أن تكون حليفا لحفاري قبرك الخاص
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 14 سنة و شهرين و 18 يوماً
الجمعة 27 أغسطس-آب 2010 01:21 ص

قبل 10 سنوات، لم تكن لتسترعي حادثة قتل في حوث أو سفيان انتباه أحد. كان القتل منتج تقليدي لثقافة اجتماعية متجذرة ونزاعات صغيرة متوارثة ضمن دولة ضعيفة. لكنه بات الآن يأخذ طابعا سياسيا وطائفيا بارزا ومقيتا.

صحيح لم يعد ممكنا التطرق إلى الحوادث مهما كانت صغيرة وهامشية، خارج إطار شبكة لعينة من التحالفات المعقدة والآخذة بالازدهار في إطار ذلك الفضاء الملوث والمسموم. لكن يجب أن نتوخى الدقة والحذر، وكمية أقل من التخمينات والمبالغات السخيفة والتحريف.

وإذا كانت الوظيفة التقليدية لوسائل الإعلام والمحللون نقل وتفسير الوقائع والحقائق بعد حدوثها، فقد صارت الوقائع والحقائق في اليمن تجسيد حرفي لما تذهب إليه وسائل الإعلام ومحللوها الغارقون في دور العرافات القادرات على النفاذ إلى مكنونات الأشياء قبل حصولها. إنهم، والحق يقال، بارعون في التنبؤ بالمستقبل ورسم السيناريوهات. يتحدثون عن الحوثي وذهنيته الإستراتيجية كلية القدرة، في غمرة احتفالات الشماتة الغبية لنخب سياسية لا تعرف التمييز بين الإحباط والذكاء، بين المقامرة والتغيير.

إننا نغالي في تقييم العقل السياسي للحوثي. وننشر مناخا نفسيا مستسلما في محيط صعدة والمناطق المضطربة. باختصار نحن معشر الصحفيين نلهم حفاري قبورنا بدأب وحماس. فالصحافة هي الدرب الذي على التواقون للنجومية أن يسلكوه.

أظنني فكرت مؤخرا كيف أن عبدالملك الحوثي يستوحي نسخته المعلنة من الإعلام، فيحاول الظهور ليس كما هو عليه، بل كما يفترض أن الإعلام يظنه كذلك. فحينما تكرر الصحافة وصفه بالزعيم فعليه أن يجهد ليبدو زعيما وفق تصوره للحالة التي يجب أن يكون عليها الزعماء: كثيرو التحفظ، محتجبون عن الأنظار، مترفعون، محاطون بالأسرار.

وحين يغمز، محبوه ومبغضوه، بأن جماعته شديدة الشبه بحزب الله، فإنه يستعذب هذا التشبيه، ويبذل ما في وسعه ليحاكي شخصية ومظهر وحركة نصر الله، دون أن يصرف كثير من الوقت للتأمل في المعطيات الموضوعية، والسياق الجغرافي والتاريخي الذي صاحب نشوء حزب الله. حتى الذكاء الذي يقال أنه يتسم به يحاول إثباته كل الوقت.

يقال أنه مظلوم فينتقي خطابا يجسد دعاوى مظلوميته. يقال أنه قوي وفتاك ولا يقهر، فيقدم خطابا يعكس القوة والتحدي والعناد. يقال أنه يتمتع بأخلاق الحرب، فيتباكى على المدنيين، يقال بأن مطالبه غامضة فيمعن في الغموض، يقال أنه يريد الإمامة فيتصرف في صعدة كإمام ناجز يجمع الزكاة ويفصل في أمور الناس. يقال أنه جمهوري ويلتزم بالنظام والقانون، فلا يتردد عن الإعلان بالتزامه بذلك.

يقال بأنه رجل سلام فلا يتوانى عن الدعوة إلى وقف الحرب، يقال بأنه محارب باسل، فيهدد بغزو محافظات أخرى. يقال بأنه لم يتنصل عن ارث شقيقه حسين، فيغالي في تشبثه بالشعار، ولا يحمر خجلا من الدفاع عنه. وحين يقال أنه براجماتي يعرف اللعبة السياسية، فإنه لا يستنكف عن إرسال إشارات استغاثة مبطنة إلى العالم الذي يزعم أنه ينازله في جبال صعدة، فيلمح إلى جرائم الحرب مستجديا العدالة الدولية، يخاطب بان كي مون، ويغازل المنظمات الدولية (الصهيونية).

وهكذا دواليك. باختصار، عبدالملك الحوثي، في جانب كبير من نسخته المعلنة، هو تجسيد لما يكتب ويقال عنه. الأصيل فيه، ربما، هو هذا المزيج كله من المتناقضات. وشيء آخر: النزعة إلى العنف، والرغبة الجامحة في التحكم والسيطرة.

يصدق هذا على زعيم الحوثيين صدقه على جماعته.

بعد تهجير الشيخ بن عزيز من سفيان وتفجير بيته، راح الخبراء -الثاقبون بالتأكيد- يزيحون الستار عن الخطوة الكبيرة التالية للحوثيين: العصيمات وآل الاحمر. فليكن؛ العصيمات العصيمات، فكر الحوثي. الاثنين، قيل ان مكتب الحوثي توعد حسين الأحمر بمصير ابن عزيز. الآن أغمضوا أعينكم، تنفسوا بعمق واكتبوا السيناريو القادم. بروباغاندا مجانية لحفاري قبور منهمكون في إعادة إنتاج تاريخ سياسي "متنكر على أنه هدف الله، فاضحا نفسه لمتفرجين تحت السن"، بتعبير الروائية الهندية أروندهاتي روي.

نكتب وفي حسباننا سؤال واحد فقط: ما هي الطريقة المثلى لإظهار السلطة فاشلة ومهزومة وصاغرة.

في السنوات القليلة الماضية استشرى في اليمن مزاج سياسي "كلبي"، عدمي لا يأبه لشيء. يوجد هذا المزاج في أوساط الموالاة مثلما في أوساط المعارضة بأشكالها. وهو يمتلك حضور قوي وعميق في مجتمع الصحفيين. الكلمة الملائمة لوصف نزعة الاحتقار هذه والضحالة واللامبالاة هي "الفاشية". فكل شكل من أشكال الاحتقار، إذا تدخل في السياسة، فإنه يمهد للفاشية أو يقيمها، على حد تعبير ألبير كامو.

إنها نسخة يمنية ناجزة من "الفاشية الأبدية" التي تحدث عنها الكاتب الايطالي امبترتو إيكو في مقالة أشرت إليها ذات مرة. إنها الحالة التي "تنشأ من الإحباط الاجتماعي، وهذا ما يُفسّرُ لماذا يكون الملمح الأكثر نموذجيّة للفاشيّة التاريخيّة هو نداء الإحباط". وفي مقال عميق سرد ايكو 14 نقطة للتعرف على ذوي القمصان السوداء، أو ما أسماها "الفاشية الأبدية". واستشهد في نهايتها بكلمات الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في الرابع من نوفمبر، من العام 1938، حينما قال: "إذا كفّت الديمقراطيّة عن التقدم إلى الأمام، كقوةٍ حيّة، باحثةً، ليل نهار، نحو ما هو أفضل للأكثرية من مواطنيها فستنمو الفاشية قويّةً في أرضنا".

أتذكر أنني قرأت عن دوافع الحقبة التي كان ينتسب فيها الشبان للحركات الفاشية في أوربا: "ليس بدافع الإيذاء، ولا بدافع الوصولية، بل لفرط الذكاء". وأظن أننا نفرط في التظاهر بالذكاء والحداثة حينما نتحالف مع "حفاري قبورنا"، فأن تكون حداثيا جدا وذكيا "معناه أن تكون حليفا لحفاري قبرك الخاص"، والتعبير لكونديرا طبعا. يخطر ببالي أيضا ما كتبته سوزان سونتاغ عن النزعة المعاصرة لتذوق التطرف في الفكر والفن.

لست ضد الحرية اللامتناهية للصحافة، لكني ضد اللانزاهة والتحيز المدفوع بالشماتة والكراهية للسلطة، التصرفات التي تذهب عوائدها لأمراء الحرب رأساً.

قبل سنة، كتب جاكوب ويسبيرغ مقالة في الـ"نيوزويك" عن افتقار شبكة "فوكس نيوز" الاخبارية للنزاهة والعدل في تغطيتها لاخبار ادارة اوباما، وعن تحريف الاخبار ايديولوجيا. يقول ويسبيرغ: "إن ما يميز الصحافة الأمريكية ليس الحرية بل تقاليد الاستقلال عبر قرن من الزمان، أي إنها تخدم المصلحة العامة وليس مصلحة الأحزاب ولا تعمل لأجل الإقناع أو مجموعات الضغط".

خذوا هاتين الفقرتين من مقالة ويسبيرغ الغاضبة: "إن النموذج الأسترالي البريطاني للإعلام المسيس الذي طبقه مردوخ في فوكس نيوز ليس أمريكيا أبدا لدرجة أنه يستمر في إنكار أنه يفعل ذلك في الوقت الذي يمارسه فيه. وبالنسبة إلى مردوخ وآيلز وشركائهما فإن "النزاهة والتوازن" كذبة ضرورية، ذلك أنهم إذا اعترفوا أن أخبارهم محرفة ومشوهة عن سابق إصرار فإن ذلك يعد خرقا للفهم الأمريكي لدور الإعلام في الديموقراطية وفكرتنا عما تقوم عليه النزاهة والموضوعية".

"وسواء كانت المواجهة بين البيت الأبيض وفوكس مسألة سياسية تكتيكية، ومواجهتنا كصحافيين معها مسألة أخلاقية، فإن ظهور الصحافيين على شاشتها هو مصادقة على قيم البروباغاندا الخاصة بها ويساعد على تقويض دور المنظمات الإخبارية المشروعة"، كتب ويسبيرغ.

لا أدري إن كان استحضار مردوخ وفوكس نيوز هنا مفيدا للفكرة أم لا، كلما في الأمر أنني أردت التشديد على فظاعة تحريف الأخبار وأننا نمارس الكتابة بطريقة تفتقر للعدالة والنضج.

أعرف أن الصحافة غير المنحازة حلم، لكنها ليست فكرة طوباوية بالكامل. يمكن للمرء أن يتمتع بقدر عال من الموضوعية والأمانة والصدق.

من سوء الحظ أننا لم نجرب أن نفعل. بإمكان أحدنا أن يكون رائد تغيير، وحتى مناضلا، دون أن يضطر إلى لعبة الشماتة العمياء. القليل من النزاهة تكفي لإظهار الحوثي قبيحا، وتنظيم القاعدة بغيضا، والحراك مقامرا بلا بوصلة، بعد أن بددنا حيواتنا كلها في إثبات إلى أي مدى السلطة قبيحة وبغيضة ومقامرة فقدت بوصلتها أيضاً.

alalaiy@yahoo.com