقف خليفة المسلمين علي - رضي الله عنه وكرم الله وجهه - مع يهودي وفي منزلة واحدة؛ حتى في الألقاب، هل رأيتم دينا أعدل من دين الإسلام (!) وهل رأيتم دينا حضاريا أفضل من دين الإسلام (!)، أما عدله فنهمه من آيات كثيرة أقتصر هنا على ذكر واحدة منها، وهي قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة8). وهذه القوامة بالقسط والعدل ليس بين المسلمين وبعضهم ولكن بين المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى. أما الحضارة - التي هي من أسس بناء الدولة المدينة - فنفهمها من قوله عز وجل: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (الرحمن:33)والسلطان هو البينة والعلم، ودين هو دين العلم ويفضل فيه العلماء على غير العلماء؛ لا شك أنه هو دين الحضارة، فليست هناك حضارة من دون علم، كما أنه بالأحرى لا حضارة بدون أخلاق؛ والدين الإسلامي جمع الشيئين معا، فهو يدن العلم ودين الأخلاق وبالتالي هو دين الحضارة الكاملة التي لا نقص فيها.

أما الحرية - التي هي من أهم أسس الدولة المدينة - فنتفهمها من قول الله عز وجل: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) (النساء:75)؛ فدين مثل الإسلام يجعل التضحية بالنفس مقابلا للحرية، فإذا كان انتزاعها من سالبيها يحصل بالتضحية بالنفس ويقر الإسلام ذلك فإنه لا يضاهيه دين، ودولته لا تضاهيها أي دولة مدنية مهما بلغة مدنيتها وتباهت بها؛ فإذا كانت الدولة المدينة – مثلا- تتباهى بالحرية، فإن الإسلام جعل هذه الحرية مقابلة للحياة، وذلك بفرضه القتال الذي فيه تسفك الدماء، ويتخذ فيه من المقاتلين شهداء؛ كل ذلك في سبيل الحصول على مبدأ الحرية الذي استلبها الطواغيت من شعوبها، وفي حال عدم وجود القوة؛ بمعنى أن الطواغيت كانوا أكبر قوة وأشد بأسا وأكثر عددا؛ فإن هذا الدين العظيم لم يرتض للمتطلعين إلى غد أفضل والى دين أفضل مثل دين الإسلام؛ أن يضلوا في وطن لا توجد فيه حرية اعتقاد؛ بل عليهم البحث عن الدولة المدنية التي يوجد فيها حيز كبير من الحرية، وهو ما نتفهمه من قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (النساء:97)، فالآية هنا تفهمنا - فيما تفهم - أن السعة هنا معنوية أكثر منها مادية تتعلق بالجغرافيا؛ فالوطن أو الدولة في المقياس الإسلامي ليست ذات الاتساع من حيث المبنى؛ بل هي ذات الاتساع نفسه لكن من حيث المعنى، فتكفينا أرض ضيقة مبنى واسعة معنى؛ لهذا فهم رسول الإسلام إلى قائد الروم عندما قال له - ردا على تساؤله ماذا جاء بكم ؟ - جئنا لنخرج العباد من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" والضيق هنا هو استعباد الناس وسلب حرياتهم التي ولودوا بها، والسعة هي حرية الاعتقاد، وكأن هذا القائد فهم أو أدرك أين تكمن السعة وأين يكمن الضيق، لهذا جاء قول عمر المشهور: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار"، فبالله عليكم هل رأيتم دينا يقدس الحرية ويكبرها أفضل من دين الإسلام إلا يكفي أنه جعلها مقابلة للحياة. 

وانظر دقة التعبير القرآني عندما تحدث عن الوطن / الدولة باستخدام لفظة (ارض)؛ إذ استعمل هذه الأخيرة بدلالة الدولة أو الوطن في سياق الحرية؛ وكأن يقول لنا إن الأرض كلها من حيث مساحتها جغرافيا لو كانت وطنا للإنسان، ولم يكن فيها قدر كبير من الحرية؛ فأن عليه تركها والهجرة منها فورا، فالغاية في قيام نسبة الحريات لا عرض المساحات، وأي أرض – أو وطن - مهما بلغ حجمها أو عرضها - ليست بذات قيمة؛ عندما تكون مفرغة من الحرية التي تساوي الحياة برمتها، وإذا كانت الحرية تساوي الحياة - التي هي أعز شيء لدى الإنسان - فماذا يغني عنه امتداد مساحة التراب والحجر والشجر (!) أما الأمن من الخوف والأمن من الجوع اللذان هما من أسس الدولة المدنية المهمة، فإننا نتفهمهما في قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم:35)، وقول عز وجل: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37). فإذا كانت الآية الأولى قد تحدث عن الأمن؛ فأن الثانية تحدثت عن الأمن والزق؛ وهذان الأمنان؛ الأمن من الخوف والأمن من الجوع هما من أهم مقومات أو أسس الدولة المدينة أيضا، وهناك آيات كثيرة تناولت هذا الجانب كما تناولت الجوانب الأخرى التي سبق الحديث عنها، بيد أن مقام المقال لا يتسع لهذا فاكتفينا بأمثلة بسيطة لبيان أن الدولة المدينة والدينية (الإسلامية) سيان، وأن الأولى لا يمكنها أن تقوم إلا أن تولد من رحم الثانية.

وبناء على ما سبق فإنه بإمكاننا الآن إدراك الفارق الكبير بين الدول العربية والإسلامية وبين الدول الغربية، وهذا الفارق يكمن في أن الثانية طبقت قوانين وشرائع الإسلام على أهلها، فحكمت بالعدل، وجعلت هذه القوانين والشرائع الناس سواسية - رئيس ومرؤوس - وجعلت لحرية الناس مكانة هي في غاية الأهمية، ووفرت لهم أمنهم وما هذا الاهتمام الذي تجاوز الحدود والقيود في متابعة تنظيم القاعدة إلا جريا وراء توفير الأمن لبني جنسها، وما هذه الحروب الطاحنة بين الشرق والغرب إلا جريا وراء توفير الرزق لبني قومها، وكل هذا منتفٍ تماما في دولنا العربية الإسلامية، بل إن أموالنا للأسف تستثمر في الغرب، عندما نهبت هذه الأموال من شعوبنا وقيدت ضمن أرصدة حكامنا في الخارج فاستفاد منها شعوب الغرب، وعصب على بطونهم شعوب الشرق من الجوع جراء نهب هذه الأموال، فهل تيقنتم - بعد – مغزى قول القائل: "رأيت في الغرب إسلاما بدون مسلمين، وفي الشرق - أي بلاد المسلمين - مسلمين بلا إسلام (؟) إن هذا القائل قد فهم أن الإسلام يكمن في السلوك وفي الشرائع ولما لم يجد من ذلك شيئا في واقع العرب والمسلمين اضطر إلى أن يتفوه بمثل هذه عبارة تلخص واقع الأمة المسلمة التي نرى الإسلام ومدنيته وحضارته وعدله وحريته وأمنه وقوته في الأقوال لا الأفعال، وفي الشعائر لا الشرائع.